حل، في الأسبوع المنصرم، الأستاذ محمود شريف البسيوني ضيفًا على فلسطين، حيث استقبله الرئيس محمود عباس مساء يوم الأحد بمقر الرئاسة، واستمع منه لشرح حول الآلية المتّبعة في المحكمة الجنائية الدولية وكيفية تقديم الملفات إليها، كما واجتمع البسيوني مع المستشار عبد الغني العويوي النائب العام الفلسطيني وأعضاء النيابة العامة في مدينة رام الله.
جاءت زيارة البسيوني إثر دعوة من جامعة القدس، التي ألقى فيها محاضرة تحدث فيها عن محطات في تجربته الطويلة كما انعكست من رئاسته ومشاركته في العشرات من لجان التحقيق الدولية ودوره الريادي في صياغة العديد من المواثيق الهامة، مثل اتفاقية مناهضة التمييز العنصري، واتفاقية مناهضة التعذيب وميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية.
يعتبر البسيوني من أهم فقهاء القانون الدولي في العصر الحديث بل، "أبو القانون الجنائي الدولي المعاصر"، كما وصفته صحف عديدة وأقرّت به محافل عالمية احتفت بعطاءاته وكرّمته على ما قدّمه خلال مسيرة عقود شغل فيها مناصب رفيعة في الحياتين الأكاديمية التعليمية والقضائية الدولية، فلقد عمل محاضرًا في العديد من جامعات العالم، وعميدًا لكلية الحقوق في جامعة "دي بول" في شيكاغو لعقود، وفيها أسس المعهد الدولي لحقوق الإنسان في العام ١٩٩٠ووقف على رأسه لسنوات، كما وأنشأ المعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية ومقرّه في مدينة سرقوسة في صقلية.
قبل حوالي ثلاثة عقود دعاني مع عشرات من الحقوقيين والمثقفين العرب للمشاركة بسلسلة لقاءات استشارية بادر إلى عقدها في مدينة سرقوسة تمهيدًا لوضع مشروع "ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي". لا أعرف لماذا اختيرت جزيرة صقلية مقرًا للمعهد الدولي للعلوم الجنائية، لكنني ما زلت أذكر ذلك "الشريف" وهو يعتني، كمهندس إنساني بارع، بأدق التفاصيل، وبكل وافد من أقطار العرب ويعامله كصديق شخصي وبمنتهى الاحترام والتقدير؛ فهناك على مقربة من كهوف، يجزم الصقلّيون انها آوت أرخميدس ومنها أهدى البشرية ثمار عبقريته في الفيزياء والهندسة والرياضيات وغيرها، تشرّفت، على مدار ثلاث دورات متعاقبة، بالتعرّف على من مع السنين صار لي صديقًا وكان دومًا قدوة ومعلّمًا.
تواعدنا أن نلتقي في العاشرة مساءً في فندقه في رام الله. انتظرته دقائق ووصل برفقة الدكتور رفيق أبو عيّاش من جامعة القدس، في العاشرة تمامًا، فهو يعشق الدقة بالمواعيد؛ فهمت أن يومه كان حافلًا وطويلًا، وعلى الرغم من تعبه، قابلني ببسمته الراقية وبذراعين أحاطاني كطوق من ياسمين.
حدّثني عن انطباعاته بعد يومين في فلسطين وأجابني أنه لم يزر مصر منذ سنتين تقريبًا. أحسست ببعض من مرارة في حديثه وبعدم رضا، وشعرت أن حال مصر اليوم يزعجه وهو الذي أحبّها وتعمّد زيارتها بشكل دوري ومتواصل.
افترقنا على وعد أن آتيه في الصباح لنذهب معًا إلى مكاتب نادي الأسير الفلسطيني، لأنه يرغب بزيارة هذه المؤسسة ويود لقاء المسؤولين وطاقم العاملين فيها.
لم يخف قدورة فارس، رئيس مجلس إدارة نادي الأسير، تأثره من زيارة البسيوني لمكاتب النادي، فهي زيارة تحمل كثيرًا من المعاني والرسائل، وتعكس مدى اهتمام الضيف بقضية الأسرى الفلسطينيين، وهي، بدون شك، تأتي تعبيرًا عن موقف مساند للأسرى وسيكون له بالغ الأثر في نفوسهم. كانت المعلومات التي أوجزها قدورة فارس على مسامع الضيف كافية لاستدعاء مداخلة هامة عبّر فيها البسيوني عن مشاعره تجاه قضية الأسرى والوضع العام السائد في فلسطين، من جهة، وفيما يسمى بالمحافل والمؤسسات الدولية، من جهة أخرى.
