* القارئ شاهد على النص: أعترف مقدمًا بأنني، في هذه العجالة، قد لا أستطيع أن أفيَ، لا الكاتبة المبدعة هدية علي ولا آمالَها المعتقة، حقهما من القراءة المعمقة رأسيًا وأفقيًا. وما ذلك إلا لعوامل وظروف موضوعية خارجة عن الإرادة! فنحن كما يبدو، سوف نظل محكومين بالعمل وإشكالياته، ولاسيما بالأمل وتبعاته شعار المرحوم سعد الله ونوس. إن القراءة الفعلية، كما نعلم جميعًا، هي الترجمة الحقيقية لوجود الأثر الأدبي، فكل أثر أدبي لا وجود له مهما كانت قيمته أو شهرته، إن لم يُتناول بالقراءة الفعلية على أرض الواقع، تجسيدًا للعلاقة المتواضع عليها بين النص والقارئ. من هذا المنطلق، أمكن أن يعدَّ القارئ المتخصص، من خلال قراءته المنتجة والمضيئة، شاهدًا على وقائع النص وسياقاته.
هذه قراءة، لا تدعي أنها جامعةٌ مانعة، إنما هي مجرّدُ مقاربةٍ ليس أكثر، عملاً بروح القاعدة المبدأية: ما لا يدرك كله لا يترك جلُّه!
كما هو معلوم، فقد صدرت الرواية عام 2012 في طباعة مرتبة وأنيقة، وبتجليد من الورق المقوَّى، يبلغ عدد صفحاتها 348 صفحة من القطع الكبير، من دون ذكر لدار النشر. ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذه الرواية هي الثانية للكاتبة هدية علي من قرية بيت جن في الجليل الأعلى، بعد أن كانت أصدرت روايتها الأولى وعنوانها "أجراس الرحيل" عام 1989.
قد يكون من اللافت أن نتوقف عند بعض فقرات الإهداء لما فيها من لوحات مضيئة ودلالات معبِّرة، على النحو الآتي: "إلى من يقدرون الأرض ويعطونها حقها، إلى الذين كافحوا وصمدو بعز وكرامة في أحداث الزابود*. إلى كل من يتدثر بزوجته وكأنها عباءة حريرية يشد نعومتها لجسده العاري وتاجٌ ملوكي يسطع فوق هامته، ولا ينتعلها كحذاء يدوس به في وحل أوهامه وجموحه وضعفه.
إلى زوجي الغالي شكيب علي. إلى من يستحقون أن يُضحى لأجلهم بكل نفيس وغال، أولادي زينة الحياة الدنيا: آية، ريما، شيرين، تمير" (ص6).
ومما جاء في مقدمة الرواية المعنونة "رواية شجاعة وأصيلة" التي كتبها الأديب محمد نفاع: "الرواية أصيلة من حيث تشخيصها للبيئة الاجتماعية السائدة اليوم في القرية العربية، مع ما طالها من ظلم وحرمان ومصادرة أرض، ومع ما طالها من تطور في بعض نواحي الحياة لفئة متوسطة من الناس... هنالك مواجهة مبطنة في استلاب المرأة لحقها الطبيعي في المجتمع وبدون إسفاف... وتبلغ الكاتبة قمة من قمم الجرأة حتى في التعاطي مع العلاقة الاجتماعية بين الجنسين بلا رمزية ولا لف ولا دوران، بل فيها مباشرة صارخة أحيانًا" (ص11)!
والذي يبدو لي، أننا بصدد كاتبة تغذ السير بخطوات واثقة، في طريقها نحو رفد الحركة الأدبية المحلية بنتاج أدبي ذي نكهة خاصة، فضلاً عن نتاجها الأدبي الذاتي أيضًا، لما تتمتع به من مخزون ثقافي نابع من البيئة القروية القريبة بكل تفاصيلها، مع ما لديها من تمكن في السرد الروائي، وقدرة على التعبير، ما يعكس حقيقة الواقع ويلامس الواقعية في آن معًا، أملاً بالوصول إلى ما يؤهلها لأن تتبوأ، بجدارة، مكانة لائقة في مشهد حركتنا الأدبية المحلية.
