أضف إلى ذلك، فإن تلك الأشعار تكاد تكون خلوًا أيضًا من أي مضمون ذي معنى يستحق التوقف عنده إلا في ما ندر! وأكبر دليل على ما ندعيه هو بعدها كل البعد عن ملامسة قضايانا المعاصرة الخاصة والعامة. مثال ذلك، القضايا اليومية والمعيشية التي تقلقنا وتقض مضاجعنا جميعًا. هي أشعار لا تعرض للقيم التربوية والحضارية والإنسانية! وفي مثل ذلك الحال، يجب أن لا نستغرب تحوَّل تلك الأشعار إلى ما يشبه البضاعة الكاسدة التي لا يسومها أحد، في سوق العرض والطلب، لأنها معزولة عن قضايا الناس وهمومهم! كذلك، هي أشعار لا تنم عن مخزون إبداعي من المعرفة الثقافية والمتغيرات الاجتماعية التي طرأت، على نحو غير مسبوق، حتى لكأنها تخلو من الثقافة في حدها الأدنى!
أما عن الغموض والخيال والتناص والترميز والأسطورة فحدث ولا حرج! فعلى سبيل المثال لا الحصر، يفترض بالنَّص المعاصر أن يتعامل مع المتلقي من وراء حجاب أو قناع. إذن من الضروري والأهمية بمكان أن لا يستجيب مثل ذلك النَّص للمتلقي من أول نظرة أو من أول لقاء، وذلك بغية أن يستثير فضوله، ويستحثه إلى التحليق في فضائه أو السباحة في مائه.
يقول الراحل محمود درويش:
"إن أردت الوصول إلى نفسك الجامحة
فلا تسلك الطريق الواضحة"(22)!
يريد أن يقول بصريح العبارة: لغة الشعر هي لغة الإشارة، في حين اللغة العادية هي لغة العبارة أي الإيضاح. مفردات الشعر، يجب أن تطمح لأن تشير أو تُلمح أكثر مما تقول أو تفصح، والنهي عن الإيضاح في الشعر وفي كل لون أدبي آخر، واضح! أما في ما يتعلق بالرمز والأسطورة، فقد نبَّه غير كاتب إلى ضرورة وأهمية توظيف الرمز والأسطورة في الشعر المعاصر. فالأسطورة أصبحت ضرورة من ضرورات الشعر المعاصر، حتى إن بعضهم بات يعدها من أهم مقومات ذلك الشعر، وقد ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، حين لم يعدوا الشعر شعرًا حقيقيًا إن كان خلوًا منها! لأنه بغيابها يفقد النص جماليته ووهجه وعمقه وسعة مداه. فالشاعر حين يوظف أسطورة ما فإنما يستحضر أجواء الانتصار والبطولة والحنين، إنه البحث عن بديل أكثر إشراقًا وجمالاً! ناهيك بأن الأسطورة تعدُّ مظهرًا حضاريًا وموروثًا إنسانيًا خالدًا، فيها مخزون زاخر، لا يقدّر بثمن، من الدلالات التي تحيل على أفكار وقيم إنسانية وصور شعرية ولوحات فنية، تكسب الأشعار عمقًا وتزيدها غنىً!
كذلك هما الغموض والرمز فإنهما مطلوبان ليس لذاتهما، إنما لأنهما يضفيان جمالاً ومتعة حقيقيين على النص الشعري! يقول أحد الكتَّاب "من أبرز الظواهر الفنية التي تلفت النظر في تجربة الشعر الجديدة الإكثار من استخدام الرمز والأسطورة أداة للتعبير"(23)! وحين نفتش عنهما في شعرنا المعاصر فلا نكاد نعثر لهما على أثر باستثناء قلة قليلة من الشعراء لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة! نذكر منهم مثالاً لا حصرًا: محمود درويش، وراشد حسين، وسميح القاسم، وحنا أبو حنا، وفهد أبو خضرة، وتوفيق زياد، ورشدي الماضي، وآمال رضوان!
