يطوي عاشق الشجرة صفحة أخرى من حياته لكثرة ما يعتريها من ثقوب سوداء، لاسيما بعد أن خلت من كل فكر أو ثقافة أو أفق، وغلب عليها اللغو والضجر، حتى إنها باتت من مخلفات الماضي وآثاره البالية واستقرت في طي النسيان. وفي الحال كان يحاول أن يفتتح صفحة جديدة، ناصعة بيضاء علّها تمكنه من مواكبة روح الغابات العصرية، وإن كان قد أبقى على كوة صغيرة تتيح له، كلما دعت الحاجة أو الضرورة، أن يطل من خلالها على ذاكرته المحببة إلى قلبه لا إلى عقله!
استقر في روعه هذه المرة، بسرعة غير متوقعة ويمكن أن تثير أكثر من تساؤل، بأنه لا مندوحة له من مغادرة دائرته القديمة، فالنفس أمّارة بالمغامرة، كذلك هي الحياة! يردد من حين لآخر، ذلك الشعار المحبب إليه. لقد حان موعد بدء الرحلة، وهي توشك أن تبدأ في كل لحظة! هكذا كان يخاطب نفسه بمرح مشوب بالرهبة والرغبة في الوقت ذاته. ودون تردد، يُرى وهو يحزم أمره ويغادر المكان في رحلة مضنية رحلة البحث عن شجرته الخضراء، فالشجرة الخضراء لن تأتي لتبحث عن صاحبها! رحلة بدايتها شاقة وعسيرة لكن نهايتها قد تكون ممتعة ومثيرة، مع ما يرافقه من أحلام كبيرة وإن بدت للوهلة الأولى متواضعة لا تذهب بعيدًا لكنها، بكل تأكيد، توحي بالجمال والسعادة.
خرج لا يلوي على شيء باحثًا عن شجرته الخضراء، في غابة علها توفر لأفكاره الجديدة مساحة حرة صالحة، يمكن أن تحدث تغييرًا ما في شكل حياته وإن كانت في ذهنه بقايا ما تزال عالقة من ماض رمادي غير سعيد. انطلق متلفتًا إلى الخلف قليلاً، وهو يلقي نظرة الوداع للمرة الأخيرة، في حين كانت عيناه تحدقان في الأفق البعيد. وفي حين كان يغذ السير في طريقه، يحدوه أمل وعزم ولهفة تحقيقًا لما تصبو إليه نفسه وإذا بنهر يعترض طريقه، نهر يفصل ضفتيه الواحدة عن الأخرى، جسر يصعب عبوره! وقف صاحب الشجرة عند حافة النهر أمام الجسر محتارًا مترددًا بين إحجام وإقدام، لكن الرغبة لديه في العبور بادية عليه وتشجعه على تجاوزه إلى الضفة الأخرى. تراجع بعض الخطوات لكنه خجل من نفسه، وحين شاهد بأم عينه كيف ينتقل طائر النورس ويعبر من ضفة إلى أخرى خجل أكثر! تقدم هذه المرة ولم يتراجع!
ما إن وطأت قدماه أرض الضفة المقابلة حتى وجد نفسه واقفًا أمام دوحة غنّاء لها بوابات عديدة، وهي تعج بالحركة وتنبض بالحياة، حتى لا يكاد يتميز شيئًا من حوله. كان المشهد غريباً بالنسبة له لكنه جذاب ومثير إلى حد لا يقاوم. وحين لم يستطع مقاومة الإغراء أكثر قرر أن يدخلها دون تردد. بعد لحظات بدأ التجوال في الحديقة، فرأى فيها جدولاً من الفضة يزنّر خصرها والنور المنتشر من حوله شلالاً زاخرًا، يكاد يغمر شغاف قلبه ويخطف بريق عينيه بلا حدود. بادر من فوره وشرّع نوافذه في وجه شلال النور الزاحف من حوله في كل اتجاه. بدأ النور يتدفق بغزارة دون استئذان وبشكل لم يألفه من قبل. كان النور يتبعه كظله، فيتكسر قربه أينما حل أو نزل. إذ ذاك راحت أحلامه تطفو فوق سعادته الغامرة مترجمة إلى مشهد لم يتبلور بعد، لكنه ينبض بالحيوية ويبعث على الأمل، ناهيك بما انفتح أمامه من تجارب كثيرة وآفاق أكثر!
