لم أخطط، حين تركت مكتبي في رام الله، أن أقوم بزيارة بيت العزاء المقام لشهيدين فارقا الحياة، ليلتحقا، كما جاء في الأناشيد، بمن سبقهما من قوافل تنعم في فردوس يشتهيه المؤمنون ويحلم به الفقراء؛ فأنا فُطمت من تلك الطقوس، وقررت ألّا أتعاطاها، لأنها باتت "الشهادة" الوحيدة التي نثبت فيها للعالم أن شعب فلسطين يقاوم احتلالًا شاخ في أحضانه وعلى صدورنا هو راقد. أعرف كم سيغيظ كلامي هذا بعض الاخوة والأصحاب، البعيدين والأقرباء، فبالنسبة لكثيرين منهم، ما دامت تسقط الحرائر الغضة على الأرصفة المنسية العارية، والفوارس لا تعيش، في فلسطين، عمرًا أطول من الفتحة على الفاء وسين السأم واليأس، سيبقى ينوّر في نفوسهم، بقايا عرب أطياب، بُرعمُ أمل وطيف حلم، وقد غابا عن بلادهم التي تقطّعها الضباع إربًا، ويصم صراخ السبايا فيها والنحر آذان من يشاهدون ويخشون أن يأتي دورهم، ويلحقوا بركب أمّة يبرع أبناؤها في فقه المسالخ ويدمنون على سكرات الموت الحافي الرخيص.
إنها انتقاضة، أو ما شئتم من الأسماء التي تشبه أمانيكم، وقودها الفَرَاشُ، وإلى أن يصحو الكبار، لن أبشركم بذلك الفرح العظيم، الذي يراه البعض مندلقًا من أنف سكين، أو يشمّونه عطرًا يتضوع من وراء نعوش خضراء يانعه، وأذكّركم بما قالته العرب وصدقت، فلا أطيش من فراشة !
وصلت إلى ساحة السجن الكبير في الرملة بسرعة، أو هكذا خيّل لي، حاولت في السيارة أن أنسى غضبي الذي أعقب زيارة العزاء، وأن أحسم تساؤلًا تلبّسني، فأيّهما أشد على الإنسان، الحزن أم الخوف؟
هذه المرّة الأولى التي سأزور فيها هذا السجن "جبعون"، فهو وليد جديد، انضم إلى عائلة السجون الإسرائيلية قبل أشهر معدودة، ويقيم بجانب سجن الرملة الكبير. بابه صغير ويشبه أبواب بعض الكنائس التي خاف بنّاؤوها من سطوة السلطان وحوافر خيله، وعلى يمينه طاقة صغيرة مغلقة بردفة حديد، ربما كانت مطلية بالأزرق، لكنها اتشحت بسواد طاغ، قد يكون بقايا من يأس القارعين ودموع السائلين عن أحبتهم.
قرعت بشدة ولم أجب، ناديت بصوت عال، وجبعون، نائم لا صوت ولا صدى. بعد تكرار عنيد وقبل انتصار اليأس، فتحت الطاقة "غزالة" وسألت بهدوء : أنت محام؟ عجبت لهدوئها، فأنا لم أرحم الحديد طرقًا.
كنت وحدي واقفًا هناك في دار الحرب ! وأمامي تمر زرافات من السجّانين ورجال الأمن، حاولت، وأنا أنتظر تلك الشقراء، أن أبعد من رأسي وساوس وفرضيات كئيبة ، كان نفسي ثقيلًا، وعلى باب معدتي أحسست بما يشبه الحجر، شعرت بحزن شديد، وكنت أفكّر: " لا شك، أنّ الحزن أشد وقعًا على الناس من الخوف، فلقد كرهت البشر الخوف لما فيه من حزن !"، وقبل أن اقتنع بما قلته لنفسي، فتحت تسيفيا/ الغزالة الباب واستقبلتني.
في ردهة فسيحة بادرتني، بلهجة تبريرية وبحرج ما، مؤكدة أن المكان لم يكن معدًا كسجن، وبالطبع، ليس كسجن يأوي قاصرين معظمهم بعمر زهر البيلسان، هدأتها، وطلبت أن تبدأ باحضار من طلبت، فلقد مرّ ما يكفي من عمر.
يقف قبالتي، اسمه سلوان، أراه من خلال الزجاج البارد، يلبس بلوزة سوداء ضيقة، تبرز صدرًا يدفعه عمدًا إلى الأمام ليبدو أكبر من عمره، ويضم أكمام بلوزته، كما يفعل رافع أثقال محترف، شعره محلوق على مستويين: مساحة واسعة مغطاة بشعر قصير يبرز قرعته، وفي وسطها كومة تبدو من بعيد كعرف أسود كث. أعرّفه بنفسي، وأسمع منه قصة اعتقاله، التي ستبدو، بعد ساعتين، كسائر قصص من قابلتهم من أترابه؛ كلّهم مقدسيون لم يبلغوا الثامنة عشرة، اعتقلوا في الطريق أو في البيت أو على باب المصنع أو المدرسة، بعد أن انقضّت عليهم قوات من الجيش أو المستعربين أو ما يسمى بحرس الحدود، ضرب معظمهم وعانوا، حتى نقلوا إلى مراكز تحقيق تكمل ما بدأه هؤلاء الجنود من عمليات الترهيب والترغيب.
