أنوه بدايةً إلى أنه من الصعوبةِ بمكان ، في هذه العجالة ، الإحاطةُ بالديوان من كافةِ جوانبه ، ثم أبادرُ إلى القول :
من جديد ، تطلُّ علينا الشاعرة آمال عبرَ مجموعتها الشعرية الجديدة "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن" التي جاءتْ بعدَ ثلاثةِ إصداراتٍ شعريّةٍ سابقةٍ لها ، هي : "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج" صدر العام 2005 و "سلامي لكَ مطرًا" صدر العام 2007 ، والإصدار الشّعريّ الثالث "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ" صدر العام 2010 ، وأخرى في القراءاتِ النقديّةِ واالتوثيق والبحث والمقالات والتقارير الأدبية ، ولها إصداراتٌ مشتركة مع آخرين ! ولو تتبعنا مسيرةَ عطائِها من خلال محطاتها الإبداعية تلك ، لتأكَّدَ لنا بأنَّ دالَّةَ نتاجِها الشعري شكلاً ومضمونًا ، تسير من حسنٍ إلى أحسن وفي تصاعدٍ مستمر ! وفي الحق ، يمكنُ القولُ : إن هذا الكتابَ يعدُّ إضافةً نوعيةً في مشهد حركتنا الإبداعية المحلية والشعريةِ منها تحديدًا وفي الوقت ذاته ، هو رفدٌ وإثراءٌ يصبُّ في نهر حركتنا الأدبية المحلية المتنامي ! في السياقِ ذاتِه قد يكونُ من الإنصافِ أن نذكرَ أنه إذا ما ألقينا نظرةً ثاقبة على الساحة المحلية لرأينا أنها تشهدُ ، لاسيما في الآونة الأخيرة ، حراكًا أدبيًا وثقافيًا ملحوظين ! علمًا أنَّه ليس كلُّ ما يُنشرُ لدينا ، يرقى إلى المستوى الإبداعي والفني الحقيقيينِ ! الأمرُ الذي يدعونا إلى مضاعفةِ الجهد أكثرَ فأكثر ، وذلك بالمزيد من القراءة والثقافة والتجربة والوعي لتُصبحَ المخزونَ الذي نمتحُ منه إبداعاتِنا ، وتُشكِّلَ ، في الوقتِ نفسِهِ ، رافعةً قويةً لوجودنا ولثقافتِنا في بلادنا !
وبعد ، لا يساورني أدنى شكٍّ بأننا في حضرةِ شاعرةٍ مختلفة ، لغةً وجرأةً وفنيًا ، لذلك تستحقُّ الاحتفاءَ والتكريم ! ومعروفٌ أنَّ الاحتفاءَ بالمبدعاتِ والمبدعينَ هو احتفاءٌ بالإبداع في أبهى صوره ، كما يُعدُّ من أهم عوامل النجاح والإبداع والتميُّز ، فلأجل ذلك جئنا والتقينا هنا ، ولأجل عطائها الإبداعي المتميز في مجال الشعر ، جنبًا إلى جنب سائرِ نشاطاتها الأدبية والثقافية والاجتماعية المستمرة . وقد لا أراني مبالغًا إذا قلت : إن أسلوبَ آمال في تعاملها مع شعرها أشبهُ ما يكونُ بأسلوب النحلة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة لتجنيَ منها رحيقًا تُحيلُه إلى شهدٍ خالص ! خاصةً في تخيُّرِها للألفاظ والمعاني . وهي حين تصنعُ شعرًا نراها تبذُلُ قُصارَى جُهدِها ، مراعاةً والتزامًا بالمعايير الأدبية والفنية والإنسانية في آن ! مع ما فيه من محاكاةٍ لذاتها ، أو لما تبوحُ به من بعض ملامحِ شخصيَّتِها كإنسانةٍ بكلِّ ما تحملُه الكلمةُ من معانٍ إنسانيةٍ سامية قبلَ كلِّ شيء وكشاعرةٍ مرهفَةِ الإحساس والوجدان ! الشعرُ ، في بعض جوانبه ، لم يزل منذ الأزل ، يحكي ويحاكي شخصَ الشاعرِ نفسِهِ في الحياة ! مما يؤكد المقولةَ : بأنَّ الفنانَ لا يبتدعُ أسلوبَ حياتِه بل يعيشُ بالأسلوبِ الذي يُبدعُ فيه .