أطل الفجر شاخصًا، أمام ناظريه، في حين كانت الغزالة تتهادى أمامه متباهية بقرونها الذهبية. وعلى وقع زغاريد أعراس العصافير الصباحية كانت الأغصان تتمايل معانقة بعضها بعضا، أما الأزهار فراحت تتراقص في تناغم تام. إذ ذاك بدأت الأصوات والحركات جميعها تتمازج همسًا ولمسًا في انسياب يحاكي ألوان الجمال من حوله، حتى يكاد يشب عن الطبيعة. وخلال لحظات معدودة كانت ترتسم لوحة فنية خالدة، تتثنى في وسطها شجرة ساحرة، خضراء يافعة، فاتنة يانعة، وارفة الظلال والثمار. كانت تميد بها الأرض، كلما تحركت مزهوة بشموخها ناشرة عبق عطرها وإيقاع سحرها على من حولها، فتبعثهم إلى الحياة من جديد، يعانقهم النشاط والأمل وعشق الحياة. أما سحرها فعالم من التحولات زادها جمالاً على جمال، وخيالاً على خيال، بينما كان القمر البدر يحرسها وقد علت محياه ابتسامة عريضة، لها غير معنى!
جولة أو جولتان ويألف عاشق الشجرة المكان الجديد وتصبح الغابة هيكل تعبده ومحراب وجده وتأمله، فيها يرغب أن يكون وحيدًا متفردًا قريبًا من شجرة عصرية ناضجة أصبحت هي الأصل. طرقات العالم كلها تؤدي إليها، وكثر هم الذين يركضون خلفها لاهثين، أما الذين يعرفونها فقلة قليلة فالأشجار تتشابه!
ما إن لمحته الشجرة حتى بدأت تتمايل يمينًا ويسارًا مزهوة بقدها الرشيق، حاملة ثمارها الناضجة إلى جانب أحلامها الملونة، كان الإغراء كبيرًا جدًا حتى إنه لم يقدر على صده. أحجم عاشق الشجرة برهة ثم راح يستذكر مقولة: حيث توجد شجرة لا يوجد صمت! وقد بدأ الليل يولج صمته في صخب النهار! وزاد عليها: لا صديق ولا رفيق، لا أنيس ولا جليس! بينما كانت الشجرة تتظاهر بعدم الاكتراث لهذا المشهد، راحت تتسمع إليه بإصغاء مرهف الإحساس، فشعر، من فوره، بفراغ ما على غير مألوف عادة الطبيعة! وكلما خلا إلى نفسه كان المشهد يتشكل أمامه ويكتمل رويدًا رويدًا!
عند حافة الضفة المقابلة، وبينما كان عاشق الشجرة يطوِّف وحيدًا في أرجاء الحديقة تراءى له من كثب من جديد، طائر النورس وحيدًا وهو يمتع نفسه في مياه النهر، وحين يكفّ عن الغطس يقف ليتأمله مروِّحًا عن نفسه، معبّرًا عن قلقه الدائم وأساه الذي لا ينساه. ينتقل من مكان إلى آخر، ومن شجرة إلى أخرى قبل أن يستقر بجانب شجرته فيتعقبه الطائر بألحاظه ويسرح في تأمله أينما تحوّل أو تجوّل.
فجأة، تنبّه على تلك الشجرة وهي تومض له بتوهج لافت فإذا هي مختلف لونها وثمرها وكل شيء فيها عن سائر الأشجار، معتدة بنفسها مزدانة ككل شجرة بأصلها معجبة! اقترب منها واقتربت منه، والتقت العين بالعين، فحلّت الإشارة مكان العبارة، وأوجس منها خيفة، للنظرة الأولى، وإذا به يتسمّر في مكانه دون أي حراك. وفيما هو واقف يتأملها مفكرًا في نفسه وفي ما حوله حاول الوصول إليها، لكنه عبثًا كان يحاول. وفي لحظة إشراق سنحت تجلى فيها فيض من الروح الكلي قاده إلى نهر الأدب؛ منتهى الأرب!
هدّأ من روعه قليلاً، وتقدم منها أكثر وسألها إن كانت تقبل صداقته أو قربه؟ تأخرت في الإجابة لبعض الوقت، فما كان منه إلا أن سارع بتقديم طاقة من الشعاع قائلاً لها: إليك أيتها الهاربة والمسروقة مني! ثم راح الحب يهطل عليهما بغزارة من أعلى الرأس إلى أخمص القدم! وعاجلته بإشارة منها: الحب إذا ما اشتعل بسرعة، ينطفئ بسرعة، حبذا الانتظار!
تذكر الماضي القريب وقال في ذات نفسه: كم كنت أحن إليها إذا نأت، وأنأى عنها إذا حنّت، على قربها. وود في أعماق نفسه لو كان يعرف السبب، في حين راحت قيثارة قريبة تصعّد أنغامها التجريدية، وتقرع مسامعه فتوقظ الروح من هجعتها مجددًا!