2
لكلِّ فنٍ منطلقاتُه الخاصة، ومنطلقاتُ الأدبِ أبعادٌ أربعة تحكمُهُ، وهي: الإنسان والمكان والزمان واللغة، بها ومنها يتشكل النسيج الأدبي الإبداعي، وكلُّ فن آخر. بمعنى أنه ليس بإمكان أيِّ مبدعٍ أو أديبٍ تحديدًا، أن يتخطى تلك العناصرَ الأساسية أو يتجاوزَها، وقد تمثلتها الكاتبة في ثنايا روايتها "الآمال المعتقة" على أكمل وجه. علمًا أنه لا يكفي أن يكون الأثرُ الأدبيُ فنيًا فحسب، إنما يجبُ أن يكون أنسانيًا قبل كلِّ شيء.
فيما يأتي سوف نحاول أن نتلمسَ بعضَ السماتِ البارزة، على سبيل المثال لا الحصر، في رواية "الآمال المعتقة":
* الإنسانية أولاً: تتجلى مظاهر القيم الإنسانية في رواية "الآمال المعتقة" بأزهى صورها في غير لوحة فنية تعرض لها الكاتبة، فهي تضفي محبتَها وعنايتها على من حولها، وتعاطُفَها مع الجميع، بنظرة متساوية تخلو من أية تفرقةٍ أو تمييز على أي أساس كان، كقولها "وهذا من حقهما، فلا فرقَ بين الزوجة الدرزية وبين أي فتاة يهودية أو أجنبية متحررةٍ تمارس الحبَّ مع زوجها" (ص20)! وبعيدًا عن أية مشاعرِ الكراهيةِ والأحقاد، مثال ذلك قولُها "أتحقُّ لنا كلُّ هذه السعادة وعدة جنودٍ إسرائيليين ومواطنينَ وجنودٍ لبنانيين قد ماتوا اليومَ؟!" (ص50). وللإشارة فقط، فإن تلك السمةَ تعدُّ إحدى أهم السمات التي يمتاز بها أدبنا المحلي. فأدبنا المحلي، بكافة أجناسه، ومنذ أن بدأ يتشكل وهو يحافظ على إنسانيته بالدرجة الأولى، لما يحمله من مبادئَ إنسانيةٍ وقيمٍ حضارية تدعو إلى الخير والمحبة والسلام، فهو يخلو نهائيًا من أية مظاهرَ عنصريةٍ ذات أبعاد ضيقة، يمكن أن تفوح منها رائحة البغضاء والكراهية العمياء.
* المحليّة: ثمةَ سمةٌ أساسية ومحورية أخرى يمكن للقارئ أن يتوقف عندها طويلاً ألا وهي: المحليَّة، فهي بزمانها ومكانها وشخوصها، غالبة على أجواء الرواية. وهي إن دلّت على شيء فإنما تدل على مدى ارتباط الأدبِ ببيئتهِ التي أنتجته، واهتمامِ الكاتب بمجتمعه الذي أنجبَه. فالرواية جاءت ملونةً، أي أنها تحفل بموضوعات من مجالات الحياة القريبة المتعددة، كما تعرضُ للعلاقات الأسرية والزوجية والاجتماعية، والعادات والتقاليد والأعراف والقيم الدينية، التي أكل الدهر على بعضها وشرب. فالرواية تتوقف عندها وتناقشها تارةً بجدية وأخرى بسخرية لاذعة لكنها هادفة، مع ما يصحبها من جرأة تستحق الثناءَ والتقدير. وللتذكير فقط، فإن المحليةَ تعدُّ نقطةَ الانطلاق الأولى، ومن السمات الأساسية البارزة لكل كاتب أو مبدع يعرِف كيف يشق طريقه نحو آفاق العالمية. هكذا فعل نجيب محفوظ، وهكذا فعل محمود درويش على سبيل المثال لا الحصر، في كتاباتهما الأولى قبل أن ينطلقا إلى رحلة العالمية.
