أنوِّه ، بدايةً ، إلى أنه من الصعوبةِ بمكان أن أُحيطَ ، في هذه العجالة ، بأديبنا من كافةِ جوانبِه الإبداعية ، ولا أحسبني بحاجة إلى تعداد نتاجه الأدبي الذي يسبقُ اسمَه باستمرار ، إنما سوف أقصرُ الكلامَ عن جهوده في مجال الكتابة المسرحية تحديدًا ثم أبادرُ إلى القول : تأتي هذه الاحتفالية التكريمية تقديرًا واحترامًا لمسيرةٍ حافلةٍ بالعطاء الإبداعي المتميز ، ومشفوعةٍ بلمسةِ وفاءٍ ومحبةٍ يستحقها المحتفى به عن جدارة ! ونحن حين نكرِّم أديبَنا الفاضل وسائرَ مبدعينا الحقيقيين ، إنما نكرِّم أنفسَنا وأدبَنا وثقافَتَنا أيضًا ، مع ما في ذلك من رفدٍ وإثراءٍ يصبُّ في نهر حركتنا الأدبية والثقافية المتنامي ، والذي يُشكِّل رافعةً قويةً لوجودنا في بلادنا ! في السياق ذاته ، قد يكونُ من المفيد أن نشيرَ إلى أننا نشهدُ ، لاسيما في الآونة الأخيرة ، حَراكًا أدبيًا وثقافيًا ملحوظًا ، لكن ليس كلُّ ما يُنشرُ يرقى إلى المستوى الإبداعي والفني الحقيقيينِ ! فنُّ الكتابة وكلُّ فنٍّ آخر ، يُفترض أن يكون إبداعيًا ، وإلا ما حاجة المتلقي إليه؟! إننا نعاني من شح في الإبداع ،لاسيما في مجال الحداثة ، الأمرُ الذي يدعونا إلى مضاعفةِ الجهد أكثرَ فأكثر ، وذلك بالمزيد من القراءة والثقافة والتجربة والوعي لتُصبحَ تلك المخزونَ الذي نمتحُ منه إبداعاتِنا ! وبعد،
فقد كان لي شرفُ معرفةِ الأستاذ إدمون عن كثب من خلال إبداعاتهِ المتعددة لاسيما كتاباتِه الجادَّةِ في ما يخصُّ الحركةَ المسرحية المحلية ، ثم توطدت العلاقة بيننا أكثرَ فأكثر أثناءَ وبعدَ سفرِنا معًا للمشاركة في مؤتمر الأدب الفلسطيني في المثلث والجليل الذي عقدته ونظمته جامعةُ بيتَ لحم في العام 2006 . آنذاك رافقتُه وجالستُه وعرفتُه فوجدتُه ، والحقُّ يقال ، إنسانًا قبلَ أن يكون مبدعًا ، يجسِّد في شخصه الكريمِ قيمَ الإنسانيةِ النبيلة بأسمى معانِيها من محبةٍ وخيرٍ واحترام وسلام ، طبعًا جنبًا إلى جنب ما يتمتعُ به من ثقافةٍ ومعرفةٍ وحيويةِ روح . منذ نعومة أظفاره ، كان يهوى القراءةَ والمطالعة ، فحرص كلَّ الحرص على تثقيف نفسِه بنفسِه . وبجهودِه الخاصَّة وإمكاناته المحدودة ، افتتح عام 1970 المكتبة الحديثة ، جاعلاً منها مُلتقىً لمجموعةٍ من الأدباء والمثقفين ، لتُصبحَ في ما بعد أشبهَ ما تكون بالصالون الأدبي والثقافي . الأمرُ الذي انعكس إيجابًا على تطويرِ مهاراتِه الإبداعيةِ في مجالَيِّ التأليف والنشر ، إلى أن أصبح أديبًا عصاميًا بكل ما للكلمة من معنى ! كذلك هو حضورُهُ الإبداعيُّ الفاعل في حركتنا الأدبية المحلية ، إذ كان وما زال ممن يُشار إليه بالبنان ، فالكتابةُ حضورٌ وشهادةٌ بالفعل ! ففي الشعر أصدر عشرةَ دواوين وله ثلاثُ روايات ، وتسعُ مسرحيات كتبها بلغة