وحين خلا بنفسه، مرة أخرى، كان يناجيها متسائلاً غير مصدق: حقًا، أأكون أنا عاشق الشجرة، وحدي أنا دون الآخرين؟! ودون مقدمات، بدأ يسترق النظر إليها بنظرات شبقية عارمة، وود لو يتسلقها! وبسرعة غير متوقعة، ودون سابق إنذار، كان صاحبنا قد طار وحط على أعلى قمة الشجرة، فاهتزت وطيَّرته وأبعدته عنها. كانت تهرب منه مثل موج البحر، كلما رام القبض عليها والإمساك بها أفلتت من بين يديه وهربت منه. لم يتراجع أو ييأس بل راح يتشكل من جديد قبل أن يكرر المحاولة تلو الأخرى، إلى أن أثمرت جهوده، ثم سكنت الشجرة بعد أن تحركت وهدأت بعد أن جمحت!
عادت الشجرة إلى سجيتها، وخُيّل إليه أنها تتبدى له في جسدها الذهبي العاري حيث راح يتكسّر النور على النور تمامًا مثلما يتكسر البلور على البلور، فرأى منها وسمع ((ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر))! لقد أشبهت حاله حال من أصيب بصدمة كادت تفقده صوابه. وما إن تعلق بسحرها الآسر حتى راح يطلق العنان لخياله وأحلامه، وظل يلاحقها كظلها إن سارت سار وإن توقفت توقف، منتظرًا منها ما تجود به من ثمارها كفاف يومه ليس أكثر. وبدأت تفتح أغصانها وتعرض أثمارها!
أحبها وسكن إليها إلى أن ألفها، ثم صار كمن يعرفها منذ أمد بعيد. وصارت الشجرة تدل على الغابة كما تدل القطرة على البحر، وبدأ ينتقل بين فروعها مداعبًا براعمها الفاتنة وأغصانها الغضة ويقطف من ثمارها. ثم راح يتفيأ ظلها الظليل، ويتنسم نسيمها العليل كأنما هي فتنة! وأخيرًا وجدت ضالتك! هكذا حدثته نفسه. وبينما كانت ترف أجنحة الخواطر وقد يقع الحافر على الحافر، دون أي تهامس أو تلامس، يبدأ السحر ينساب في أعضائهما في وضعية مغرية آسرة حمالة أوجه لكنها حقيقية ليس لها مثيل، القاعدة فنية والرأس إبداع! بعيدًا بعيدًا عن تلون الحرباء، وغدر الأفاعي وإسفاف الغباء وضمور العقل، وبيع الكرامة والشرف، دون وازع من ضمير! تقدم منها رابط الجأش، هادئ الأعصاب، واثقًا من نفسه ثم همس في أذنها دهشًا، عن مصدر الوحي، وباعث الإلهام ومحرك الإبداع الذي توقف منذ زمن، متسائلاً: تُرى هل حان وقت التعري؟ وإن كنت لا أستثني نفسي، فالأمة بأسرها قد تعرّت! أنا ما جئت إلى هنا إلا لأجلك سيدة الأشجار، فأنت منبع الجمال ومصدر الإلهام والأحلام!
مهما يحاول أحدنا أن يخفي عريه فهو واهم حقًا وما ملابسنا تلك التي تزيننا كما نظن واهمين، إلا أقنعة النفاق والجبن والذل والخنوع في أدنى مستوى لها! إنه فعل النعام لا أكثر ولا أقل! ردت عليه بأسرع مما تصور!
وران من حولهما صمت مطبق، وسكون متقلب، ما جعل الحضور غيابًا، والغياب حضورًا! بينما أخذ الدفء يتسرب إلى كل منهما، ثم ما لبث أن تحوّل إلى حرارة تدب في أعضائهما فتسري في الجسدين رعشة وفي الروحين نشوة، شوقًا إلى متعة الطيران! ولم يستفق من ذروة نشوته العارمة حتى كان لا يُرى إلا متشظيًا، يود لو أن أحدهم يجمعه ويركِّبه، ليعود منتصبًا من جديد في لعبة التلاشي الروحية العارمة!
مرت بضع دقائق قبل أن تجيبه قائلة: السؤال مِفتاح المعرفة وهو دليل إلى السائل والمسئول على السواء! لقد أخطأت يا هذا، كما يبدو، في العنوان ولكل شيء أوان. لكن الشيطان لا يخرِّب وكره!
