سوف يحتفل المسيحيون في منتصف ليلة السبت، على عاداتهم منذ قرابة ألفي عام، بميلاد السيد المسيح في مدينة بيت لحم الفلسطينية؛ وسوف تبدأ وتنتهي الاحتفالات بهذا العيد وفق بروتوكولات "الستاتوس كوو"، وهو بالحقيقة اسم آخر لخدعة سياسية تاريخيه تضمن "حقوق" مجموعة دول اجنبية كانت قد اغتصبت "مسيح فلسطين" وسرقته وفرضت وجودها على حساب حقوق العرب المسيحيين وكنائسهم المشرقية المحلية. لن يختلف مذاق هذا الميلاد عن سالفه إلا بطعم المرارة المتزايدة من عام الى عام، وبتغييب عذابات اهل البلاد الفلسطينيين المضطهدين والفقراء، الذين ما زالوا ينتظرون خلاصهم من سطوة جنود "قيصر" وزبانيته. من المؤكد اننا لن نسمع في قداس كنيسة المهد صلاة لروح شيرين ابو عاقله ولا تعزية لقلب "الامعرية" ، ام الشهيد ناصر ابو حميد، وسائر الامهات الفلسطينيات.
اعرف ان أيام الميلاد، وأيضًا في فلسطين، معدة للفرح الخالص ولاستحضار المحبة وممارسة العطاء والسمو بالتسامح؛ ولذا سأترك مراسيم الوجع وأعود الى عالم شجرة الميلاد وذكريات طفل شارف على بلوغ السبعين، شاهدًا كيف سرقوا منه ميلاده وشجرته، خازنة الفرح وكاتمة أسرار طفولته.
المسيح لا يسكن شجرة
في بيتنا، هكذا أتذكّر. كان الحديث عن شجرة الميلاد يبدأ في منتصف كانون الأول/ديسمبر، عندها كان هَمّ أبينا الحصول على سروة رشيقة ممشوقة، يرتاح رأسها على عنق متشاوف كي يليق بحمل نجمة بيت لحم.
كنا نتحلق الشجرة، ويبدأ الكبار بتعليق ما تستوعبه من مجسّمات لنجوم خماسية وكرات زجاجية تطغى عليها ألوان الأحمر القاني والازرق والأخضر البحريين. كنا، نحن الأولاد، ندور حولهم كصغار النمل ونساعدهم بنثبيت مغارة صغيرة في أسفل الشجرة مصنوعة من خشب او من جبص ونملؤها، بمذود وبتماثيل فخارية لطفل جميل ووديع، ولبعض المواشي وللمجوس.
لقد كنّا صغارًا وفي حلّ من إلحاح الأسئلة والتفتيش على ما وراء الشجرة. في المدارس شرحوا لنا ما تعنيه المناسبة، وما ترمز إليه من قيمة وتاريخ. لُقنوا فلَقنوا وغفل معلمونا أن الزمن مُرضع الحكمة والتجارب مِسَنّ.
وقتها كنا لا نعرف إلا الفرح المطلق. وعندما كان ينتصف كانون الاول / ديسمبر ولا يأتي والداي على ذكر الشجرة كنا نتوجّس ونخشى أننا لن ننصبها، كرمز للعيد وللفرح، فربما نحن في حالة حداد على موت قريب أو صديق عزيز أو جار. كانت خضرة الشجرة طبيعية كلون الأمل، وعندما كانت تجهز بكل حليها تصير كغابة صغيرة، فيها كنا نودع أحلامنا واسرارنا. كان نصب شجرة الميلاد في البيوت حدثًا عائليًا حميميًا مجبولًا بدفء مختلف نحسّ به مرة في العام. لم تكن شجرتنا قطعة للفرجة ولا نصبًا لمزايدات من يروّجون أن الأغلى هو الأحلى.
كانت شجرة الميلاد جزءًا من ذاكرة طفولتي الباسمة، مع انها لم تزدني تديّنًا ولا ايمانًا، بل، هكذا اكتشفت لاحقًا، علمتني كيف أترك خيالي يندفع كالأيائل في مراع خضر لا تنتهي، وكيف افهم لغة الشعراء؛ فعندما كبرت فهمت ما قالته السروة "للدرويش"، ولي حين وقفت امامها مرة أبكي ضياع فراشة : "انتبه ممّا يقوله لي الغبار". لا أتذكّر متى بدأت أطلب من يسوع أن يحبّني، وأن يبعد عني المرض، وأن يجعل من أحبهم يضحكون في وجهي ! كنت طفلًا وأتمتم دعائي ثلاث مرّات، وحتى عندما كنت احسّ بالتعب لم أتنازل عن اداء صلاتي، لكنني، كنت أتلوها بتثائب واضح متأكدًا أن يسوع سيفهمها، وهي "مجعلكة" وسيقبلها؛ فمطالبي كانت أبسط من شفاء أبرص.
