تهدف الدراسة إلى الوقوف على واقع ((نقد النقد)) في أدبنا المحلي ، في ضوء النقص الحاد الذي تعانيه مسيرة الحركة الأدبية والنقدية منها بخاصة . لم يحظ هذا الموضوع إلى الآن ، باهتمام كتّاب النقد الأدبي المحلي ، وخير دليل على ذلك ، أن المتتبع لا يلحظ وجود كتاب خاص بنقد النقد .
تكمن وظيفة النقد الأدبي ، في إضاءة جوانب النص الأدبي والكشف عنها من وجوه متعددة من أهمها : جمالية ومعرفية .
في حين ، يمكن تعريف مهمة نقد النقد في الآتي : هو نشاط معرفي يقوم بمراجعة الأقوال النقدية كاشفاً عن سلامة مبادئها النظرية وأدواتها التحليلية وإجراءاتها التفسيرية والتأويلية .
في ضوء ذلك الواقع ، تبدو الحاجة ماسة إلى وجود نقد النقد ، وهذا يتطلب البدء بالتأسيس لهذا المشروع ، لاسيما وقد مضى على عمر حركتنا الأدبية المحلية ما يزيد عن ستة عقود ، علماً أن العمر الحقيقي للأدب لا يقاس بالزمن ، لكنه بكل تأكيد لا يحدث خارجه .
تخلص الدراسة إلى : أن الطريق الأمثل للنهوض بالنقد الأدبي ، هو وضعه موضع النقد والمساءلة .
قد لا يكون من نافل القول ، التأكيد على أن هذه المقاربة تعرض لأحد روافد الثقافة الفلسطينية ، تلك التي تطورت وتفاعلت على الرغم من التوزيع الديموغرافي القسري لشعبنا العربي الفلسطيني ، المنتشر في الوطن المحتل وفي أقطار الوطن العربي ، وسائر أرجاء العالم وبقاعه كافة ، أما محصّلتها النهائية فتصب في نهر الثقافة الفلسطينية الواحدة والموحَّدة . فمهما تباينت هذه الروافد الأدبية أو تناسقت ، سواء في داخل الوطن المحتل أو في خارجه فإنها ستظل تشكل وحدة واحدة ، لأنها تصدر عن ذات واحدة ، هي ذات الإنسان الفلسطيني أينما كان ومتى كان !
تتكشف ، يومًا بعد يوم ، الحاجة إلى ((نقد النقد)) لاسيما في ضوء النقص الحاد في هذا اللون ، الذي تعانيه مسيرة الحركة الأدبية المحلية والنقدية منها بخاصة . الكتابة في ((نقد النقد)) ربما لم يتم التطرق إليها إلى الآن ، بل إنها تكاد تكون شبه معدومة لدينا ، فنحن لا نعثر لها على أثر تقريبا في مشهد أدبنا المحلي السائد ، طبعًا باستثناء شذرات متفرقة ومبعثرة هنا وهناك ، بين ثنايا الكتب أو المقالات ، أو في الصحف والمجلات ، لا تعدو كونها كتابات محدودة الجدوى ، وغالبًا ما تنأى عن تقديم صورة صادقة للأثر الأدبي المنقود ، كما تنقصها الشجاعة الأدبية والجرأة النقدية .
لم يحظ موضوع ((نقد النقد)) ، إلى الآن ، باهتمام كتّاب النقد الأدبي المحلي ، وخير دليل على ذلك ، أن المتتبع لا يلحظ وجود كتاب خاص بـ ((نقد النقد)) .
بقي ((نقد النقد)) ، لدينا ، مغيّبا طوال هذا الوقت . فإذا كان النقد الأدبي ، كما يبدو ، لم يتطور بالمستوى الذي نرغبه جميعًا ، ولم يشتدَّ عوده بعد كما يجب فكيف بـ ((نقد النقد)) ؟! إنه ما زال الحلقة الأضعف في المشهد الأدبي المحلي . كما لا نستبعد أن يكون سبب التأخير نابعًا من عدم إدراك أهمية الموضوع ، وثمة سبب آخر ، ألا وهو انعدام الجرأة التي
يتطلبها موضوع ((نقد النقد)) من جهة أخرى !