شاعرية موحية وغنية ، يلامس معظمُها قضايا إنسانية : اجتماعية وعاطفية ووطنية ، يومية وأخرى حياتية تهمنا جميعًا كأفراد وشعب ومجتمع ، وذلك من خلال فهمِهِ للتناقض القائم بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي ، أو بين ما هو موجودٌ وما هو منشود ! في السياق ذاته أُشير إلى أنه كتب أيضًا المقالات في المسرح المحلي وغيرِ المحلِّي . أما الكتابةُ المسرحية وهي هاجسُهُ الذي لم يكن يفارقُهُ ، فقد ظلَّت قابعةً في الظل إلى أن كانت نقطةُ التحوُّلِ بُعيْدَ هزيمة حزيران عام 1967 ، حين أُعيد الالتقاء مع الأشقاءِ من المناطق المحتلة ، حيثُ نهض أديبُنا ومعه آخرون بالواجب على أكمل وجه ، وعمل على إخراجِ هذا اللونِ الأدبيِّ من العتمة إلى دائرة الضَّوْء وذلك لغير سبب ، أذكر منها : أنه كان يتمتع ببعدِ نظر ثاقب وحسٍّ ثقافيٍّ متقدِّم ، كذلك انطلاقًا من وعيه المبكِّر لأهميةِ المسرح في نهضةِ مجتمعِنا ، وفي الحفاظ على هُويتنا الثقافية والوطنية في بلادنا ! بما ينعشُ الذاكرةَ الجمعية ويعزِّزُها لاسيما في وعي أجيالنا الشابَّة والناشئة ، هذا من جهة ! ويسهمُ في تعميقِ الانتماء الوطني والوجودي في مواجهة سياسة الإلغاء والطمس ، التي عبَّرت عنها غولدا مئير من خلال مقولتها المشهورة : بأنَّ الكبارَ يموتون والصغارَ ينسوْن من جهة أخرى ! فالكتابةُ أيضًا فعلٌ تحرريٌّ وجوديٌّ بكلِّ المقاييس ! وإدراكًا منه لمقولةِ أفلاطونَ الشهيرة "أعطني مسرحًا وخبزًا أُعطيك شعبًا مثقفًا" ! وفي رواية أخرى عظيمًا ، راح الأستاذ إدمون يحُثُّ الخطى وبجهود فردية لأجل النهوض أو التأسيسِ لهذا اللونِ الأدبيِّ وهو ((أبو الفنون)) كما يقولون ، والعملِ على ترسيخه وتذويته في ذاكرتنا على المستويين : الفردي والجمعي ، لما له من أهميَّةٍ وتأثيرٍ كبيرين في تثقيف الناس وفي تشكيل وعيهم وترفيههِم على حدٍّ سواء ، فالأديب وكلُّ فنان آخر هو ابن بيئته وابن مجتمعه الذي أنجبه ! كذلك يكتسب المسرح أهميتَه الخاصة لارتباطه بالإبداع ، وقد لا نجانبُ الصواب إذا قلنا : ليس ثمةَ ما يُمتِّع الكثيرَ من الناس مثلُ المسرح ، فهو بمنظور ما المرآةُ الصادقة للمجتمعات والشعوب ! فالمسرح هو الحياةُ والحياة هي المسرح ونحن الممثلون في كلا الحالين ! في كتابه الموسوم "مقالاتٌ في المسرح المحلي" رام الله 2011 والذي ضمَّنه خُلاصاتٍ مركَّزة لأفكاره الخاصَّة ، يواكبُ الأستاذ إدمون تاريخَ الحركةِ المسرحية في بلادنا منذ بداياتِها ، كما يقدِّم نماذجَ من العوائقِ التي وقفت في طريقِها ، ومن أهمها عدمُ وجودِ حريَّةِ إبداعٍ وحرية تعبير . ذلك بأنَّ المسرحَ وكلَّ فنٍّ آخرَ لا يمكنُ أن ينموَ أو يتطورَ إلا في أجواء من الحرية والديمقراطية ! كشرطٍ لا محيدَ عنه من شروط