كذلك فإنها ، حينَ تستحضرُ بناتِ أفكارِها وتحرِّكُ خَلَجاتِ نفسِها ، عبرَ رؤيتِها للواقع والتأمُّلِ في الحياةِ من حولِها ، ثُمَّ تترجمها إلى صورٍ فنية آسرة إنما تلامسُ ذاتَها وتبثُّ أفكارَها ، تمامًا مثلما تلامسُ أفكارَنا وتداعبُ مشاعرَنا نحن القراءَ أيضًا ، وذلك من خلال تجلياتها الصوفية المُحِبَّة والعاشقة التي تعيشُها ، وصولاً إلى حالتَيْ الحلول والإتحاد (طبعًا مع الشعر) ! فالكتابة هي الكاتب والشعرُ هو الشاعر وكلُّ أثرٍ يدلُّ على صاحبه ! وفي مثلِ ذلك يقول الناقد السوري نبيل سليمان : في النص "من تكوين المبدع النفسي وحياته الشخصية ما فيه . في النص من ذات منتجه ، من شعوره ولا شعورِه ، من سيرته ما فيه . لكن في النص أيضًا من فكرية منتجه ، ومن وعيه ، ومن رؤيته ، ما فيه . أخيرًا ، في النص أيضًا من اللاوعي الجمعي والوعي الجمعي ما فيه" (نبيل سليمان ، في الإبداع والنقد ، ص28 ، اللاذقية : دار الحوار للنشر والتوزيع ، 1989) !
أما جاك دريدا صاحبُ نظرية "التفكيكية" أو بالأحرى القراءة "التفكيكية" فيقول : لا شيءَ خارجَ النَّص ! كما سوف نلحظ ذلك ، من خلال مقاربتِنا لِـ "أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين" ! من آلهة الأساطير القديمة . فدُموزي لدى السومريين أو تموز كما يسميه الأكاديون هو إله الذكورةِ والخضرةِ والإخصابِ والحياة . وقصةُ خيانةِ زوجتِهِ عشتار له وتسليمِهِ إلى شياطينِ العالم السفلي ليقتلوه معروفة! أما عشتار فهي ربَّةُ الخصبِ والأنوثةِ والحبِّ والجنسِ لدى البابليين ، سكانِ وادي الرافدين القدماء وهي أعظمُ الآلهة وأسماهُن منزلةً ! إنَّ أولَ ما يستوقفُنا من الديوان هو العنوانُ الموسومُ بـ "أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين" ! وبمعزلٍ عن مدى تذوقِ المتلقي وتقبُّلِهِ لهذا العنوان ، فهو عتبةُ النصِ الأولى التي تشكِّلُ حمولةً دلاليةً مغرية وجريئة ! إذ نرى هنا في ما اختارته الشاعرة عنوانًا للديوان أنها تشتقُّ كلمةً من أخرى بتغيير ما ، مع التناسب في ما رمت إليه من معنى ، ففي الجزء الأول من العنوان نقرأ : أُدَمْوِزُكِ من دُموزي (الرمز الذكري) ، وفي الثاني : تتعشترين من عشتار (الرمز الأنثوي) ! وليس هذا من النحت كما ذهب بعضهم لأن النحتَ في الاصطلاح عندَ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيدي "أخذُ كلمةٍ من كلمتين متعاقبتين ، واشتقاقُ فعلٍ منها" ! وقال آخرون : بل اشتقاقُ كلمةٍ أي بإطلاق من دونِ تقييد أو تحديد ! أما لجهةِ المعنى الذي تعنيه الشاعرة أو تُلمحُ إليه ، كما يبدو ، فيظنُّ المرءُ أنها حين جمعت بين دُموزي وعشتار في تكاملٍ رومانسي واتحاد جنسي ، لقولها "أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين" كنايةً عن رغبتها أن تقولَ : أُخصبُكِ فتحملين ! ومتى حدث الإخصابُ وتمَّ الحملُ ، لم يتبق لنا نحن القراءَ إلا أن ننتظر المولودَ والأصحُ المولودةَ وهي القصيدة ! وعليه فإنَّ عنوانَ الديوانِ ، من حيثُ الدلالةِ والمدلول ، يشي بأنَّ الشاعرةَ ، من خلالِ توظيفِها للأسطورة والخيال ، إنما تتوسَّلُ الهربَ من عالمٍ واقعيٍ سوداوي ، ملؤُه الضَّجرُ والغربةُ والرعبُ والفراغُ والتشظِّي ، إلى عالمٍ افتراضيٍ أجملَ ملؤُهُ الحبُّ والعشقُ والانعتاقُ والخلاصُ ! إنها محاولةٌ مُتخيَّلةٌ للتغيير إلى الأفضل والأجمل ، محاولةٌ تحملُ في طياتها أفكارًا لها أجنحة قد تحلِّقُ إلى آفاق بعيدة ، والفكرةُ أساسُ كلِّ عملٍ ! يقول ابن سينا (370-427ه) رافضًا أن يَعُدَّ الشعر شعرًا إذا كان خلوًا من التخييل "إن كلَّ كلامٍ غيرَ مخيَّلٍ ليس شعرًا ، وإن كان موزونًا مقفَّى ، وإنَّ الشعرَ يراد فيه التخييل لا إفادةَ الآراء" ! وقد وافقَهُ الرأيَ على ذلك من بعدِهِ ، غيرُ ناقد أو كاتب . أما أينشتاين فينسبُ إليه القولُ "إنَّ الخيالَ أهمُّ من المعرفة" لأنه أساسُ كلِّ إبداع ! لذا ، فالتخييلُ عمليَّةٌ يقوم بها الشاعر ويقع تأثيرُها على المتلقي !