استأثر النقد الأدبي المحلي بنصيب غير قليل من الكتابات الاستعراضية والصور القلمية السريعة ، التي يغلب الإعجاب على أكثرها . فقد أدلى كثيرون بدلوهم بكتابات جاءت في معظمها مقاربات أو عُجالات عامة ، لم تلامس موضوع النقد الأدبي من الداخل بل آثرت ملامسته من الخارج فحسب ، حيث طغى على معظمها أسلوب التعميم والتسطيح والتقريرية والمباشرة والإنشائية ، ناهيك بإطلاق الأحكام المعيارية أي القيمية . علمًا أن النقد الأدبي الحقيقي يربأ بنفسه أو قل يتحاشى ، قدر الإمكان ، الخوض في ذلك ، بغية الحصول على نص نقدي يشبه إلى حد كبير النص الأدبي لكل شيء ، لا يقل إبداعًا عنه إن لم يكن يفوقه ! فإذا كان النص الأدبي يشتمل على التركيب أي البناء الإبداعي ، فإن النقد الأدبي يشتمل على التحليل ، والتفكيك ، والتركيب ، والبناء الإبداعي معًا ، ناهيك بجوانبَ أخرى .
هكذا ، لم ترقَ تلك الكتابات النقدية إلى المستوى الفني المطلوب ، ولم تتحرّر من شرنقة النقد النمطي ، بحيث تتمكن من توجيه مسارِ حركة النقد الأدبي المحلي الوجهة الصحيحة نحو صياغة رؤية نقدية واضحة المعالم ، الأمر الذي قد يجعلها تقف في مصاف الظاهرة النقدية الحداثية ، لكنها ، بكل أسف ، بقيت ، في غالبيتها العظمى ، تراوح مكانها .
وعلى الرغم من ذلك الواقع الصعب ، فليس من الإنصاف أن يُنكر الباحث ، على تلك المحاولات النقدية ما بذلته ، وما تبذله من مجهودات محمودة المقاصد ، وهي تشق طريقها الوعر الذي ما زال في بدايته . وحسب تلك النقود من ميزان حسناتها ، أنها حرّكت ما كان ساكنًا ، من مسيرة الحركة الأدبية والنقدية على حد سواء ، فالحركة النقدية ليست خلوًا من النقود الأدبية المعتبرة ، لاسيما ما ظهر منها في الثلاثة عقود الأخيرة تحديدًا .
إن المتتبع لمسيرة حركة النقد الأدبي المحلي في بلادنا ، منذ بداياتها إلى الآن ، يستطيع أن يلحظ محاولات نقدية مبكّرة جادّة ، نشأت في أرض يباب ، نهض بها ، وأسّس لها نفر من الأدباء النقاد نذكر منهم ، مثالاً لا حصرًا ، من الرعيل الأول :
جبرا نقولا ، وإميل توما ، وعيسى لوباني ، وحنا أبو حنا ، وتوفيق زياد ، وأحمد توفيق ريناوي ، وطه محمد علي ، ومحمود درويش .
ومن الرعيل الثاني : فاروق مواسي ، ونبيه قاسم ، ونعيم عرايدي ، وحبيب بولس ، وحسين حمزة ، ورياض كامل ، وعطا الله جبر ، وآخرون .
ولا يُعدم ، بإزاء ذلك ، وجود الدراسات الأدبية التي تسير حسب المناهج الأكاديمية ، وقد بدأت تتبوأ مكانة لائقة في الحياة الأدبية المحلية ، نذكر من هؤلاء :
جورج قنازع ، وفهد أبو خضرة ، ومحمود غنايم ، وسليمان جبران ، وإبراهيم طه . هذه المجهودات الحثيثة يمكنها أن تقدّم دفعة قوية لأجل التسريع في نهوض الحركة الأدبية كافة والنقدية خاصة .