الإبداع والتحوُّلِ والتطور في كلِّ مجتمع ، ناهيك بافتقاره إلى الموارد الماديَّة والفنيَّة ، وغيابِ الدعمِ الرسميِّ . يقول المرحوم توفيق زياد "إنَّ الأقلية العربية... لا تملك مسرحًا... ومسرحنا العربي هو... يتيم... بلا أب وبلا أم" ! كذلك ينقصنا التثقيف أو التربيةِ للمسرح ! مع الإشارة إلى أنه حين كان الأستاذ إدمون يكتب ما يكتب ، ففي ظروف صعبة وواقعٍ أصعب ، في بيئة لا تقيم اعتبارًا أو وزنًا لأهمية المسرح في المجتمع . كذلك ، في أجواءٍ حضرَ وتقدَّم فيها السياسي والديني ، فيما غاب وتأخَّر الثقافي والتنوُّر ، علمًا أنَّ الثقافةَ بكافة تجلياتها هي مهدُ الهُويَّةِ والوجود! وكان جمَعَ تلك المقالات ، والتي تعدُّ منَ البواكيرِ الأولى في بابها إيمانًا منه بأهمية المسرح في تثقيف المجتمع وتغييره ، كتبها بأسلوب سهلٍ ليكونَ قريبًا من الأفهام . وهي إلى ذلك ، ذاتُ طابعٍ تسجيلي وتوثيقي ، وقد نشرها في كتاب خاص ليضعه بين يدي القارئ والباحث وكلِّ مهتم بمسيرة الحركة المسرحية المحلية ، وصولاً إلى مجتمع متطور ثقافيًا واجتماعيًا ووطنيًا ، ومن هنا تكمنُ القيمةُ الأدبية والأهميةُ التاريخية لتلك المقالات !
مهما يكن وبالإجمال ، فقد ظلت الكتابة المسرحية المحلية قابعةً في الظل ، وذلك لأسباب متعددة حيث جاء ترتيبُها بالمرتبة الرابعة بعدَ الشعر والقصة والرواية ! وكلُّ محاولات النهوض بالمسرح المحلي ظلت تشقُّ طريقها بصعوبةٍ وبجهود فردية ! فعلى الرغم من تلك الجهود المبذولة وهي فردية ومحدودة كما أشرت ، لكنها بكلِّ تأكيد تسدُّ نقصًا في مشهد حركتنا الأدبية ، ولا ريبَ أن هذا المشروع يتطلبُ تحقيقُه آلياتٍ متعددةً ، منها : تضافرُ كلِّ الجهود ، دعمٌ مادي ومعنوي ورعاية ، ونهضةٌ ثقافية ، ونقد مسرحيٌّ بنَّاء ، وجمهورٌ مشجِّع وما إلى ذلك! أخيرًا ، لا يسعني إلا أن أقولَ : شكرًا جزيلاً لك أستاذ إدمون لأنك أسعدتنا وأمتعتنا بهذا العطاء الإبداعي ، متمنيًا لك ولأسرتك الكريمة ، العمرَ المديد والعيشَ الرغيد ، وأنتم ترفلون بثوب الصحة والسعادة ، وطوبى لك لأنك ابنُ الحياةِ تُدعى ! تحت سماءِ هذه المدينة الطيبة وأهلِها الطيبين ، سماء القيمِ النبيلة من العيشِ المشترك والتسامح والمحبة والأخوة . فمدينةُ الناصرة بحكم موقعِها الجغرافي والثقافي والتاريخي ومكانتِها الدينية المتميزة ، إذ نشأ وترعرع فيها الفادي يسوع المسيح عليه السلام ، وقد أطلق عليه لقب الناصري تيمنًا بها ، كانت وما زالت واسطةَ العِقد وقبلةَ الجميعِ في وسطنا العربي!
وأختِمُ قائلاً : لأنه في البدء كان الكلمة ، فشكرًا للكلمةِ التي جمعتنا ، وشكرًا للإبداع الذي أمتعنا ، وشكرًا لكم جميعًا !
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]
[email protected]