ليس أصعب على الإنسان العربي اليوم من الشعور بأنه حاضرٌ في كل خطاب، وغائبٌ عن كل قرار.
تتردد كلمة الإنسان في المؤتمرات، تُرفَع في الحملات، تُستَخدم في الافتتاحيات… لكنها نادرًا ما تجد طريقها إلى جوهر السياسات التي تُدير حياته.
هكذا يتحول “الإنسان أولًا” من مبدأ أخلاقي إلى جملة تزين الواجهة، فيما يبقى الواقع معلّقًا على مفارقة موجعة: كل شيء يُذكر باسم الإنسان… إلا الإنسان نفسه.
السياسة بلا إنسان… إدارة أزمة لا بناء دولة
السياسة وُجدت لتصنع حياةً عادلة، لا لتصنع سلطةً أبدية.
لكن جزءًا كبيرًا من الممارسة السياسية العربية انشغل بترتيب السلطة أكثر مما انشغل بترتيب الحقوق، وبتفسير الولاء أكثر مما انشغل بفهم الاحتياجات.
حين يُقصى الإنسان عن صناعة القرار، يصبح الوطن بناءً هندسيًا لا بناءً إنسانيًا؛ ويصبح الاستقرار أشبه بسطحٍ هادئ يخفي تحته مياهًا مضطربة.
لأن الدولة التي لا يشعر مواطنوها بأنها لهم، تتحول من فضاء انتماء إلى فضاء ضرورة فقط.
الإعلام… بين الحقيقة التي تُخفى والإنسان الذي يُنسى
الإعلام العربي يمتلك قدرةً هائلة على إعادة الإنسان إلى قلب المشهد، لكنه في كثير من الأحيان يتحول إلى وسيط ينقل ما يراد له أن ينقل، لا ما يجب أن ينقل.
حين تُختزل القضايا الإنسانية الكبرى إلى عناوين عاجلة، وحين يُدار الوجع بمنطق الترفيه أو الدعاية، يفقد الإعلام عقده الأخلاقي مع المجتمع.
الإعلام الذي لا يُسائل لا يحمي.
والإعلام الذي يكتفي بالعرض لا يؤدي دوره في البناء.
تحولات عالمية… وإنسان عربي يدخلها بلا حماية سياسية كافية
العالم اليوم يعيد تشكيل نفسه:
قوى اقتصادية تصعد، أقطاب تتنافس، مفاهيم السيادة والحدود تعاد صياغتها.
ومع ذلك، يدخل المواطن العربي هذه التحولات وهو بلا ضمانات حقيقية—لا منظومات تشاركية راسخة، ولا مؤسسات مستقلة تحميه، ولا سياسات تستشرف المستقبل بدل الاستجابة المتأخرة له.
إن أخطر ما تواجهه المنطقة ليس الأزمات نفسها، بل تطبيع الأزمات، واعتياد الشعوب على أن تتعايش مع ما لا ينبغي التعايش معه.
إعادة الإنسان إلى مركز السياسة… ليست رفاهية بل ضرورة بقاء
لا يمكن لأي دولة أن تزدهر بينما يفقد المواطن ثقته في العدالة، أو في مؤسسات الرقابة، أو في إمكانية التغيير السلمي.
الإصلاح الحقيقي يبدأ حين تعترف السياسة بأن الإنسان ليس تابعًا، بل شريكًا، وأن التنمية ليست أرقامًا، بل كرامة، وأن الأمن الحقيقي يبدأ في صدور الناس قبل أن يبدأ عند حدود الدول.
الإصلاح المطلوب لا يكلّف خرائط جديدة، بل نوايا جديدة:
-
مشاركة فعلية يصنع فيها الناس مصيرهم.
-
قانون عادل يحمي الجميع بلا تمييز.
-
إعلام مهني يستعيد دوره كسلطة رابعة لا كصدى للسلطة.
الخلاصة… الإنسان ليس عنوانًا بل جوهرًا
الدولة التي تحمي إنسانها تكسب قوتها من داخله، لا من فوقه.
أما الدولة التي تنظر إلى الإنسان باعتباره قابلًا للاستبدال، فإنها تفرّغ نفسها من معناها مهما بدت متماسكة.
لسنا بحاجة إلى معجزات، بل إلى إعادة ترتيب الأولويات:
أن يعود الإنسان مركز السياسة لا هامشها، هدفها لا وسيلتها، بوصلة القرار لا تفصيله.
فحين تستعيد السياسة إنسانيتها… تستعيد المجتمعات قدرتها على العيش، لا مجرد البقاء.
[email protected]