لقد نهض أولئك جميعًا بمحاولات لها قيمتها وأهميتها ، لما تركته من أثر واضح في مسيرة الحركة الأدبية والنقدية المحلية ، مع فهم لخصوصية واقعنا في مراحل معينة ، حتى إنها تركت أياد بيضاء بارزة على طريق الحركة الأدبية والنقدية المحلية . إلا أن تلك الدراسات الأكاديمية منها والانطباعية تحديدًا ، بقيت قاصرة عن مواكبة التطورات الجديدة في الأساليب والمناهج والمدارس النقدية ، العربية والغربية سواءً بسواء !
وتتلخص وظيفة النقد الأدبي ، في إضاءة جوانب النص الأدبي والكشف عنها من وجوه متعددة : جمالية ومعرفية ، كما أجملها أحد الكتّاب قائلاً على النحو الآتي " تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية ، وبيان قيمته الموضوعية وقيمته التعبيرية والشعورية ، وتعيين مكانه في خط سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التراث الأدبي في لغته ، وفي العالم الأدبي كله ، وقياسُ مدى تأثّره بالمحيط وتأثيره فيه ، وتصوير سمات صاحبه وخصائصه الشعورية والتعبيرية وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك " (1) .
ولا بأس أن تُعد ، تجربة النقد الأدبي ، فعالية إبداعية دينامية : اجتماعية وثقافية ، مضيئة ومنتجة لا مستهلكة فحسب . بمعنى أن النقد الأدبي " يتفاعل مع النص ويحاول كشف أنساقه وعلاقاته الداخلية وتفاعلاته الذاتية والموضوعية ، لكنه لا ينحصر بالنصوص بل يمتد إلى آفاق أكثر رحابة من أجل فهم أكثر للإنسان وفهم أفضل للعالم " (2) .
في حين يمكن تعريف ((نقد النقد)) على النحو الآتي " هو نشاط معرفي ينصرف إلى مراجعة الأقوال النقدية ، كاشفًا عن سلامة مبادئها النظرية وأدواتها التحليلية وإجراءاتها التفسيرية " (3) .
ورأى آخر أن ((نقد النقد)) " يدور في معظمه حول نوع المعرفة التي يبتغيها الناقد ، أو التي يمكنه الوصول إليها . ويتمثل ((نقد النقد)) في اتجاهات فكرية متعددة ، أهمها ثلاثة : الاتجاه الفينومينولوجي… الاتجاه الثاني السيميولوجي (علم الرموز) الاتجاه الثالث النفسي " (4) . وقد أُطلق عليه في النقد الغربي المعاصر (Meta-Criticism) ويُعنى بثقافة القارئ أو الناقد المختص وبمرجعياته المعرفية المتعددة من ثقافية ومهنية .
هكذا كثرت ((الأوراق النقدية)) لدينا حتى اشتبهت ، واختلط الحابل بالنابل . فثمة من كتب في النقد الأدبي ، وليس له شأن فيه ، ذلك لأنه لا يملك من وسائله أو أدواته شيئًا . فكان كمن ينطبق عليه المثل الذي يقول ((يهرف بما لا يعرف)) ! ومنهم من كتب فيه ، دون أن يفهم ظاهر النص وتفسيره كما يجب ، فكيف له أن يفهم باطن النص ، أو تأويله ؟! لاسيما لدى من يؤثر الرمز والإشارة على التصريح والعبارة ، أو الانزياح مثلاً ، أو أية مظاهر أخرى قد تعتري البِنية اللغوية لنص ما ، كيف له أن يكتب في النقد الأدبي ناهيك بـ ((نقد النقد)) ؟! ومنهم من آثر أن يكتب المقالات الاستعراضية ، التي تكاد تخلو من أي تفاعل أو تأثّر أو تأثير ، ومنهم ، وهم كثر ، من كتب في تاريخ الأدب لا في نقد الأدب !
ولا يحتاج المتتبع ، لبعض النقود الموجودة في متناول يدنا ، إلى كبير جهد ، حتى يتبين تلك المغالطات والتناقضات التي تعتريها ، ما يؤكد على أن نقودًا كتلك ، يمكن أن تُسيء للأدب أكثر مما تُفيد ، لاسيما بعد أن تغيّرت الإجراءات النقدية تنظيرًا وتطبيقًا !
