غربية قوية مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا ، تعيش حالة قلق وجودي متصاعد.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل أصبحت إسرائيل بعد حربها على غزة وإيران أكثر أمنًا وأمانًا؟ أم أن ازدياد عنفها العسكري والأمني هو انعكاس لانعدام الأمان، لا دليلاً على وجوده؟
1. كلما زادت عنفوانًا... قلّ أمنها
الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على الردع والهيمنة أثبتت، مرة بعد مرة، أنها لا تؤدي إلى شعور دائم بالأمان، بل إلى حالة استنزاف دائمة. فالهجمات المتكررة، والاجتياحات، والاغتيالات، لم تُنتج سوى جدران أعلى، وتكنولوجيا دفاعية أكثر، وقلق متجذر في الوعي الجمعي الإسرائيلي.
يقول الباحث الإسرائيلي شلومو زاند: "إسرائيل قوية للغاية، لكنها لا تؤمن بقوتها، ولهذا فهي في قلق دائم".
أما الجنرال السابق عاموس جلعاد، فقد اختصر المأزق حين قال: "نحن نملك قوة هائلة، ولكننا نعيش في قبة زجاجية".
2. إسرائيل والوجود المهدد: بين الفلسفة والدعاية
في كل حرب أو مواجهة، من حرب أكتوبر إلى انتفاضات الفلسطينيين، ومن حرب لبنان إلى غزة إلى إيران، تطرح إسرائيل الصراع على أنه "قضية وجودية"، لا أمنية أو سياسية أو أخلاقية. لكن هذا الخطاب يستحق وقفة تحليلية:
فإذا كان فعلاً وجوديًا، فهذا اعتراف ضمني بأن المشروع الصهيوني لا يزال هشًا رغم كل ما مرّ عليه من عقود، وأنه قائم على قوة السلاح لا على شرعية متينة، مما يعني أن زواله أو تحوّله أمر وارد في وعي أصحابه.
أما إذا لم يكن وجوديًا فعلاً، بل يُطرح بهذه اللغة لحشد التأييد وتهويل الخطر، فإن ذلك يشكل استهتارًا بعقل الشعب الإسرائيلي وتلاعبًا بخوفه الجماعي، وهو ما عبّر عنه المفكر الإسرائيلي يائير شبيرا حين قال: "كلما اهتزّت الشرعية الأخلاقية، يلجأ النظام إلى خطاب البقاء".
بهذا المعنى، فإن التلويح المستمر بـ"الخطر الوجودي" يكشف عمق التناقض: دولة تعتبر نفسها "أمة دائمة"، لكنها تتحدث بلسان من يوشك على الاختفاء.
3. السلام الحقيقي لا يُبنى على اختلال موازين القوى
السلام الذي يُفرض بالسلاح، لا يصمد طويلاً. هذه قاعدة تؤكدها دروس التاريخ. ففي معاهدة فرساي 1919، فرض الحلفاء شروطًا مهينة على ألمانيا، لكن السلام لم يدم، بل جاء بعدها صعود النازية والحرب العالمية الثانية. في المقابل، أدت خطة مارشال بعد الحرب الثانية إلى بناء سلام نسبي في أوروبا الغربية، لأنها لم تكن إذلالاً بل شراكة.
وعلى المستوى الإقليمي، لم توقّع مصر اتفاقية كامب ديفيد 1979 إلا بعد أن استعادت هيبتها جزئيا في حرب أكتوبر 1973. لم تكن الهزيمة هي التي قادتها إلى التفاوض، بل استعادة شيء من الكرامة الوطنية، وهو ما جعل التفاوض مع إسرائيل يتم في لحظة توازن نسبي.
4. الحدود الأكثر أمانًا… بعد الانسحاب
المفارقة الكبرى أن أكثر حدود إسرائيل أمانًا حتى اليوم هي حدودها مع مصر والأردن، بعد أن انسحبت من أراضيهما المحتلة عام 1967 وقدّمت استحقاقات السلام. هذا يعزز فكرة أن الأمن لا ينتج عن الاحتلال، بل عن إنهائه.
فلماذا لا يُطبق المبدأ ذاته على الفلسطينيين؟ هل يُفترض أن يقبلوا سلامًا دون سيادة؟ أم أن المطلوب منهم فقط التوقيع على الهزيمة؟
5. مشروع السلام العربي: العرض الذي لا يُراد قبوله
طرحت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002 عرضًا متكاملاً: اعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، مقابل تطبيع كامل مع جميع الدول العربية. المبادرة لم تُسحب حتى اليوم، لكنها قوبلت دائمًا بالرفض أو التجاهل الإسرائيلي. لا لأن العرض ليس منطقيًا، بل لأن إسرائيل لا تسعى لسلام متوازن، بل لتطبيع مجاني بلا ثمن سياسي.
6. فشل إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية
رغم عشرات الآلاف من الشهداء، وتهجير العائلات، وبناء الجدران، وسجن الأطفال، ما تزال القضية الفلسطينية حيّة. بل إن الاعتراف الدولي بفلسطين يتزايد، وآخره كان عام 2024، حين صوّتت أغلبية الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح عضوية كاملة.
كما أن تقارير منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي وصفت إسرائيل بأنها تطبّق نظام "أبارتهايد"، وتزايد الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية في الجامعات الغربية والنقابات العمالية.
كتب إدوارد سعيد: "الصهيونية ربحت الأرض، لكنها لم تربح الرواية". وما نراه اليوم أن الرواية الفلسطينية تكسب يومًا بعد يوم.
7. منطق التاريخ لا يُهادن القوة الظالمة
قد تبدو إسرائيل اليوم قوية، لكنها تتحرك عكس منطق التاريخ. فالدول التي حكمت الشعوب بقوة السلاح – من جنوب إفريقيا إلى الجزائر – لم تدم. التاريخ لا يكافئ السيطرة، بل يُكافئ الشرعية.
وكما قال أنطونيو غرامشي: "الأزمة تحدث عندما يحتضر القديم، ولا يولد الجديد بعد، فتظهر الوحوش." – إسرائيل، في عمقها، تعيش هذه اللحظة الرمادية: تنتمي للماضي وتخشى المستقبل.
الخاتمة:
إسرائيل لا تعيش في ظل أمان حقيقي، بل في ظل قلق دائم من زوال المشروع أو تحوّله.
الأمن لا يُصنع بالدبابات، بل بالعدل. والسلام لا يُفرض، بل يُبنى. وكلّما تجاهلت إسرائيل الحق الفلسطيني، ازدادت هشاشتها أمام سؤال لم يعد من الممكن إسكات صوته:
إلى متى يمكن أن تستمر بالمطالبة بالأمن وهي لا تمنح الأمن لأحدٍ ؟
[email protected]