* جرأة وتمرد: يمكن للقارئ أن يلحظ ما تتمتع به الرواية من شجاعة أدبية، وجرأة موضوعية لافتة، لا بل وتمرد ورفض واضحيْن لأنماط من الحياة باتت بالية لا تساير الركب أو العصر، جنبًا إلى جنب تملكها لأسلوب ساخرٍ لاذع، وتلك سماتٌ تسجَّلُ لصالحها. وذلك بالنظر إلى ما تعرِضُ له من آراءٍ وتناقشُه من أفكارٍ ومواقفَ، بجرأة متناهية كما ذكرت، حتى في العلاقات الأسرية والزوجية والاجتماعية والدينية والصداقة، وظروف العمل، وما يقلق الفتاة والمرأة والزوجة العربية، من همومٍ وهواجسَ وأحلام، لا تزال تقض مضجعها إلى اليوم، فإنها لا تترددُ بأن تسميَ الأشياء بأسمائها! وهي تحاول كسرَ الحواجزِ المعيقة والأعراف التقليدية الراسخة، وذلك من أجل تجاوزِ الواقع الراهن، نحو الأفضل والأجدر. وقد كانت الكاتبة "تتسلل"، من حين لآخر، إلى داخل كل واحد وواحدة ممن حولها، لتصغيَ إليهم جميعًا باهتمامٍ بالغ، وهم يبوحون بما لديهم من أسرار، أو يعترِيهم من مشكلات، وتشاركُهم ما لديهِم من أوجاع وهموم، هي من صميم واقع الحياة ونظامِ العلاقات والروابط، بين المرأة والرجل، في الأسرة والطائفة والمجتمع الصغير والكبير. وإن كنا نختلف معها، أحيانًا، في الموقف، من قضايا معينة، لاسيما حين يأتي على استحياء كقولها "بمرارة قالت: أهكذا تعتقد؟ إن مستقبلك ليس في الجيش هكذا أوهمتني في بداية علاقتنا، ولكنك بصراحة خدعتني"(ص17)! على أن اختلافَ الرأي لا يُفسدُ للود قضية، كما يقال!
كذلك، يُرى الاتصال والتداخل ما بين أحداث الرواية والكاتبة، مباشرًا وماثلاً أمامنا بكل تجلياته، مما يؤكد على أن في ثنايا النص من تكوين حياة الكاتبة الشخصية والنفسية ومن ذاتها، من فكرها وأفكارها، من رؤيتها الاجتماعية والثقافية والدينية والإنسانية، من الوعي واللاوعي الفردي والجمعي على السواء. الأمر الذي يجعل الرواية أشبه ما تكون بالمرآة التي تعكس حقيقة الكاتبة أو بعضَها في أقلِّ تقدير! وهو بالتالي ما قد يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن الروايةَ، في منظور ما، لم تتشكلْ من فراغٍ، إنما هي أقربُ ما تكون إلى أسلوب السيرة الذاتية.
* لغة الرواية: النص تشكل أو خطاب لغوي بالدرجة الأولى، فيه إفصاح عن كينونته من خلال الألفاظ والمفردات والدلالات وما إلى ذلك. لقد نجحت الكاتبة في تحقيق قدر كبير من الملائمة ما بين لغة الرواية، وإن جاءت مكشوفة، وبين أحداثها أو مضمونها، بمعنى أن مستوى اللغة الذي توظفه الكاتبة في روايتها جاء منسجمًا مع مضمونها إلى حد التكامل، وهو وضع الكلام المناسب في المكان المناسب، أي ما يفرضه مقتضى الحال، كما يسمى في البلاغة العربية. وتلك ملاحظة جديرة بالاشارة لما تحمله، في طياتها، من دلالة إيجابية تسجل لصالح الرواية. وقد انعكس ذلك جليًا في خدمة أسلوب الرواية، حيث جاء ينساب على نحو جاذب وشائق، وبتسلسل تدريجيًا على نحو منطقي مقبول، ما جعله ينفذ إلى الوجدان ويحرك المشاعر من جهة، ويستثير العقل لأجل التأمل والتفكير من جهة أخرى، لاسيما مع ما تبديه الرواية من تعالق الكلام بعضِه ببعض، أو كما يُقال: بأن الكلامَ في الرواية آخذٌ بعضُه برقاب بعض! وهو في هذا وذاك، إنما ابتغاء الوصول إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المتعة المشتهاة لدى القارئ! الأمرُ الذي يثبت بأن الكاتبة تتمتع بمعرفة قوية بخبايا المجتمع وأفراده، وما يدور من كلام متناقَل في السر والعلن، وبمقدرةٍ فائقة على السرد الجميل، على الرغم من تطاوله بعض الشيء من حين لآخر، خاصة وهي تعير صوتَها الساردَ إلى شخصيات الرواية. ولو تركت الشخصياتِ وجعلتها هي التي تتحدث بنفسها عن نفسها لكان أفضل. ولأن الرواية جاءت حافلةً بالتفاصيل، فالأمر، كما يبدو، أثقل كاهلها وأدى بها إلى شيءٍ من الترهل. وقد جاء الاهتمام أكثرَ ما يكون بالسردية الخبرية على حساب الناحية الأدبية أو الفنيةِ في الرواية. ومعروف أن أيةَ كتابةٍ، لأي نص، تقتصر على النظر إليه على أنه محضُ وثيقةٍ خبرية أو إخبارية، ولا تلفت إلى الجوانب الأدبية والفنية، من جمال وانزياحات ورمز وخيال ومستوى اللغة فيه، سوف تظل قاصرةً وغيرَ مكتملة. من جهة أخرى، نحن لسنا ماضيًا فحسب بل حاضرًا ومستقبلاً! فالأصالة لا غنى عنها، هذا صحيح، لكن المعاصرةَ والحداثةَ ما زلنا نسمع عنهما! فالكاتب، كما يُفترض، لا يُترجم أو يصوِّر ما هو كائن أو موجود فحسب، بل ما هو ممكنٌ أو بالأحرى ما يجب أن يكون! لقد أولت الروايةُ للعقل حيزًا أكبر من حيز الخيال والعكسُ هو الأصحُّ وهو الأفضل في نظري، لأن الخيال في الأدب يجب أن يتقدم على العقل.