قد يكون النقص الحاد في النقد الأدبي الحقيقي من جهة ، والحاجة الماسّة إليه من جهة أخرى ، في مشهد الحركة الأدبية المحلية ، هو الذي شكّل الدفيئة الحميمة ، لمثل تلك الكتابات النقدية ، وهو ما جعلها تطفو على السطح ، على الرغم من أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من مقاييس النقد الأدبي المنهجي ، وآلياته الأساسية ! وتقف في جلّها عند مناهج النقد الاجتماعي والتاريخي والنفسي والتفسيري ولا تتخطاها ، وتلك مناهج عفا عليها الزمن قد لا يصح الاكتفاء بها ، لاسيما بعد التطورات والتحولات الكبرى ، تلك التي أحدثتها وسائل الاتصال والتقنيات المعلوماتية الحديثة ، والمدارس النقدية ، ومناهجها المختلفة : الأسلوبية ، والألسنية ، والبِنيوية ، والعلوم الإنسانية الحديثة الخ...!
إن الكتابة في النقد الأدبي مهمة ليست سهلة ، ولا تنقاد بسرعة لكل من يطلبها . إنها فعالية إبداعية صعبة للغاية وبطيئة جدًا ، لكن في غياب المراقبة والتحكيمِ يصبح كل شيء مباحًا ! هنالك حاجة ماسّة إلى توسيع حدود آفاق المرجعية النقدية بشقيها : المهني والثقافي بُغية إثراء هذه التجربة النقدية ، كي تصبح تجربة ناضجة . علمًا أن كل كتابةٍ ، هي التي تدل على كاتبها ، وهي التي تتحدث عن نفسها بنفسها ، وهي التي يجب أن تثبت نفسها وصاحبها ، النقد الأدبي وبمعنى آخر النقد الثقافي يكشف ، بالضرورة ، عن وعي الناقد وثقافته ومعرفته وإبداعه !
يقول فولتير في الناقد " الناقد الممتاز هو الفنان الجزيل العلم ، الغزير الذوق ، البعيد عن الغرض والحسد ، ولكن هذا صعب وجوده " (5) !
من هنا ، لا نستبعد أن يكون أحد أسباب عدم تطور النقد الأدبي المحلي بالمستوى المطلوب ، وما يعتريه من أزمة حقيقية تعيق تطوره ، هو هو غياب ((نقد النقد)) ! أما فقدان المناخ الملائم من حريات الفكر والتعبير ، فكان شوكة أخرى في خاصرة النقد الأدبي المحلي ، كأن لسان الحال هذا السؤال : أنا أخشاك فكيف أجرؤ على نقدك ؟!
وبسبب الظروف القسرية التي فرضت على أبناء شعبنا في الداخل ، مباشرة بعد وقوع النكبة عام 1948 ، وما تبعها من أنظمة الحكم العسكري الجائرة وسياسة العزل والحصار وإغلاق للحدود على أدبنا المحلي بما فيه النقد الأدبي ، فقد حيل دون متابعته أو ملاحقة تطوره وتقويمه من الأشقاء في أقطار الوطن العربي خارج الحدود ، ناهيك بأسباب أخرى ، يضيق المجال هنا عن تعدادها !
في هذا السياق ، ومن باب الإشارة فقط ، لا من باب تعزية الذات يُشار إلى أن واقعَ حال ((نقد النقد)) لدينا ، قد لا يختلف عنه في سائر أرجاء الوطن العربي ، فمظاهر هذا الضعف موجودة أيضا على مستوى النقد الأدبي العربي ، مما حدا بأحدهم إلى أن يشير " إلى تلكَ الثغرة المتمثلة في ضعف نقد النقد " (6) وأن يعلن في مرحلة لاحقة " إن وعيَ النقدِ لذاته ضرورة لازمة . ولعل لنا أن نتساءل عن الناقد العربي الذي جسّد تواضع وشجاعة النقد الذاتي حتى الآن ؟ " (7) .