لكن في المقابل ، أرى أنه لكي يكونَ توظيفُ الأسطورةِ ناجحًا ، يجبُ عدمُ الاكتفاءِ بمجرد المفردات والتعابير الأسطورية ، إنما يجب توظيفُها كقيمةٍ فنيَّةٍ في سياقٍ متناسقٍ ومنسجمٍ بحيثُ يتمُّ تحويلُها إلى طقوسٍ أسطورية تتعالقُ مع واقعنا وحياتنا من خلال النَّص ! فالأسطورةُ ، كما يُفترض ، وسيلةٌ فنية يتوسَّلُ الفنانُ من خلالها الكشفَ عنتناقضات الحياة وسوداوية الواقع ! أو كأنْ يُعيدَ إلى الإنسان بعضَ ما يفتقدُهُ من الانسجام والتوازن والقيمِ كالحبِّ والسمو ، على سبيل المثال لا الحصر ، في واقعه المعاصر الذي يبدو منغمسًا بالمادية وأبعدَ ما يكون عن الروحانية ! وعليه فإنَّ توظيفَالأسطورةِ يحتاجُ
إلى جهد مضاعف !
في نفسِ السياق، نحن لا ننكرُ على الديوان احتفاءَهُ اللافت بالصورة الفنية التي يترجمها خيالٌ محلِّقٌ في فضاءات اللغة والدلالات ، هذا صحيح ! لكنْ ما يلحظُهُ القارئ أنَّ الديوانَ يقيمُ بناءَهُ الشعري على اللغةِ فقط ، وهذا وحده لا يكفي ! أضف إلى ذلك ، لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ أيُّ نص أدبي خلوًا من الفعل الدرامي بما يتضمنُهُ من فعلٍ وحركة! كذلك ، من الضروريِّ أيضًا أن يُفضيَ الشعرُ إلى حالة من التفكير أو التساؤلِ في أقلِّ تقدير ! فالإبداع الشعري تجربةٌ روحيةٌ عميقة ! لا يمكن أن يترسخَ إلا من خلال ما يطرحُه من الأسئلة والرؤى والأفكار ! وعليه فإنَّ أهميةَ الشعرِ وكلِّ فنٍّ آخرَ إنما تكمنُ بما يتركُه في نفس المتلقي من قوةٍ في الأثر والتأثير والتفكير والتفاعل والانفعال !