كنّا نفيق في الصباح على صوت الندى؛ في البيت تنبعث أبخرة بنكهة الدجاج المحشي من طناجر أمي وتملأ فضاء الحارة برائحة شهية. كانت شوارع القرية، رغم ضيقها، تعج بأسراب مزركشة من عائلات القرية يدلفون لاداء طقوس المعايدة والتزاور.
كان يسوع يحب كل القرية. كنا نطمئن له. ننام وعلى جفوننا طيفه يضيء عتمتنا ويحرس قريتنا. أحسسناه موجودًا معنا، في بيتنا وفي حاراتنا. لم يسرقه أحد ولم يحجبه شيء عنا. كنا على يقين أنه الى جانبنا ويساعدنا وجميع الناس المحتاجين ، وأنه يحب أطفال العالم. كان يسوعنا عادلًا ومنصفًا للمظلومين؛ لم نقلق عليه ولا منه، ولم نخف منه؛ فلقد كنّا صغارا وأنقياء. لم ندرك حينها أن يسوعنا، الذي ولد في المذود، سيصير أكثر من مسيح وسيصاحبه "الكبار" ويدّعيه المنافقون والدجالون ويرافقه صيارفة الهياكل الحديثة - كلٌّ وفقًا لعملته وفضّته.
عندما هجرتنا الطفولة استوطن الشك عقولنا، وعندما تبدلت البراءة بالوعي غاب عنا الايمان الفج؛ في الواقع أنا لا أتذكر متى أضعت يسوعي وتوقفت عن استجدائه. ربما كان ذلك عندما اكتشفت أنه لا يرقّ لعاشق أدمَته سهام الحاقدين والعواذل، أو ربما عندما زرت بيت - لحم ورأيت "مهده" محاصرًا وسليبًا ومهانًا من قبل جند "قيصر"، وسمعت شعبه يصلي من اجل خلاصه دون جدوى، فالغلبة ما زالت من نصيب "الشرير والبرير".
لقد كبرنا وضاع يسوعنا. أفتش عنه ولا اجده إلا طفلا ذارعًا معي شوارع تلك القرية الوادعة التي كانت قريتي وقريته. أعود وأفتش عنه فأسمع عنه في صلوات حكّام يستعينون به في الصباحات، وفي الليالي تسلخ سياطهم جلود المؤمنين الوادعين. أستجير به مجدّدًا، من أجل أبنائه المشردين والفقراء والمظلومين، فأجده يصب بركاته في خوابي أصحاب الفضة والذهب والملايين. كانت قريتي، ويسوع فيها، عالمًا من نور وطمأنينة، فصار العالم أرضًا كلها شر، وعمّ الظمأ. لقد سرقوا منا يسوع؛ فهل يا ترى هي "روما التي سرقت ديننا، مثلما سرقت حنطة الروح، من كل أهرائنا، لم تزل تستبيح الذُرى، هل ترى يا أبتي هل ترى؟". ولروح الشاعر الراحل في زمن الكورونا جريس سماوي السلاما.
كنا ننتظر الميلاد بفرح عظيم. ولم يكن عيدًا للاولاد فحسب، بل كان عيد الوداعة والأمل والسلام. بحلوله كانت آمال الناس تنطلق كقطعان أحصنة وحشية أفلتت لتعانق المدى. كانت رائحة الشتاء في الهواء بشائر خير وبركة. كنا نأوي لننام على وسائد من شوق وتحتها ملابس العيد واحذيتنا الجديدة. كانت ليالي الميلاد رحلة من نبيذ وصلاة وحنين، تصير فيها بيوت القرية المتواضعه قصورًا تفيض رضا؛ وكأن الملائكة كانت تسجن شياطين الارض والسماء، وترش على الناس سحُبًا من ورد ومسك وعنبر.
كبرنا. لا أذكر تماما متى توقفت عن ممارسة طقوس الصلاة التي كنت أَسيرها وأنا طفل لا يعرف من المشاعر إلّا أطرافها الحادة. كنت كأترابي أمارس الصلاة مثل الفرح العاري، بدون حرج النضوج واغواءات التبرّج. كنا نفرح ونحزن من غير مراسم، كجداول تبكي شحًّا بصمت وتدمع على فراق ضفافها. "كانت أنانا" هشّة كجناحي أمنية، تمارس ارتباكات الطفولها وحبها بعفوية قصوى. لقد كان كل ذلك قبل ان يصبح الطفل كهلا ويشهد على سطوة تراتيل الظلام وينام ويصحو على تعاليم الرصاص وعلى مزامير الطغاة. كان ذلك قبل ان تغتال رصاصات الغدر شيرين ابو عاقله وتبعثها الى العدم "عروسًا لا عريس لها"، وكذلك قبل ان ينفطر قلب "الامعرية" مرة تلو المرة على فقدان فلذات أكبادها وإبعادهم عنها.
غدا ستحل ليلة الميلاد، فيا ليتني أعود طفلًا ولو لليلة واحدة، ساعتها قد أجده .. ربما.
[email protected]