الكلمات التي نستخدمها مهمة، خاصة في زمن الحرب. ولهذا السبب، في هذه الأيام التي طالت فيها الحرب في غزة، وارتفع عدد القتلى، وما زال المحتجزون رهائن في الأسر، وما زالت أعداد الأسرى تتزايد وكذلك المحتجزين دون محاكمة، فإننا نشعر بالحاجة إلى كلام صريح يندِّد بسوء استخدام مصطلح في تعليم الكنيسة الكاثوليكية، وهو "الحرب العادلة"، وهو مفهوم ظهر ثم تطوَّر منذ العصور القديمة قبل المسيحية، ويثير اليوم قلقنا كمسيحيين، لأنه يُستَخدَم كسلاح لتبرير الحرب المستمرة في غزة.
اللاعنف هو في قلب عقيدتنا المسيحية، إلا أن المفكرين الكاثوليك حاولوا على مر القرون تحديد الظروف التي تصير فيها الحرب أمرًا محتومًا، بل أيضًا عادلة. ونتيجة لذلك، منذ عهد القديس أغسطينس والقديس توما الأكويني، تبنت الكنيسة مفهوم "الحرب العادلة". ويحدِّد التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (رقم ٢٣٠٩) شروط الحرب العادلة، بقوله إن "الضرر الذي يُلحِقُه المعتدي بشعب أو مجموعة من الشعوب يجب أن يكون باقيًا وجسيمًا وأكيدًا. ويجب أن يثبت أن جميع الوسائل الأخرى لوضع حد للاعتداء غير عملية أو غير فعالة، ويجب أن تكون هناك احتمالات جدية للنجاح. وأخيرًا يجب ألا يؤدي استخدام الأسلحة إلى شرور واضطرابات أعظم من الشر الذي يراد القضاء عليه".
منذ الهجمات المروِّعة التي شنَّتْها حماس، ومسلَّحون آخرون، في ٧ أكتوبر/تشرين الأول على منشآت عسكرية ومناطق سكنية ومهرجان موسيقي في جنوب إسرائيل، ومنذ الحرب الكارثية التي شنَّتْها إسرائيل ردًّا عليها، دعا القادة الكاثوليك، بدءًا من البابا فرنسيس، إلى وقف فوري لإطلاق النار والإفراج عن الرهائن. كما أوضح اللاهوتيون الأخلاقيون الكاثوليك في مختلف أنحاء العالم أنْ لا الهجمات التي شنَّتْها حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولا الحرب الإسرائيلية المدمِّرة ردًّا عليها، تفي بمعايير "الحرب العادلة" وفقًا لتعليم الكنيسة الكاثوليكية. لا نريد أن نكرر هنا الحجج التي تم تقديمها حتى الآن- وهي أن المفاوضات لم تُستَنفَدْ في كل مرة، قبل استخدام القوة، وثانيًا إن أهداف إسرائيل المعلنة تجعل من المستحيل "احتمالات النجاح المتوقع". والأهم من ذلك، إن الحروب العادلة يجب أن تميِّزَ بوضوح بين المدنيين والمقاتلين، وهو مبدأ تجاهله الطرفان في هذه الحرب، فأدى ذلك إلى نتائج مأساوية. ثم إن الحرب العادلة يجب أن يكون فيها استخدام متناسب للقوة، وهذا لا يمكن أن يقال في حرب، عدد القتلى الفلسطينيين فيها يزيد بعشرات الألوف على القتلى الإسرائيليين، وإن أغلبية الضحايا الفلسطينيين هم من النساء والأطفال.
إنَّ تطبيق نظرية "الحرب العادلة" على الصراعات الحديثة أمر مشكوك فيه، وخاصة الصراعات التي تمتد على عقود من الزمن، وقد أدى هذا الواقع إلى التأكيد أن شروط الحرب "العادلة" لا تتحقق إلا في حالات نادرة جدًّا. ويصح هذا الكلام بصورة خاصة في زمننا الحاضر الذي يؤدي فيه تطور صناعة الأسلحة المعاصرة، القادرة على التسبب في الموت والدمار على نطاق غير معروف، إلى ترجيح كفة الميزان لعدم إمكانية وجود حرب عادلة. ومن ثم، يجب أن نكون حذرين من الذين يتلاعبون بمفهوم الحرب العادلة بحسب حاجاتهم. في اللقاء العام، في ١١ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، أربعة أيام بعد الهجمات الفلسطينية على جنوب إسرائيل، ذكر البابا فرنسيس حق إسرائيل في الدفاع عن النفس في أعقاب هجوم حماس. وقال: «إن من حق المعتدَى عليه أن يدافع عن نفسه». لكنه أضاف على الفور: "لكنني أشعر بقلق بالغ إزاء الحصار الشامل الذي كان يعيش معه الفلسطينيون في غزة، حيث سقط أيضًا العديد من الضحايا الأبرياء". وفي وقت لاحق، بدلًا من استخدام نظرية الحرب العادلة للتغاضي عن الحرب في غزة، استخدمها الكرسي الرسولي لمطالبة إسرائيل بالمحاسبة. على سبيل المثال، أكد رئيس الأساقفة غابرييلي غاسيا، المراقب الدائم للكرسي الرسولي لدى الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ٢٤ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٤، أن "أي إجراء يتم اتخاذه للدفاع عن النفس يجب أن يسترشد بمبادئ التمييز والتناسب وأن يتوافق مع المعايير الدولية للقانون الإنساني[1]".