نخلص إلى القول: ما كان أحرى بالشعر العربي المعاصر عندنا أن يلتفت إلى توظيف الرمز والأسطورة والغموض كأدوات فنية إبداعية، تمكِّن الشاعر من التعبير عن مواقف الفرد الأنا، والفرد الآخر، وقضايا المجتمع، وهموم الحياة، لاسيما في ضوء اتساع التجربة الإنسانية، وانكشاف الإنسان على الذات وعلى الآخر، في مختلف مجالات الحياة. يقول الراحل محمود درويش:
"سأكتب ههنا فصلاً
جديدًا في مديح البحر: أسطوريةٌ
لغتي وقلبي موجة زرقاء تخدش صخرة"(24)!
وفي الحق، لقد أحسن درويش توظيف الموروث الأسطوري في سياقات متعددة من أشعاره، وذلك بغية تفعيل مخيلة المتلقي وصولاً إلى دلالات تلامس الواقع الفلسطيني وتقاربه، ولا نقول تنطبق عليه! كذلك لا يفوتنا أن نشير، في السياق ذاته، إلى واقع ملموس لدى نسبة ليست ضئيلة من الشعراء والشاعرات عندنا (والأوْلى أن نطلق على بعضهم كتَّاب الشعر، لأن كلمة شاعر كبيرة ووقعها أكبر)! ونقصد بهم أولئك الذين ما زالت تجربتهم الشعرية في مراحلها الأولى، لكن، على الرغم من ذلك، فسرعان ما يخلع عليهم ثلة من أصدقائهم، من خلال حلقات أدبية عابرة بكلام عابر، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي لقب الشاعر/ة الكبير/ة! وقد يبلغ الشطط، أحيانًا، لدى هؤلاء المصفِّقين والمهلِّلين، حدًا يصبحون معه مثارًا للسخرية والتندر، حين يقومون بتمجيد السطحية أو يقررون، في نزوة طيش عبثية، بأن شاعرية نزار قباني أو محمود درويش تصغر وقد لا تساوي شيئًا أمام شاعرية أولئك الشعراء! متجاهلين حقيقة أن أولئك ما زالوا يدرجون حبوًا في معارج سلم الشعر(25)، وأنهم ما زالوا هواة في بداية مشوارهم الطويل، وهم بحاجة إلى الكثير الكثير من الزاد والتعب والوصب والقراءة، لأجل اكتمال الخبرة واختمار التجربة! وفي حقيقة الأمر، لا يعملون ما فيه الكفاية، لأجل تطوير أنفسهم حتى اكتمال نضوجهم الفني النابع من صميم قريحتهم! لنقرأ ما يقوله محمود درويش عن تجربته مع الشعر "أنا لا أشعر نفسي شاعرًا ناضجًا، لا أشعر بالرضا الفني وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره. صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية، ونجحت في قهر تناقضاتي ولكني لا أشعر بالرضا الفني"(26)! الشاعر الحقيقي هو الذي يسعى، دون كلل، إلى تطوير ذاته باستمرار وإلى اكتساب المزيد من الخبرة والتجربة والثقافة والقراءة!
وتلك سمة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال المثابرة على قراءة الشعر وحفظه، قديمه وحديثه، واكتساب الخبرة والمران. وقد يكون لهؤلاء الشعراء في الكلام الآتي أو ببعضه، أو القياس عليه في أقل تقدير، ما يمكن أن يرشدهم إلى جادة الشعر الصواب "اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطًا، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها... ومن كان خاليًا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قلَّ حفظه أو عُدِم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ"(27)! وقد سئل أدونيس ذات مرة: ما هو ديوان الشعر الذي يرافق أدونيس ولا يفارقه أنَّى ذهب؟ فأجاب: ديوان المتنبي شاعر العرب! يعني كلما كان الشاعر أكثر خبرة في الحياة، وغنى في مخزونه القرائي والثقافي والمعرفي والتخييلي كان أكثر قدرة وتمكنًا في إثراء شعره. يقول ت. س. إليوت "إن الشعر في أعماقه نقد للحياة"(28)! وأرى أن تلك الإشكالية منوط حلها بالمبدعين أنفسهم، وهم الشعراء، ولن يشفع لهم أي مبرِّر أو عذر! وقد يكون من المفيد التأكيد أنه طالما بقي الشعر على حاله لا يصدر عن عشق أو عن لذة حقيقيين، فمن الصعب أن يتحقق الإبداع والسحر، والجمال، شكلاً ومضمونًا، وإلا ما معنى القول المأثور "إنّ من البيان لسحرا"؟! يقول أحد الكتَّاب "فإن النص، وليد اللذة، يبدو من منظور الحداثة في لحظة إنجازه، إبداعًا وليس إتباعا، يقول ما لم نفكر فيه، ويجعلنا نفكر في ما لم يقله أحد"(29)!