في اللقاء كان كلامه واضحًا ورأيه حاسمًا، فهو على يقين بأن ملف الأسرى في سجون الاحتلال يجب أن يتصدر قائمة الملفّات التي يعكف الجانب الفلسطيني على تجهيزها لتقدم من الجانب الفلسطيني الى المحكمة الجنائية الدولية. كان يتحدث بشفافية مقنعة وبمهنية خالصة.
جلس قرابة الساعة، محاطًا بطاقم العاملين في الوحدة القانونية في نادي الأسير، الذين كانوا، ككل طالب يحقق ومضةً من حلمه بضربة قدر عرضية، في حالة فرح بكري وزهو؛ أمّا هو، وكأن السنين زادته وقارًا على وقار، والمعرفة تواضعًا، تحدث إلينا بهدوء، دون أن يخفي قلقًا، وبتفاؤل تساقط مخلوطًا بعرق خيبات التجارب، فشرح، بإسهاب عن ماهية الفوارق بين ملف الأسرى والمخالفات الاسرائيلية المقترفة بحقهم في الماضي وفي هذه الأيام، وعن موقف المواثيق الدولية منها، وعمّا يميّزها عن سائر القضايا الأخرى، كالاستيطان وغيره من المواضيع التي اختارها الفلسطينيون لتكون هي وليس ملف الأسرى أول ما يتقدمون به للمحكمة الجنائية الدولية. "في قضية الأسرى لا يوجد التباس ولا تحتمل هوامشها وزر روايات إسرائيلية مضادة، فاذا قامت المؤسسات الحقوقية ذات الاختصاص، وبالتنسيق مع طواقم الحقوقيين العاملين في شؤون الأسرى، بترتيب ما رصد من معطيات ومعلومات وتقارير جمعت على مدار سنين،وضبطت تلك المعلومات وفقًا للمعايير المهنية المطلوبة دوليًا، يصبح، عندها، باب المحكمة الدولية مشرعًا لهذا الملف، والجرائم الاسرائيلية، كما وثقتها تلك التقارير التي أعدّت، تصبح خاضعة للمساءلة الدولية، بدون مواربة أو تعطيل أو غمغمة أو تمييع"، ما أن أنهى مداخلته، التي قالها بلغة الخبير الواثق والناصح الأمين، حتى نظرت إلى وجوه أفراد الطاقم، فكانت ملأى بأثر همّ خفيف، والشفاه منفرجة عن بسمات من رضا، فها هو المعلم يطمئن طلابه، بأن ما يقومون به شيء عظيم وأن جزاءهم سيحسب في صفحات الحرية ويخط بريشات من ضوء الفجر.
كانت زيارته هذه المرة الى فلسطين قصيرة، كما في مرّات سابقة، وعلى قصرها لم تستغل، برأيي، على أحسن وجه، فعلى الرغم من أهمية ما أجراه من لقاءات، كانت هنالك حاجة وضرورة لأن تسعى الجهات الرسمية المكلّفة بملف المفاوضات وطاقم معدي الملفات الموجهة الى محكمة الجنايات الدولية، إلى لقائه والاستفادة من خبرته ومما يستطيع والمؤسسات التي يعمل فيها من تقديمه لهذه الطواقم؛ من جهتنا، نحن في نادي الاسير الفلسطيني، وعدناه، على الرغم من شح المصادر والطاقات،أن نبقي ملف الأسرى في صدارة اهتماماتنا اليومية، وأن نبذل كل ما في وسعنا ومقدورنا من أجلهم. ودّعنا بحرارة وشعرنا أنه غادر النادي وهو أكثر تفاؤلًا وراحة من قبل.
لم تكن زيارة البسيوني هذه لفلسطين زيارته الأولى، وهو، كما عرفته، ليس من أولئك الذين يلعنون السماء حين تكون رمادية، بل يسعى دومًا وراء نرجسة مهملة حزينة، ليرعاها كي تصير بحرًا من عطر وعبق، فحين كنت أودعه وهو يغادر رام الله ذكّرته بدعوته قبل عقدين من قبل إحدى المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية ليشارك في مؤتمر قانوني عن فلسطين. حينها وصل مطار بن غوريون ولم ينتظره أحد من المنظمين، اتصل معي وهو لا يعرف الى أين يتجه، فذهلت وخففت الى المطار وعدت مصطحبًا إياه الى القدس ومعتذرًا باسم الفوضى في فلسطين؛ ضحك بطيبة أبن حتة مصري، وهمس وأنا بين ذراعيه، في أذني: معلش يا جواد.. هي فوضى الشرق يا أخي، ولكن لا تيأسوا، فالغالي، من أجل الحرية، رخيص.
[email protected]