لم ينهض ، إلى الآن ، هذا اللون الأدبي ، أعني ((نقد النقد)) ، بشكل قوي وواضح ولم تكتمل بعد معالم الكتابة فيه ، لذلك يقول أحدهم بأن " خطاب نقد النقد ، والتنظير في الثقافة العربية لا يملك قوة انتظامه الذاتية ولا يملك مرجعية ، بل لا يملك فرضيات عمل نابعة من صميم الثقافة العربية ومن صميم الممارسة الإبداعية والفكرية الخاصة به " (8) ! ثم لا يتردّد أن يقرر بأن مفهوم ((نقد النقد)) ما زال في مرحلة النشوء أي البداية ، حيث يقول " إن مفهوم ((نقد النقد)) إلى يومنا هذا ما زال ((مفهومًا)) يشيّد ويبنى " (9) !
وكان من الطبيعي في ظل مثل تلك الأجواء ، لاسيما في غياب ((نقد النقد)) ، وما فيه من مساءلة أو ((محاكمة)) أن تسود النقود النمطية التي تكتفي بالتقليد والإتباع ، بدل التجديد والإبداع !
فيما يأتي بعضُ الأمثلة ، التي أزعم أنها تحتاج إلى المراجعة وإعادة النظر . وبما أنها تشكل جزءًا لا يتجزّأ من تجليات النقد الأدبي المحلي ، فإنها يُمكن أن تقدّم صورة مصغّرة للإشكالية المطروحة .
* المثال الأول : يقول الأديب الراحل إميل حبيبي ، في سياق تصوره للأدب الذي ينشده أو يدعو إليه في مرحلة ما بعد النكبة " إننا نستهدف أدبًا يخدم الشعب في نضاله نحو مستقبله ، أدبًا يثير الوعيَ الذاتي في نفوس الشعب ، ويمنح الشعبَ فهمَ دوره وفهم العالم المحيط به وفهمَ التناقض الأساسي القائم في المجتمع ، بين غامسي اللقمة بعرق الجبين وسارقي هذه اللقمة " (10) . من الواضح أن هذا الأدب الذي يدعو إليه حبيبي طبقي ، فهو يدعو إلى مكافحة الطبقية ! تُرى هل كان الصراع في بلادنا ، يومًا ما ، طبقيًا ؟!
* المثال الثاني : عن الفصل بين النص وصاحبه ، يقول الناقد نبيه القاسم " أنا ضد هذا التوجه... أنا لا أرضى بفصل الكاتب عما يكتب ، وأعتقد أن الكاتب الذي يكتب شيئًا لا يمارسه ولا يؤمن به يجب أن يُكشف " (11) !
قد لا يختلف اثنان بأن موضوع النقد الأدبي هو النص الأدبي . ما يعني الناقد الأدبي بالدرجة الأولى هو عالم النص ومدى أصالته ، لا عالم صاحبه ! أليست قيمة النص في ذاته لا في صاحبه ؟! ربّ تساؤل يتبادر : لماذا يُمنح الناقد الحق بأن يكشف عن هُوية الكاتب ويهتك دخيلته ، في حين يُمنع منه الكاتب ؟! ألم يكن من الإنصاف والعدل المساواة بينهما ، بشكل متبادل ، فيتسنّى للكاتب أن يرفع الشعار ذاته ، في وجه الناقد ويسأله : لماذا لا يمارس ما ينادي به في نقده الأدبي ، على أرض الواقع ؟! الأدبُ الحقيقي والنقد الحقيقي يجب أن لا يخضعا لأي قيد أو شرط !