يتظاهر بالانشغال بأي موضوع آخر، لكنه لا ينجح. يحاول بعد تردد أن يصل الحبل من جديد، ويقول: أظن أن مغادرة الصيف قد أوشكت على البدء إني أسمع خطوات الخريف قادمة من بعيد! وحين تجاهلته، تابع كلامه: الروح والجسد عاشقان قد يفترقان في كل آن! لم يرقها ما تناهى إلى أسماعها من كلامه، وشعرت برغبة لا تقاوم في الرد، وقالت: إن يلفظ الجسد أنفاسه، تبقى الكلمة وتحيى إلى الأبد! وأردفت قائلة: لكن، بمنأى عن كتبة البلاط، وأصحاب ثقافة الملح، وبعيدًا عن بيع الضمائر وشراء الذمم في سوق النخاسة، لقد أصبح كل شيء يباع ويشترى، من رغيف الخبز إلى الإنسان، ناهيك بدكاكين بيع الأوهام الموسمية! لك إن أردت أن تغادر أو تبقى مكانك، القرار لك وحدك!
لم يستطع عاشق الشجرة أن يكظم غيظه أكثر ورد في الحال: تذكرين النار المشتعلة وسارقها! إنه يريد أن يطفئ النار بالنار تُرى هل ينجح؟ وكيف للنار أن تطفئ النار؟ فردت عليه من فورها معنّفة موبّخة: حبذا لو تكون أديبًا وأنا في حضرتك وأنت في حضرتي، لا مِنطيقًا ولا زِنديقًا، فمَن تمنطق تزندق! أدخل إن أردت، في لغتي، أو في نور غرفتي!
استدار عاشق الشجرة قليلاً، فتراءى له النهار في أوج احتضاره، وقد بدأ الأصيل يسيل على الخد الأسيل، وحين عاد راح يرمقها بنظراته بحثًا عن القيمة المشتهاة التي فيها. أما هي فكانت تتأمله، دون أن تصرف نظرها عنه ولو للحظة في نصفيه: الفاعل والمعطل!
وتنهي بقولها: إنما العبرة في وظيفة الموجود لا في وجود الموجود ذاته! هكذا خاطبت نفسها في خفوت!
مع حلول فصل الخريف مبكرًا هذا العام، كانت الشجرة ظمأى تتلظى في أشد لهفتها إلى ماء الحياة. وكعادتها تعرت من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها، وقد تنهدت بينما كانت تسقط عنها الورقة الأخيرة! وجاء الشتاء وانفتحت أبواب السماء، فاغتسلت وتطهرت! وحين ازرقت السماء وغادرت الشمس خدرها المصون، لبست الشجرة ثوبها الأخضر واستعادت نضارتها وجاذبيتها بعد أن فقدتهما إلى حين، ثم أقبلت على الحياة وأقبلت الحياة عليها حاسرة عن أكثر أعضائها إثارة، وهو يشع بهجة وإنارة ويحمل كل ما يدل عليها. كان اللقاء بينهما، هذه المرة، أسرع ما يكون، وما هي إلا بضع لحظات وإذا بالساق تلتف على الساق وتتشابك الأيدي معًا إلى أن يتلاشى الجسدان، وتتعانق الروحان، في متعة لا تعدلها متعة، وحين أوحت الشجرة ما أوحت ثم حملت، كانت الفرحة عارمة لا تكاد توصف، إذ جاءت بعد طول انتظار!
شعر صاحب الشجرة بفرح عظيم وقال: ((هو ذا حمل الله...)) مبارك حملك أيتها الشجرة! متى حلّت اللاهوت في الناسوت حلت الروح في الجسد والإبداع في المبدع!
كان ينظر إليها بدهشة حيرى، فتسري القشعريرة في جسده من جديد فلا يصحو من رعشته إلا وحبات البلور تتصبب من ضفاف جسده! والوقت يحاصره من كل حدب وصوب، ولا متنفس أو منفذ أمامه سواه، وإذا به يعلن بأعلى صوته: أنا الفاتح الأول وهذه أرضي، وتلك سيدة الأشجار، وهذا قلمي السائل أخط به على صفحاتها البكر!
لاحظت الشجرة ما بدا عليه من عصابية وقد لمع في عينيه بريق أكثر من أي وقت مضى! روح جديدة سرت في عروقه والنور المنتشر من حوله يكاد يغمره، إلى أن أصبح، منذ الآن وصاعدًا، ممن يفكرون برأسهم! فسرّها ذلك وهدّأ من روعها، ولما أيقنت أن جهدها لم يذهب أدراج الرياح غادرت مسرعة، بعد أن غافلته، إلى حديقة أخرى، ظنًا منها أنها تركته من خلفها حيث هو! لكن صاحب الشجرة لم يلحقها وإنما سبقها إلى هناك فوجدته بانتظارها. حاولت إخفاء دهشتها وسرورها لكنها لم تتمالك نفسها. تقدمت منه وأسرت له في أذنه ((كلمة السر)) فندت عنها موجات من الضحك الصاخب!
[email protected]