أبرزت الصحف العبرية يوم الاربعاء الفائت خبر ما حصل في احدى قاعات المحكمة العليا الاسرائيلية خلال استماعها لالتماس كانت قد قدّمته "جمعية حقوق المواطن" ضد وزارة الامن الداخلي المسؤولة عما يسمى "مصلحة السجون" ؛ وكان موضوع الالتماس سياسة تجويع الاسرى الفلسطينيين في السجون. لقد عنونت جريدة "معاريف" خبرها واصفة ما جرى بأنه "دراما في المحكمة العليا"؛ أما جريدة "هآرتس" التي تطرقت أيضا لمجريات المحاكمة اختارت أن تكتب في العنوان: "انتقاد المحكمة على تخفيض كميات الطعام للاسرى الامنيين، اجراءات غير مقبولة". حاولت النيابة العامة الاسرائيلية أن تدافع عن موقف مصلحة السجون؛ فادّعت أن القرار المذكور قد أتخذ لأسباب "لوجيستية وتنفيذية" وبدون خرق للمعايير الدولية الخاصة بحقوق الاسرى الامنيين؛ لكن المفاجأة/الدراما كانت عندما تبيّن أن موقف وزير الأمن الداخلي كان مختلفا؛ ولأسباب خفية حجبته النيابة عن القضاة. بعد ان تكشفت هذه الحقيقة، عُرضت على القضاة الثلاثة رسالة الوزير وفيها يصرّح: "بودّي أن أنوه على أنه لا يوجد في الواقع تجويع للأسرى، والادعاءات الواردة في الالتماس هي مجرد أكاذيب؛ بيد أنني أقر بأن سياستي تقضي بتقليص شروط معيشة الأسرى الأمنيين للحد الأدنى المسموح به وفق القانون، وهذا يشمل الطعام وكميات السعرات؛ ولا غضاضة"وأضاف: "لقد تقرر تقليص هامش حركة الأسرى داخل السجون، وذلك يشمل إبطال حق شرائهم أي أغراض أو حاجيات من دكان السجن، الكانتينا، وتغيير أساليب إطعامهم، لأن من شأن هذه التغييرات، أن تكون عاملا رادعا لمن يفكر بتنفيذ أعمال ارهابية ويهاب دخول السجن" !
وبّخ القضاة ممثلي النيابة العامة الذين تعمّدوا اخفاء موقف الوزير وادّعوا كذبا أن قرار تخفيض الطعام جاء لأسباب لوجستية، بينما يصر الوزير أن القرار كان قراره هو ويندرج ضمن سياسته العامة المعلنة ضد الأسرى الفلسطينيين. لم يصدر القضاة قرارهم؛ فبعد ان تساءلوا كيف يمكن تبرير لجوء دولة كاسرائيل إلى سياسة تجويع الأسرى كوسيلة للردع، ولماذا لم تقدم النيابة تقرير الجهات الصحية والطبية تقاريرها حول مدى تأثير السياسة الجديدة على صحة الاسرى، وبعد أن انتقدوا مجمل الاجراءات التي سبقت اتخاذ القرار والموقف الذي عرضته نيابة الدولة، صرّحوا أنهم سيصدرون قرارهم في الأيام المقبلة.
لن أراهن على ماذا سيكون قرار القضاة في هذه القضية الواضحة لنا كالشمس؛ فيكفي أن نستحضر مناظر الأسرى الذين تحرروا في الآونة الأخيرة من سجون الاحتلال وعادوا الى بيوتهم مرضى و"كالاشباح" بعد أن فقد كل واحد منهم عشرات الكيلوات في الأسر ، ويكفي كذلك أن نتذكر أعداد الأسرى الذين ماتوا في السجون بعد السابع من أكتوبر. لن أراهن على قرار هذه المحكمة لأنني على يقين بأن هذه الحكومة ووزراءها ماضون في مخططاتهم، لا سيما تلك التي تستهدف وجود الحركة الأسيرة وكرامة وسلامة أفرادها، ولن يحترموا أي قرار اذا كان ضد ما يريدون، فهم أصلا يحتقرون المحكمة ولا يوقّرون قضاتها.