يقول الراحل جبرا إبراهيم جبرا في مرحلة ما من مراحل أدبياته " أما التقييم الحقيقي للعمل الفني فهو العمل نفسه . ليس المهم أن نعرف من هو ((هوميروس)) وإنما المهم أن نعرف ما هي ((الإلياذة)) ، لا يهمنا أن نعرف من هو شكسبير وإنما يهمنا أن نعرف ما ((هاملت)) " (12) . من هنا أمكن القول : إن الناقد الحق يجب أن يُعنى ، بالدرجة الأولى ، بهُوية النص وإذا أمكن بسياقه ، لا بهوية مبدعه ! لكن ليس إلى الحد الذي يدعو إليه ((رولان بارت)) في شعاره المتمثّل بـ ((موت
المؤلف)) ، أو ((لا شيء خارج النص)) !
* المثال الثالث : يقول شموئيل موريه ، أستاذ الأدب العربي الحديث في الجامعة العبرية : " عندما تنبّه أدباء الدول العربية ونقادها إلى [على] هذا الأدب العربي... ، أطلقوا عليه خطأً اسم ((أدب المقاومة)) لأن غالبه أدب سياسي ، تناول عوامل وأحداثًا تزول أهميتها بزوال بواعثها . فالأشعار والقصص التي تحدثت عن الحكم العسكري ، زالت أهميتها بإلغاء الحكم العسكري ، إذ أن الأدب الخالد هو الأدب الإنساني الذي يلائم كل مجتمع وبيئة وعصر " (13) !
وليس هذا الرأي مما يحتمل الرد أو المناقشة ، في تقديري ، ومع ذلك أقول : تعدُّ الكتابة ، شكلاً من أشكال المقاومة ، وبالتالي فإن سلاح الكلمة لا يقل مضاءً عن أي سلاح . بالإضافة إلى أن الكلمة هي فعل المقاومة الدائم ، يقول محمود درويش :
" لم نكن قبلَ حزيرانَ كأفراخ الحمامْ
ولذا ، لم يتفتّت حُبُنا بين السلاسلْ
نحن يا أختاه ، من عشرينَ عامْ
نحن لا نكتبُ أشعارًا ،
ولكنا نقاتلْ " (14) !
مع ذلك ، يحسب المرء أن الكاتبَ قد جانب الصواب ، أيضًا حين تجاهل إحدى أهم سمات هذا الأدب وهي الخصوصية الزمكانية ، أو أن تكون له دوافع أخرى ! وهذا ما نرجّحه ! فالأعمال الأدبية الخالدة لدى مختلف الشعوب ، لاسيما تلك التي أبدعتها في ظل المقاومة ، سواءً أكانت سرية أم علنية أم عشية الثورة ، وخطتْها بمداد القلوب ، وبأحرف من نور ، قطعًا لم تفقد من قيمتها قيد أنملة ، والعكس صحيح . مثال ذلك أدب الثورة الجزائرية وأدب عشية الثورة الفرنسية ، الذي بشّر بها ومهّد لها ، وكذا في روسيا ، فهل زالت تلك الآداب مع زوال بواعثها ؟! الحق أن تلك الآداب ما زالت تدرّس ، إلى الآن ، في الجامعات والمعاهد العليا ، وفي أرجاء المعمورة كافة ! فالأدب ، كما هو معروف ، لا يحدث إلا في سياق اجتماعي ، يستحيل تجاوزه ، وبالتالي لا يُمكن فهم هذا الأدب دون فهم الواقع الذي أفرزه ! لكن كما يبدو ، فإن الكاتب كان مُحرجًا من هذا الأدب ، وأثره القوي في كشف النهج القمعي الفاضح للسلطات الإسرائيلية وإدانتها الصارخة ، أمام
العالم كله ، فقلّل من أهميته ، وبالتالي نحن لا نستغرب منه هذا الموقف !
ويلحظ المرء ، وكل متمعّن لمسيرة الحركة الأدبية والنقدية لدينا أن محنة الحركة الأدبية المحلية ، تكمن في النقد الأدبي ، فطالما بقي النقد الأدبي قاصرًا سوف تبقى الحركة الأدبية بطيئة النمو والتطور ودون المستوى . إننا نلمس ملامح تدل على تقدم الأدب المحلي من حيث مستواه الفني . أقول ذلك على الرغم مما نشهده من إغراق الحركة الأدبية المحلية ، لاسيما في الآونة الأخيرة ، بالكتابات الهابطة والسيولة المفرطة وعلى الرغم من خلو معظمها من أي إبداع حقيقي ، ذلك لأنها لا تلامس حياة الفرد ولا تخاطب روحه أو وجدانه .