ولنا أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر رشدي الماضي المسكون بهاجس الأسطورة على نحو لافت، وقد جعلها من أولى اهتماماته، واعتبرها رمزًا مضيئًا في أشعاره. فهو يوظف الأجواء التراثية وبضمنها الأسطورة، عربية وغير عربية في لبوس جديد، متجاوزًا حدَّ الاعتدال أحيانًا، كما يتجلى ذلك من خلال معظم أشعاره. وتلك سمة يمكن أن تعد ظاهرة بارزة في مشهد الحركة الشعرية المحلية، إذ "ينهض الشاعر في توظيف الأسطورة، عن وعي تام ببيئتها التي نمت فيها وترعرعت، للمرة الأولى، من خلال صياغتها مجدداً وتطويعها، وجعلها تتلاءم مع الفكرة المطروحة، ومن ثم إسقاطها على واقعه المعيش، ما يشي بعذوبة الخيال وعمق التصوير، ولسان حاله يؤدي تشخيصًا ذكيًا، كأنما يقول: إني أرى الماضي والحاضر والمستقبل، واقعاً وخيالاً، وأحمل رؤيا أو حلمًا، أسعى إلى تحقيقهما على أرض الواقع. ولنا أن نتصور أنه من غير المستبعد أن يترجم الشاعر أحلام يقظته في أشعاره تلك"(30)!
مع ذلك، وعلى الرغم مما لدينا، على أولئك الشعراء وتلك الأشعار، من تحفظات وملاحظات، فهذا يجب أن لا يحول دون تشجيعهم، والوقوف إلى جانبهم، وأن لا يردعهم ذلك عن مواصلة الطريق ومضاعفة جهودهم. إنما عليهم أن يغذوا السير أكثر فأكثر، ويضاعفوا تحسين أسلوبهم شكلاً ومضمونًا، وهم أكثر تصميمًا وإصرارًا على خوض التجربة، التي قد تمتد طوال رحلة العمر، حتى النهاية!
22. محمود درويش: لا تعتذر عمَّا فعلت، دار الريس للنشر، ص128-129، بيروت، 2004.
23. عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، مصدر سابق، ص195.
24. محمود درويش: لا تعتذر عمَّا فعلت، مصدر سابق، ص113-114. ونشير في هذا السياق إلى كتاب "الغصن الذهبي- The Golden Bough" لمؤلفه جيمس فريزر، الذي أصبح مستودعًا ذهبيًا لمجموعة من الأساطير بالنسبة للأدب الحديث.
25. الحطيئة، الديوان برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق نعمان طه، ص291، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1987.
فَالشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ
إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
وَالشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ
يُريدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
26. يوسي الفارلي، شيء عن الوطن، ص235، دار العودة، بيروت، 1971.
27. ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار الكتب العلمية، ص492، بيروت، 1993.
28. ت. س. إليوت : فائدة الشعر و فائدة النقد، ترجمة وتقديم الدكتور يوسف نور عوض، ص119، دار القلم، بيروت، 1982.
29. منذر عياشي: الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص129، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء و بيروت، 1998.
30. محمد خليل: أوراق نقدية، مقاربات نقدية في الأدب والنقد، ص210، دار الهدى للطباعة والنشر كريم، كفر قرع، 2014.
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]