وقد يلحظُ القارئ بأن التوسعَ في سرد التفاصيل قد جاء أفقيًا لا رأسيًا، بمعنى أن الرواية، في ما عرضت له من حوادثَ وأحداثٍ، لم تسبرْ غورَ مجتمعنا المحلي إلى العمق، كما يبدو، وإنما اكتفت بالتحرك أفقيًا، مما أوقعها في عملية السرد النمطي السطحي من دونِ أن تنفذ إلى طبقات أعمق، وبذلك تكون قد فوتت الفرصة أيضًا على القارئ ولم تمكنْه من الغوص إلى أعماق النص، ومن ثَمَّ إلى أعماق المجتمع أو جذور قضاياه الملحة، وهو ما يشغله أو يثقل كاهله. فالمجوهراتُ لا تطفو على السطح، كما هو معروف، إنما تكمن في الأعماق. فكان من باب أولى ضرورةُ استثمار دلالات اللغة وتفعيل حمولاتِها وطاقاتِها الكامنة، بغيةَ إتاحةِ الفرصة أمام مهارات القارئ، وتمكينه من التفاعل المنتج لا مجردَ الانفعال المستهلِك.
* إجمال: مهما يكن، فإنه لا يساورني أدنى شك بأن "الآمال المعتقة" روايةٌ تستحق منا كلَّ ثناء وتقدير لأنها جديرة بالقراءة، أضف إلى ذلك، فإن الجهد المبذول فيها واضحٌ للعيان، والقيمة المضافة والفائدة والمتعة قد تحققت جميعها، فنحن بحاجة إلى كل نقطة ضوء بإمكانها أن تضيء ولو جانبًا واحدًا من جوانب حياتنا المعتمة. ويثبت واقع الحال أن "الآمال المعتقة" نتاج كاتبة مبدعة، تتمتع بمخزون معرفي وثقافي ولُغوي لا ينضب، ناهيك بمعرفتها الاجتماعية وخبرتها بالبيئة التي تعيش بينها لجهة منظومة الروابط والعلاقات التي تقوم عليها، وهو ما سوف يؤهلُها لأن تترجمه على أرض الواقع مستقبلاً أكثر فأكثر، إلى مزيد من العطاء الإبداعي الجديد والمتميز، وإنها لقادرةٌ على فعل ذلك، فقدمًا إلى الأمام، ونحن بالانتظار.
* يقع جبل الزابود في الجهه الشماليه الشرقيه من قرية بيت جن، وفي منطقة الزابود والى الشرق منه، تقع خربة الزابود ويرتفع الجبل حوالي 1006م عن سطح البحر. وخربة الزابود خربه اثريه في بلاد صفد واليها نسب الجبل المجاور ودعي بجبل زابود. وجاء هذا الاسم من كلمة الزبده وهي من مستخرجات الالبان المر الذي يدل على وفرة خيرات هذه المنطقه وشهرة الزبدة الزابوديه وصلت الى منطقة الشام على حد اقوال المعمرين. (المصدر: مالك صلالحة، (1993)، بيت جن عبر التاريخ، شفا عمرو، دار المشرق للترجمة والطباعة، ص93).
[email protected]