إن جمال المضمون وجمال الشكل شرطان أساسيان للأدب الخالد ! وقديمًا قال الشاعر الروماني ((هوراس 65 ق. م.–8 ق. م.)) " إن للأدب وظيفتين : النفع والإمتاع ، أما النفع في الأدب فهو في موضوعه ، وأما الممتع فيه فهو شكله " !
ففي غياب المراقبة والنقد و((نقد النقد)) ، أصبحت تلك الكتابات ظاهرة فاشية بات من الصعوبة مكافحتها ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى أدب إبداعي ونوعي ، شكلاً ومضمونًا ، ينهض من دوائره الضيقة إلى دوائر أرحب ، مستلهما حقيقة واقعنا ومستشرفًا أفاق المستقبل .
في ضوء ذلك الواقع كله ، وبعد انقضاء ما يزيد على ستة عقود على عمر حركتنا الأدبية منذ النكبة إلى الآن ، نحن بحاجة ماسّة إلى ((نقد النقد)) ، وبحاجة أيضًا إلى بدء التأسيس لهذا المشروع ، على الرغم من أن العمر الحقيقي للأدب لا يُقاس بالزمن ، لكنه بكل تأكيد لا يحدث خارجه . أخيرًا ، إن وضع النقد الأدبي موضع النقد والمساءلة لهو الطريق الأمثل للنهوض به !
هـوامش :
1) قطب ، سيد: النقد الأدبي ، أصوله ومناهجه ، دار الفكر العربي ، ص5 ، القاهرة ، 1947.
2) ماضي ، شكري عزيز: من إشكاليات النقد العربي الجديد ، ص15 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1997 .
3) عصفور ، جابر: قراءة التراث النقدي، ص1، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، القاهرة ، 1994 .
4) عياد ، شكري: دائرة الإبداع ، مقدمة في أصول النقد ، ص46-48 ، القاهرة ، 1987 .
5) عبود ، مارون: دمقس وأرجوان ، تعليقات على هامش الشعر المعاصر ، ط3 ، ص292 ، بيروت ، 1966.
6) سليمان ، نبيل: مساهمة في نقد النقد الأدبي ، ط2 ، ص5 ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، سوريا ، 1986.
7) سليمان ، نبيل: في الإبداع والنقد ، ص155 ، دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا ، 1989.
8) الدغمومي، محمد: نقد النقد ، ص295 ، منشورات كلية الآداب ، الرباط ، 1999.
9) نفسه : ص113 .
(10 الجديد ، مجلة ، حيفا ، عدد كانون الثاني ، ص40 ، 1954.
11) الأفق ، مجلة ، شفاعمرو ، السنة ، عدد3 ، ص16، شباط/آذار 1988 .
21) جبرا ، إبراهيم جبرا: ينابيع الرؤيا ، دراسات نقدية ، ص74 ، بيروت 1979. لكن اللافت ، أن جبرا لم يبق على رأيه فكتب يقول " مهما دعا الناقد الحديث إلى فصل النص عن كاتبه ، كفصل الرقص عن الراقص . فإنه حين يعيد النظر في شعر بدر شاكر السياب ، يجد أن هذه القاعدة تتمرد عليه ، إذ يصعب عليه أن يفصل الشعر عن الشاعر ، بل إنه يظلم كليهما إن فعل " ، معايشة النمرة وأوراق أخرى ، ص83 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1992 .
13) موريه ، شموئيل: فهرس المطبوعات العربية (1948-1972) ، ص13 القدس ، 1974.
14) درويش ، محمود: يوميات جرح فلسطيني [إلى فدوى طوقان] الديوان ، ط14 ، مجلد1 ، ص342 ، دار العودة ، بيروت ، 1994. يُنظر إلى ذاك الشعر في سياقه
[email protected]