وبالنظر إلى نصوص الديوان الخمسين نجدُها أقربَ ما تكون إلى النثر الشعري ، أما مضمونُها ففي غالبيته العظمى متشابهٌ إلى حد كبير ، شكلاً ومضمونًا ، والكلام فيها آخذٌ بعضُه برقابِ بعض ، مع ما فيها من ترابطٍ شعوريٍ وثيقِ الصلة ! هي بوح ذاتي أو قل هي رسائلُ عشقٍ ، أو كما أسمتها عشقياتٍ حمَّالةَ مستوياتٍ دلاليةٍ متعددة ، تُرسلها شاعرتنا المسكونةُ بهاجسِ الحبِّ ، بسمو روحٍ وعلو نفس لافتين إلى جمهور القراء بُغيةَ أنسنةِ الإنسانِ وتحقيقًا لسعادته ، ومشارَكةً له في همومه في رحلة هذه الحياة قصيرةً كانت أم طويلة ! وفي أجواءٍ احتفاليةٍ عارمة تصل حدَّ الشبقية أحيانًا ، تبلغُ تلك التجلياتُ ذروتَها حين تكتبُ بالحبِّ سفرَ خلاصِنا الموعود ، بُغيةَ تغييرِ الواقعِ المنتشر بين ظهرانينا ولا تترُكُنا حتى نفتحَ نوافذَنا في وجهِ تلكَ الرسائلِ ! فالحبُّ وحدَه مِفتاحُ كلِّ الأقفال ، مِفتاحٌ واحدٌ ليس أكثر ! ليصبحَ شرطًا وجوديًا في بحرِ الحياةِ ، وقد ترامت أطرافُه واتسعت شطآنُه لكلِّ البرايا والمخلوقات ! ويثبتُ واقعُ الحال بأننا حقًا نفتقدُ الحبَّ قولاً وفعلاً ، وفي مختلف مجالاتِ حياتنا الفردية والجمعية على حد سواء ! وأحسبُ أن الشاعرةَ ، وفي رؤيةٍ متبصرةٍ قد نجحت في نقل صورةٍ حقيقيةٍ نابعةٍ من واقع الحياةِ والظروف الموضوعية المحيطة بالمجتمعِ من حولنا جميعًا ! المقياس الحقيقي للشعر الجديد هو مدى الإحساس بالوجود الإنساني ارتيادًا وكشفًا على المستوى الفردي والكوني في آن .
ومن جميلِ ما قرأتُ ، مبنىً ومعنىً وصورةً فنية ، من قصيدة عنوانُها "غِمارُ أُنوثتكِ الـْ أشتهي" ص32 "غماري.. في تمامِ نُضجها/مثقلةٌ.. بلذائذِ فاكهتِكِ المشتهاةِ/ تشققتْ.. مُولعةً بِنُضْجِكِ/وإني لأبدوَ للناظرينَ.. كبساتينِ نخلٍ/أنهكها ثِقْلُ تُمُورِها.. أما حانَ القِطافُ" ؟ فالصورة الفنية جميلةٌ وهي تشكيلٌ إبداعيٌّ أشبهُ ما يكون بالرسم التشكيلي مع فارق الأدوات ! لكنَّ دخولَ الكافِ على البساتينِ أفقدها ، كما يبدو ، بعضَ رونقِها ! وأرى أنَّ دخولَها جاءَ مُقحَمًا إذ جعلت التشبيهَ عاديًا ولو جعلَته بليغًا لكان أفضلَ وأجملَ ! ذلك لأنَّ لغةَ الأدبِ أو البلاغةِ والمبالغةِ ، كما يُفترض ، هي لغةُ النص الشعري تحديدًا ! مثلما هي لغةُ الإشارة والتلميح لا لغةُ الإيضاح والتصريح ! ثمةَ إشارةٌ أخرى يمكنُ أن تستوقِفَنا ألا وهي قولُها ص70 "أفسحي لرئتيَّ.. ينابيعَ إيمانِكِ/لتنموَ آفاقي.. ولِيشيبَ ثلجي" ! تُرى هل الشائبُ يشيبُ !؟ كما نجد لديها دخولَ ألـ التعريف على الفعل المضارع ، وهو غيرُ محبَّذ ، مثالُ ذلك : ص31 "غمارُ أنوثتِكِ ألـْ أشتهي" وص106 "أيا منفايَ ألـ يتوارى" وص108 "طيفُكِ ألـْ يتلوَّنُ" ، وعلى شبه الجملة ص66 "ألْـ لها" ! كما نجد لديها اهتمامًا بتقطيع الكلمات إلى حروفها ، ربما تأكيدًا لدلالة معينة أو لإيقاع معين، وتلك من المميزات الحداثية في الشعر العربي المعاصر ! الأمر الذي يتطلب قارئًا جديدًا متمكنًا ، وبقدر تمكنه تكون قدرته على كشف أبعاد النص ودلالاته . أيضًا نجدُها تتحدث بلغة المذكر وتلك من الأنماط التقليدية في الشعر العربي ، وحبذا لو تمردت عليها !
في الأخير ، قد يطول الكلامُ ويطول ، لكن بما أننا محكومونَ دائمًا بالأمل وبالوقت أيضًا فلا يسعُني إلا أن أقولَ للزميلة والصديقة آمال : لا جفَّ مدادُ يراعِكِ ولا نضبَ معينُ إبداعِكِ ودمتِ متألقةً كما أنت دائمًا !
[email protected]