انتقاد آخر لنظرية الحرب العادلة هو أنها يمكن أن تحوِّل السؤال إلى: هل يمكن أن يكون التصرف في الحرب أخلاقيًّا أم لا؟ وبهذا، يتم تجنُّب السؤال الأساسي: هل يجب أن تُعلَنَ الحرب أم لا؟ وفي هذا السياق، كرَّر البابا فرنسيس بانتظام إصراره على أن الحرب هي في النهاية هزيمة للجميع[2]. وكان البابا يوحنا بولس الثاني قد أطلق صرخته من قبل: «لا للحرب! الحرب ليست أمرًا محتومًا. إنها دائما هزيمة للإنسانية[3]". وذهب البابا فرنسيس إلى أبعد من هذا الانتقاد، فقال إن الحرب "كذبة"، ودعانا إلى إعادة توجيه جهودنا نحو بناء الأخوة الإنسانية. وفي ٢٩ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٤، أوضح البابا في مقابلة مع الصحيفة الإيطالية " La Stampa ": "إن الدفاع عن النفس حق مشروع، نعم. ولكن من فضلك دعونا نتحدث عن الدفاع عن النفس، ونتجنَّب تبرير الحروب، التي هي دائما خطأ[4]".
نحن الكاثوليك في الأرض المقدسة، نشارك رؤية البابا فرنسيس من أجل عالم ينعم بالسلام، وإننا نشعر بالغضب الشديد إزاء قيام الجهات السياسية المختصة في إسرائيل وفي الخارج بتوظيف نظرية "الحرب العادلة" من أجل إدامة الحرب المستمرة في غزة وإضفاء الشرعية عليها. إنهم يستخدمون هذه النظرية بطريقة لم تكن هي المقصودة على الإطلاق: أي تبرير موت عشرات الآلاف من أصدقائنا وجيراننا. وهناك من يدَّعي أن الحرب تتبع قواعد «التناسب» فيقولون إن الحرب التي تستمر حتى النهاية المريرة قد تنقذ حياة الإسرائيليين في المستقبل، ومن ثم فهم يضحُّون، ولا مبرِّرَ لهم يقبله عقل إنسان، بآلاف الفلسطينيين الذين تُزهَق أرواحهم الآن، ويفضِّلون أمن أشخاص افتراضيين في المستقبل على حياة كائنات بشرية حية تُقتَل الآن في كل يوم. باختصار، التلاعب بمصطلح "الحرب العادلة" ليس تلاعبًا بالكلمات فقط، بل هو كلام على نتائج قاتلة ملموسة.
على الرغم من أننا جماعة صغيرة في الأرض المقدسة، إلا أننا نحن الكاثوليك جزء لا يتجزأ من هوية هذه الأرض. ونود أن نوضح أننا، وتقاليدنا اللاهوتية، لا يجوز أن نُستَخدَمَ لتبرير هذه الحرب. إن الشهادة التي نحملها ليست شهادة حرب، بل شهادة محبة تبدِّل الإنسان، إنها شهادة حرية ومساواة، وشهادة عدل وسلام، وحوار ومصالحة. وبروح الرجاء الذي يسكننا، لا يمكن أن نسمح بتوظيف كلمة "حرب عادلة" لتبرير ما هو ظالم وقاس ومُبِيد. يجب أن ندافع عن سلامة اللغة، لأننا ما زلنا على اقتناع بأن العدل الحقيقي ما زال ممكنًا، هذا إذا تمكنا من التمسك به. عندما تُحرَّف الكلمات، تصبح اللغة نفسها غير قادرة على رسم مستقبل خالٍ من ويلات الحاضر. إن "الحرب العادلة" المفترضة التي تديم الظلم وتعمق الدمار وتزيد الإبادة، توشك بأن تجعل كلمة "العدل" موضوع سخرية. لكن العدل ليس أمرًا يُستخَفُّ به، ووعده باقٍ. وعلينا جميعا أن نحمي سلامة العدل طالما أننا نؤمن بمستقبل أفضل. لقد حان الوقت لإنهاء هذا الصراع، ولمنع انتشاره، ولإزالة تهديده بحرب عالمية. آن الأوان لحشد لغة تفتح آفاقًا جديدة.
إنا نرجو على غير رجاء أن هذه الحرب ستنتهي، وأن الإسرائيليين والفلسطينيين معًا، سيعيشون في حرية ومساواة، وسيسعون إلى تحقيق العدل الحقيقي، وإلى صنع السلام الحقيقي. ولذلك نردد مع صاحب المزامير: “قد سَمِعتَ يا رَبُّ بُغيَةَ الوُضَعاء وأَمَلتَ أُذُنَكَ فثبَّتَّ قُلوبَهم، لِتَقضِيَ لِليَتيمِ والمــَظلوم، فلا يَعودَ مِنَ الأَرضِ إِنسانٌ إِلى الطُّغْيان" (مزمور ١٠: ١٧-١٨).
[1] https://www.vaticannews.va/en/vatican-city/news/2024-01/holy-see-united-nations-palestine-israel-gaza-ceasefire.html
[2] [2] See Angelus on 15.10.2023, 22.10.2023, 12.11.2023, 28.1.2024 and General audience on 18.10.2023, 29.11.2023, 6.12.2023, 24.1.2024.
[3] Address to the diplomatic corps, 13.1.2003.
[email protected]