انتشر في وسائل الإعلام قبل أيام مقطع مصوّر من جلسة تحقيق خضع لها الشبل أحمد مناصرة، وفيه يستطيع المشاهد أن يرى ويسمع كيف يقوم ثلاثة محققين من شرطة إسرائيل بمحاولة ترهيب همجية لفتى فلسطيني لم يبلغ الأربعة عشر عامًا، وكيف واجه هذا الفتى ذلك الاعتداء في مشهد لا يتركك، كمشاهد، إلا مستفزًا ومقهورًا، فعندما تنتهي الدقائق العشر تجد دمعك على المخدة يبكي وعلى فوّهة معدتك يتأهب بركان من غضب، وفي رأسك صورة وجه أحمد وصوته يردد بما يشبه اليأس.. "مش متذكر.. بدي دكتور"، وقبالته يشهر ذلك المحقق سبابته ويوجهها الى عينين لم تسقطا على الأرض، ويصرخ مستحدثًا، بمجاز مقلوب، أسطورة جوليات العتي العربيد.
لقد طفحت القنوات الاخبارية المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي بفيض من التحاليل والتوصيفات لما كشفه ذلك الشريط المصور، ومن الممكن تلخيص أبرزها وحصرها بعنوانين أساسيين: وحشية المحققين الإسرائيليين من جهة، وبطولة الفتى الفلسطيني وصموده من جهة ثانية، فرغم محاولات الترهيب التي مورست بحقه بقي صامدًا ولم يسقط، هكذا كتب كثيرون.
لم أكن بحاجة لمثل هذه الوثيقة التسجيلية كي أتعرف على ما قام ويقوم به المحققون الاسرائيليون مع الأسرى الفلسطينيين، فأنا تتلمذت وعملت في مكتب المناضلة التقدمية المحامية فيليتسيا لانجر والتي كشفت وروت، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ما رأته بأم عينها من فظائع اقترفها الاحتلال الإسرائيلي بحق العشرات من الأسرى الفلسطينيين في أقبية التحقيق، وأعرف، مثل من بقي من زملائي على هذا الدرب، أن ما كان في ذلك الزمن هو الموجود في أيّامنا، لا بل بعضه أسوأ بكثير، حتى لو تغيّرت أساليب واستحدثت طرق للتحقيق "العصري"! لأن المحتل لن يتحول إلى حَمَل، ولن يصير المناضلون ضيوفًا معززين في زنزاناته، ولأن التاريخ علّمنا أن الاحتلال يفقس قامعين فقط، والقامع يولد عاريًا من إنسانيته، ويعيش مجردًا من منطق "الإنسان العادي"، وفي عالم القمع تسقط كل الفرضيات المتداولة والمعقولية، وتخيب كل محاولات التفتيش عن أجوبة يومية بسيطة أو معقدة، ولربما، يعكس هذا الشريط، لكنه ليس المشهد الوحيد، هذا الكم من الشذوذ ويستحث تفكيرنا نحو الأعمق.
وتبقى قضيّتنا أحمد وأتراب أحمد..
في الصباح وفي طريقهم إلى المدرسة يتوجه ثائر إلى زميليه عاصم ومعصوم ويخبرهما أنه قرر طعن جندي إسرائيلي، ويعرض عليهما الانضمام إليه وعلى الفور يستجيبان ويصبحون، من تلك اللحظة، أعضاء في خلية محظورة تخطط لقتل اليهود. يتوجه الثلاثة إلى دكان قريب ويشترون ثلاثة سككاين ، مثل تلك التي يستعملها الدهّانون، ولا يعودون إلى مدرستهم في ذلك اليوم، ولا يخططون كيف ومتى سوف ينفذون عمليّتهم.
في طريق عودتهم يفكر ثائر بصوت عال ويقترح أن يتوجهوا إلى المستعمرة القريبة من قريتهم، فهناك سيجدون حتمًا جنودًا يحرسون المستعمرة وسكّانها، أولئك الذين يعتدون على بيوتهم ويحرقون أشجار زيتونهم ويعربدون في شوارع قريتهم، وقبل أن يسمع رأي زميليه، يقترح عليهما بديلًا، يقضي بأن يتوجهوا صوب الحاجز العسكري القريب من مدرستهم والذي يتحرش بهم جنودُه بشكل عادي، وفيه ينفذون عمليتهم.
في النهاية يتفقون على التوجه إلى سمسار يعمل في تهريب فلسطينيين إلى داخل إسرائيل، فمعه سوف يؤمّنون الدخول إلى حيث يتواجد، بطبيعة الحال، جنود كثيرون ويهود، وعندها سيتمكنون من تنفيذ عمليتهم بدون عوائق بادية أو مفاجئة.
