النقد الأدبي مرآة تكشف عن وعي الناقد وثقافته وفكره وإبداعه ، تمامًا مثلما
يكشف النص الأدبي عن ذات مبدعه . الأدباء متمردون والنقاد ثوار !
ينسب إلى أفلاطون ، عندما لاموه على نقده لأستاذه سقراط ، قوله :
سقراط أستاذي وحبيبي لكني أحب الحقيقة أكثر !
يومًا بعد يوم ، تتكشف حاجتنا الماسَّة إلى تأصيل مفهوم نظري لقراءة النص الأدبي ، أو ما اصطلح على تسميته بالنقد الأدبيٍّ ، نقد أدبي يلتزم المنهجية العلمية ولو في حدها الأدنى ! يثبت صحة هذا الزعم ، والأمور تقاس نسبيًا ، واقع النقد الأدبي المأزوم ، الذي ما زال يزداد تفاقمًا وحدة ، كما يتجلى ذلك على الساحة الأدبية المحلية في أوضح صورة ! وأما ما نشهده من نقود أو مراجعات عندنا ، ففي غالبيتها العظمى ، لا تعدو كونها نقودًا استعراضية ومراجعات أدبية صحافية ، تكاد تكون خلوًا من روح النقد الأدبي الحقيقي وتجلياته الإبداعية ، جنبًا إلى جنب خلوها ، في الوقت نفسه ، من روح الموضوعية والترفُّق والمودة !
الذي يبدو لي أن مفهوم النقد الأدبي بكامل أبعاده ، لم يتبلور ، إلى الآن ، في أوساطنا الأدبية المحلية بالقدر الكافي ، أو بالشكل المتعارف عليه في أقلِّ تقدير ، أو كما تواضع عليه أهل الخبرة والاختصاص بقولهم : النقد الأدبي ليس مجرد فن متطفل على النشاط الأدبي ، أو ملحقٍ سطحيٍّ للأدب ، إنما هو قرينه الذي لا غنى عنه ، وجوهر هذا النشاط وروحه . النقد الأدبي ، بمنظور ما ، نشاط إبداعي لا يقل إبداعًا عن النص الأدبي ذاته ، إن لم يكن يتفوق عليه في بعض حالاته !
تأسيسًا على ما تقدَّم ، لم يتردد بعض الدارسين المرموقين للحظة أن يصنِّفوا النقد الأدبي جنبًا إلى جنب الأثر الأدبي نفسه ، وذلك لقيمته وأهميته وقبل كل شيء لإبداعه ، فارتباط النقد الأدبي بالإبداع ارتباطٌ وجوديٌّ لا محيد عنه !
في المقابل ، لا نعدم دارسين آخرين وفي خطوة متقدمة وجريئة أيضًا ، يقررون بأن النوع الوحيد من النقد الأدبي الذي ستكون له قيمة أكثر من أداء خدمة مؤقتة ، هو ذلك النقد الذي يصبح هو نفسه أدبًا ، لأنه عصارة قلب وخلاصة ذهن ! بمعنى أن يصبح النقد الأدبي نصًا أدبيًا لكل شيء ، بحيث تتجلى فيه القيم الإنسانية العليا جنبًا إلى جنب المعايير الفنية ، بحثًا عن المتعة المشتهاة والفائدة المتوخاة من جمال وثقافة ومعرفة وما إلى ذلك ! وفي الحق ، ذلك كلام ، أعتقد أنه جاء نتيجة حتمية ، وعلى جانب كبير من التقدُّمِ والتطوُّرِ في آن !فإذا كان النقد الأدبي كذلك ، وهو فعلاً كذلك ، فما بالنا ننتقص منه ولا نوليه القيمة والأهمية اللتين يستحقهما ؟ وعوضًا عن ذلك نبادر إلى إطلاق الأحكام ، على نحو غير مسبوق من التجرؤ بغير وجه حق ، أو إلقاء الكلام على عواهنه أو عفو الخاطر ، من دون ذكر أيِّ تسويغٍ ، أو إقامة أي دليل ، أو اعتماد أي مرجع ، ولا حتى أي اعتبار للرأي الآخر ، طبعًا باستثناء الرأي الشخصي ، ما يعني إلغاء الآخر وإقصائه ، الأمر الذي يستوجب قليلاً من التواضع !