توالت الحكايا، وفي أكثر من ساعتين كاملتين سمعت عن تجربة جيل جديد تتشابهة بأسسها ومفاصل الوجع، وتعيد لقصيدة خليل توما القديمة معناها، ووعد نجمته، التي فوق بيت لحم، حين قالت :"جيل يولد في غرف التحقيق يفيق يفيق..". إنه جيل يولد في رحم القهر ويفتش عن طريق.
واحد تلو الآخر جاءوني من غرفهم، صغارًا يشتكون كالكبار: سوء المعاملة ورداءة الطعام والوسخ. لم يسألوني عن طيّارة الورق المنسية في ساحة الدار، في العيزرية والعيسوية وراس العامود، ولم يطالبوني بحصانهم الخشبي الذي لم يكن في بيوتهم، فهم أطفال "تساموا" من حالة طفولة متبخرّة إلى حالة رجولة متعثرة وتبحث عن ملامح أبائها وأجدادها وخيوط حسبها ونسبها.
لم يسألوني الحرّية، ولم أسألهم عنها، كأبناء الفجر يولدون ومثله لا يستكينون لعتمة. أزعجني أن معظمهم فقدوا قدرتهم على الخوف، هكذا بدا لي، إذ كانوا يحدّثوني بثقة من يملكون قرون القدر! .
حدّثتهم كما يليق بالسواعد المصفدة ، وكما تحب الكرامة أن تراعى والعزة أن تصان، لأنهم ليسوا صغارًا ولا كبارًا، بل آدميون بلغوا في ماكنة الزمن العجيبة ونضجوا قبل جنى المواسم، وبالغوا في مناوشة القمم دون أن يعرفوا الراحة في الوهاد ولم يتذوقوا طعم الشهد في السفوح وعذوبة الماء في التلاع، وبلّغوا بسواعدهم الرقيقة ما يعرفه الجرح من لغة وحرف : اشهد يا عالم على عارِكٓ في القدس وفي فلسطين، اشهد يا زمن العهر والعجز والتواطوء، فنحن لسنا إلا أبناء لطفولة ذبحت وأحفادًا لسعادة اغتصبت واخوة لفراشات قررت الرحيل صوب النور والعدم.. إنّها رحلتنا، يا عرب، نحو ضمائركم الناعسة، عسانا، بما نحدث من أثر، أن نوقظ فيكم بعضًا من نخوة فاسدة أو شهوة غائبة، إنها رحلتنا قبل أن تصيروا في التاريخ ذكرى ووشمًا على خد شرق ستسقط قافه حتمًا ويغرق في بحر من الشر.
وقبل أن أترك، كان سعد أخر من حضر، جلس قلقًا، حدّثني كالباقين، مشتكيًا من أوضاع غرفته، وحين سألته ماذا يريد مني أن أخبر عائلته، لم يجبني بسرعة، توقف، ولاحظت أن عينيه تقاومان وجدًا بدا يسيل على خدّيه. حاول مقاومته فرجوته الّا يقهر عينيه، فبكى، وأخبرني كم يحب ويشتاق لأختيه ووالديه. أخبرته أنني مثله بكيت قبل أربعين عامًا، عندما كنت سجينًا في المسكوبية في القدس بعد مظاهرة طلابية في حارة السعدية ضد الاحتلال، وعندما تذكرت أختي التي كنت أحبها وما زلت، بكيت طيلة ليلة كاملة ولم أنم. أصغى إلى قصتي وبكى بحريّة كالكبار وبكيت مثله كالأطفال، وصرنا صديقين وأكثر.
في السيارة تذكرت كيف بدأ صباحي، حين دخلنا إلى بيت العزاء المقام في مبنى وسيع الأرجاء، مئات الكراسي صفت كي تستوعب الوافدين من كل قرية وبلد، دخلنا فوقفت مجموعة من الرجال التي تبدو وجوههم مطلية بجدية رجّالية شرقية بارزة، سلمنا عليهم وردوا علينا كما جاء في الكتب، وجلسنا مع عشرات من المعزين الذكور البالغين الذين تحلقوا مجموعات مجموعات تتحدث بأصوات مهرجانية عالية ، معظمهم يدخنون سجائرهم مع القهوة السادة التي يوزع التمر معها. بعضنا انتبه لتقاطع أحبال تحمل صور شابين باسمين وأسماهما مسبوقان بلقب الشهيد، وتملأ فضاء القاعة، وبعضنا لم يعر لهذه اهتمامًا .
في طريقنا إلى خارج القاعة وبعد أن ودعنا المعزين، سألت رفاقي، من هم أهل الشهيدين، فلقد دخلنا وخرجنا ولم نتعرف على أحد منهم، ولم يرشدنا الدمع اليهم ! وأين وكيف قتل الشابان وفي أي معركة ؟ وقبل الأجوبة، تيقنت لماذا قررت الانفطام عن هذه الممارسة.
بعد دقائق نسيت صباحي، وعدت لأتذكر ما طلبه مني سلوان وسعد ورفاقهما، وخططت أن أعود إليهم في الغد لأقول ما نسيته، وما علّمته الحرية لعشاقها: فحتى أضخم الأبواب تكون مفاتيحها صغيرة !
[email protected]