بعد أيام ينجحون بتجميع بضع مئات من الشواقل، يدفعونها لسمسار يعمل مع متعهد ينقل المهرَّبين، ويتفق ثائر معه على تفاصيل الرحلة ومكان اللقاء.
في صباح ذلك اليوم يفاجئ عاصم زميليه بقراره الانسحاب من العملية، دون أن يبدي سببًا لذلك، تماما كما حصل عندما وافق على الانضمام إليهما بدون تفكير مسبق أو سبب معلن.
في السيّارة ينحشر سبعة فلسطينيين نجحوا بالتواصل مع ذاك المتعهد، بعضهم سيدخل ليفتش عن مكان عمل غير شرعي في السوق الإسرائيلي، وبعضهم يذهب لمكان عمله بدون تصريح ناجيًا من رصاصة وعائدًا من عطلته في آخر الأسبوع، وبعضهم يذهب لتنفيذ عملية في إسرائيل.
في السيارة صمت، لا وقت للتفكير، أو ربما لا حاجة له، وكأنني بكل واحد منهم يردد بصدره: "اللي بدو يصير يصير أكتر من هيك قرف ما فيش..".
في الطريق، يهمس معصوم في أذن ثائر ويعلمه أنه قرر الانسحاب من العملية ويريد أن يتخلص من سكينه الياباني ليعود من حيث أتى. فجأة تتوقف السيارة، وقائد الرحلة يأمر ركّابها بضرورة مغادرة المركبة والاختباء في الشجيرات القريبة لأنه وصلت إليه معلومة عن وجود جيش بالقرب منهم. بعد لحظات معدودة يسمع المختبئون صوتًا يأمر الجميع بالاستسلام ويؤكد أنهم محاصرون. مع انتهاء النداء، يبدأون، واحدًا تلو الآخر، بالوقوف، رافعي الأيدي إلّا ثائرًا، فيقفز باتجاه جندي كان بعيدًا عنه ويصرخ، " طاب الموت طاب الموت.." ويطير بالهواء كسهم، ويسقط، بعد أقل من رمشة، قريبًا من شركائه في رحلة العبث، وتحته بقعة دم أحمر.
أجلس مقابل النائب العسكري في محاولة لإنهاء ملف الأسيرين، ثائر، ابن الخمسة عشر خريفًا ورفيقة معصوم، المتهمَين في المحكمة العسكرية للاحتلال، بمحاولة قتل والعضوية في خلية محظورة.
أحاول جاهدًا أن أقنع المدعي أننا نتحدث عن طفلين يعيشان واقعًا مستحيلًا وحياة سلبت منهم الطفولة والأمل - يافعين فتحا عيونهما على ذل تفرضه سوائب من مستوطنين يستبيحون، كل يوم وفي وضح النهارات، ممتلكاتهم وأعراضهم ولا يبقون لهم إلا ما يتيحه خيالهم الجامح واليأس، فهم لا يريدون قتل أحد، كما جاء في إفاداتهم، وثائر، الذي شلّّت ساقاه من الإصابة برصاص الجنود، يقولها بملء الفم والسذاجة: "أنا لا أريد قتل أحد لكنني لا أريد العيش في هذه المذلة والمهانة.. الموت صار عندنا أحق وأشرف".
لم أقنع المدعي العسكري، فكيف لي أن أتحدث بمنطقي الآدمي، وهو هناك ليس إلّا خادم لما ومن يفرّخون مسوخًا ويولدون في بطن الخطيئة الكبرى، عراة من إنسانية ومجرّدين من منطق, وفجأةً يصعقني المدعي ويخبرني: "نحن سنطلب لثائر عقوبة سجن بالسنوات ومكوّنة من منزلتين"، ويصر على موقفه في حين كنت أسأله إن كان شاهد شريط التحقيق مع الفتى أحمد؟ توقف وضحك بخبث وقال: "شفت ما أعرص هالولد.. كيف ضحك على ثلاثة محققين ..".
لم أبك أمام المدعي العسكري، لكنني تركت غرفته وأنا دامي القلب، وخائف أكثر من أي وقت مضى على أحمد وثائر وأترابهما، ويقيني أن يأسهم يجب أن يكون هاجسنا وقضيتنا. فالاحتلال كان مصيبتنا ومع السنين ظلّ، وصار مدمّرنا.
في الطريق، أتنقل من موجة إلى موجة، وفي جميعها يجمع المعلّقون وأشباههم، على ما شاهدوه في ذلك الشريط؛ وعلى وحشية الاحتلال ومحققيه من جهة، وعلى بطولة الأطفال في فلسطين من الجهة الأخرى.
أسمع، وأمامي ضحكة المدعي العسكري، وصوت ذلك المحقق، وصرخة ثائر "طاب الموت" وأحاول أن أتذكر متى بنت أمة باليأس وحده والسكين وطنًا؟ وهل بهما نيلت حرية؟
[email protected]