وإلا ما معنى ، وهل يُعقل ، أن يقال بمجرد الكلام : فلان أخطأ في قراءته لنص ما ، وعلاَّن أصاب ؟ من دون أن نرى أو نقرأ لا كيف هذا أخطأ ، ولا كيف ذاك أصاب ! وقس على مثل ذلك رأيًا لبعض الدارسين بأحد الشعراء المحليين ! فإذا كنا نجد من قد رفعه ، فإننا نجد ، بالمقابل ، من قد وضعه ! أهكذا يكون الرأي والرأي الآخر !؟ تُرى أيهما نصدِّق ، من كان ذا صداقة أم علاقة ؟ أم أن الحقيقة أولى أن تتبع ؟ من هنا ، كان لزوم التسويغ أو إقامة الدليل واجبًا ، حتى يتبيَّن القارئ ! وعليه ، تفاديًا لمثل تلك الإشكالية ، يمكن القول : من حقك أن ترى ما ترى ، لكن شرط أن تسوِّغه ! يحضرني في مثل ذلك السياق ما قاله أفلاطون عندما لاموه على نقده لأستاذه سقراط ، قال : سقراط أستاذي وحبيبي ، لكني أحب الحقيقة أكثر ! تُرى هل كان يُفترض بأفلاطون أن يتقبَّل رأي أستاذه كيفما اتفق ؟
ثم من قال إن الكلمة الأخيرة هي للناقد الأدبي ، حتى لو كان من ذوي الاختصاص ؟ على الناقد الأدبي أن يدرك جيدًا أن الساحة الأدبية ليست خلوًا إلا منه ، مع وجوب أن يدرك أيضًا حدود مهمته وقواعد مهنته ! إن أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه الناقد الأدبي هو حين يؤدي دور المعلم الشاطر المتفرِّد بشطارته ، أو كأنه مالك للحقيقة ، فلا يأتيه الخطأ لا من خلفه ولا من أمامه ولا من بين يديه ! وبالتالي لا همَّ له سوى القيام بتوزيع الألقاب والدرجات والشهادات على طلابه ! أو كأن يكتب من وراء قناع أو يختبئ خلف أقنعة الكلمات ، أو على طريقة عمرو بن العاص ودوره في حادثة التحكيم ، على سبيل المثال لا الحصر !
لكن مهلاً أيها الناقد الأدبي ! إنه لأمر طبيعي أن نقرَّ بالتعددية والاختلاف ، وأن نعترف بداهةً بحرية الرأي والتفكير ! هنالك متسع للآخرين ،وبضمن ذلك تعدَّد القراءات أيضًا ، وتعدد القراءات ناجم عن تعدَّد القرَّاء وهو أمر مفيد ومحبذ في الوقت نفسه ، فكلما تعددت القراءات وكثرت الاجتهادات كثرت الفائدة . وهذا يعني من بين ما يعنيه أنه لا توجد ، إلى الآن ، قراءة جامعة مانعة ، فلكل قارئ قراءته ! لكل قارئ الحق بأن يرى الأمور من زاوية رؤيته هو ، فما يُرى من هنا قد لا يُرى من هناك ، ومتى اختلفت زاوية الرؤية من الطبيعي أن يختلف المرئي والرأي معًا ! تمامًا مثلما يختلف المرئي باختلاف المرايا ! وقد يكون من نافلة القول ، التأكيد على أن النصوص الأدبية الحقيقية لا تكتفي بالقراءة الواحدة ، إنما يفترض أن تنفتح على قراءات متعددة ، فقد تكون حمالة أوجه متعددة ! والنص ، كل نص تُغلق أبوابه على قراءة واحدة ، لا يمكن أن يعد نصًا أدبيًا وفق أيٍّ من المقاييس المتعارف عليها ! وقد تجدر الإشارة أيضًا ، إلى أنه ثمة نصوص أدبية ما زالت تستهوي النقاد وتغريهم بالقراءة ، على الرغم من مرور عقود ، لا بل قرون من الزمن على رؤيتها النور !
ثمة قاعدة نقدية أخرى ، تجدر الإشارة إليها ، وهي : أنه لا توجد قراءة تُلغي أخرى ، لكن ، في المقابل ، توجد قراءة يمكن أن تضيف على سابقتها ، أو يمكن أن تُنقص منها ، أما أن تلغيَها أو تبطلها بالكامل فلا ! على أنه من المستحسن أن يُترك أمر الحكم في تلك القراءات للقارئ . فالقارئ ذكيٌّ وبإمكانه أن يفعل ذلك ! لندع القارئ يحكم ! فالأدباء والنقاد والقراء ثلاث حلقات متصلة بعضها ببعض ، ومكملة بعضها لبعض !
من جهة أخرى ، إن الناقد الأدبي الحقيقي ، كما يفترض ، يجب أن ينأى بنفسه كل النأي عن القراءة المعيارية أي النقد المعياري وهو النقد التقييمي ، ويسلك عوض ذلك القراءة الوصفية أي النقد الوصفي ، وذلك محاذرة الوقوع في منزلقات النقد الأدبي . ذلك بأنه لو سلك طريق النقد المعياري وأطلق أحكامًا قيمية ، لكان أفضى به فعله ذلك ، في المحصلة النهائية ، إلى ما يشبه فعل المزاد العلني وتبعاته من متاهات المزاودات كالابتذال والفضول والعشوائية ، التي لها أول ليس لها آخر ، والناقد الأدبي الحصيف يربأ بنفسه عن تلك المطبات !
من خلال تلك العلاقة التعاقدية المتبادلة وإن تكن غير مكتوبة ، بين طرفي المعادلة الإبداعية وهما : الأديب المبدع والناقد الأدبي المبدع ، نستطيع القول : لا يختلف اثنان بأن أهمية الأدب وكل فن آخر تكمن في ما يقدمه للإنسان الفرد وللمجتمع على حد سواء ، من فائدة وإسهام في تحقيق رقيهما وسعادتهما كهدف أسمى ، وذلك بأسلوب فني يتجاوز حدَّ المألوف ، من واقع الإنسان وقضاياه ، إلى ما هو ممكن ، أو بالأحرى إلى ما يجب أن يكون . في حين لم يعد دور النقد أو الناقد الأدبي شرحًا أو تفسيرًا ، ولا فتحًا لمغاليق النص الأدبي فحسب ، أو وسيطًا بين المبدع والمتلقي ، إنما هو إعادة تشكيل أو إعادة بناء نص إبداعي جديد ، نص إبداعي تتجلى فيه قيم ومعايير ودلالات ذات أبعاد فنية ؛ جمالية ولغوية وفكرية ، وأخرى اجتماعية وإنسانية تلامس حياة الإنسان وواقعه في الصميم . فضلاً عن مدى تعالق كل ذلك مع الإنسان وعلى المستويين الفردي والجمعي في آن ! ولا يسعني إلا أن أتفق ما يقوله البروفيسور شكري الماضي في سياق متصل : إن وظيفة النقد الأدبي لا تعني البحث عن الجودة والرداءة أو الحسنات والعيوب (فهذه مهمة قديمة) بل تعني الفهم ، فهم نظام النص وتفاعلاته الذاتية والموضوعية وفهم الإنسان المبدع للأدب والمتلقي له أيضًا ، وعلاقتهما المعقدة بالعالم المعيش !
صفوة القول : يفترض بالناقد الأدبي أن يمتلك قراءة منتجة ومضيئة بُغية تفكيك النص وتحليله و/أو تأويله إلى عناصره الفنية واللغوية ، شكلاً ومضمونًا ، وذلك ضمن سياقه الخاص ، لأن أية قراءة للنص سوف تظل قاصرة ما لم تلتفت إلى سياقه . من هنا ، كانت قيمة كل نص ضمن سياقه الخاص ! ولن تتحقق تلك القيمة إلا على يد الناقد الأدبي المتمكن ، حيث يطلب منه إعادة تشكيله أو تركيبه من جديد ، ليصبح بناءً معماريًا جديدًا قائمًا بذاته ، طبعًا وفق مرتكزات أساسية متعددة ، أهمها حمولات من الدلالات والرؤى والأفكار الجديدة . النقد الأدبي ، بمنظور ما ، يعد مرآة تعكس صاحبها ثقافةً وأفقًا ووعيًا وإبداعًا ، قبل أي شيء آخر . فالكتابة النقدية دليلنا إلى كاتبها ! الكتابة النقدية يجب أن تترك لتتحدث عن نفسها بنفسها ، وهي التي يجب أن تثبت نفسها وصاحبَها . تلك هي فعالية القراءة الإبداعية الحقيقية في عصر متحول غير ثابت تمامًا مثلما هو أي نص أدبي يكشف عن ذات مبدعه ! النقد الأدبي يكشف عن وعي الناقد الأدبي وثقافته ومعرفته وفكره وإبداعه ، وكذا كل أثر يدل على صاحبه ! بناء على ذلك ، نستطيع أن نتفهَّم الدوافع التي أدت ببعض النقاد المرموقين ، إلى العدول عن مصطلح "النقد الأدبي" إلى مصطلح "النقد الثقافي" ، وفي رأيي أن هذا المصطلح يأتي ملائمًا للمسمَّى ومعبِّرًا عنه أكثر من غيره ، وذلك لأسباب عدة يضيق المجال هنا عن تعدادها !
على ضوء ما تقدم ، يمكننا أن نتفهم من يرى بأن مهمة الناقد الأدبي الحقيقي قد تفوق صعوبة وأهمية مهمة الأديب نفسه ! لا بل أكثر من ذلك ، فقد نجد من يقرر بلا تردد : إذا كان الأدباء متمردين فإن النقاد ثوارٌ ! ولا أعتقد أن مثل هذا الكلام ناجم عن تسرع أو ناتج عن فراغ ! إنما عن معرفة تامة بالأهمية القصوى والخطورة الكامنة في دور كل من الأديب والناقد الأدبي على السواء ! والسؤال المشروع الذي قد يتبادر إلى الأذهان : تُرى أين نحن من هذه المقولات ؟ إن أكثر ما يغلب على كتاباتنا النقدية اليوم ، كما ذكرت آنفًا ، أنها محض مراجعات أدبية ، وآراء شخصية ، على طريقة ما هو إيجابي ، وما هو سلبي ، ما يُعجبني وما لا يعجبني ، طبعًا إلى جانب المجاملات كالمديح والإطراء ، وهذا أبعد ما يكون عن النقد الأدبي ، وعن المهارات النقدية المعمقة والحقيقية التي تصدر عن ثقافتين : ثقافة منهجية وثقافة مهنية !
[email protected]