خلال شهر فبراير الماضي قدّمت مجموعة مؤسسات حقوق انسان اسرائيلية التماسا لنفس المحكمة العليا، وكان موضوعه منع السلطات الاسرائيلية مندوبي الصليب الاحمر من زيارة الأسرى الامنيين الفلسطينيين بما يتناقض والمواثيق الدولية ذات العلاقة. فاق قرار حكومة اسرائيل كل التصورات وتحدى عمليا مؤسسة الصليب الاحمر والمنظمات الدولية.
قدّمت النيابة العامة الاسرائيلية مؤخرا ردّها على الالتماس، إذ دافعت فيه عن موقف الحكومة وأضافت أن الجهات المسؤولة في الدولة تعكف على تجهيز مقترح يقضي بإيجاد "جهاز بديل" سيقوم بمهام الصليب الأحمر ويحافظ على قواعد القانون الدولي وعلى حماية حقوق الأسرى. لم يشمل رد النيابة أية تفاصيل حول هذا المقترح ولا أي تصوّر حول موعد الاعلان عن إنشائه. أصدرت "جمعية حقوق المواطن" في أعقاب موقف الحكومة بيانًا جاء فيه: "لقد اتخذت حكومة اسرائيل بالقصد قرارا لخرق القانون الدولي، واختلاق جهاز وهمي بهدف استبدال النظام المقبول في العالم. لا تستطيع اسرائيل أن تتحايل على القانون الاسرائيلي وعلى جميع الترتيبات الدولية الملزمة لها والمعتمدة على قواعد القانون الدولي وعلى الحيادية والمهنية، وأن تستبدلهم بأجهزة من قبلها ". لقد قالت الجمعية ما قالت وقد صدقت، لكنهم كم يعرفون أن مقولتهم ابنة السراب ووليدة في قواميس الحسرات؛ فاسرائيل المحتلة قد خرقت وتخرق، بكل لحظة، القوانين والمواثيق وقواعد المنطق ولوائح القيم الانسانية وهذا ليس بعد وبسبب السابع من اكتوبر، بل منذ لحظة الاحتلال الأولى، الذي يعتبره القانون الدولي أم الخطايا والجريمة الكبرى.
لقد فقدتُ ثقتي في هذه المحكمة منذ وقت طويل لأنها لم تنصف، طيلة سنيّ الاحتلال، فلسطينيًا مظلومًا، مهما عظم وجعه أو مهما طالت شكواه ووضحت، بل كانت دائمًا درع الاحتلال المتين والآمن وحاضنته الرؤوم ومرساته الثابتة.
يتابع الاعلام الاسرائيلي والعالمي أحيانا ما يجري في قاعات المحكمة العليا، لا سيما إذا كانت القضايا المتداولة أمامها ذات أهمية لافتة؛ بينما تبقى جميع ساحات المحاكم الأخرى التي تقاضي الفلسطينيين، خاصة محكمتي عوفر وسالم العسكريتين، بعيدة عن رادارات ذلك الاعلام وعن اهتمام صحفيّيه، فتنسى معاناة الأسرى وعائلاتهم ومحاميهم أمامها وتترك بدون تغطية ومتابعة ولا يعرف عنها إلا ضحاياه.
من الصعب أن تسمى تلك الأماكن محاكم؛ فالمحكمة مكلّفة أولا بتحقيق العدل وبالعمل بنزاهة وبأن تحترم جميع الذين يمثلون أمامها، ويدخلون من بواباتها. ولئن واجهت وزملائي، خلال أربعين سنة عملي كمحام عن الأسرى الفلسطينيين، مشاكل جمة وصنوفًا من عداءات مارسها ضدنا القضاة أو المدّعون العسكريون أو السجانون، وأوصلتنا في بعض الحالات إلى مواجهة الخطر الحقيقي على حياتنا، إلا أننا كنا نعرف غالبا كيف ندافع ونحمي كراماتنا وحقوقنا وكرامة الأسرى وعائلاتهم وحقوقهم. لقد نجحنا في معظم الأزمات أن نجد الحيّزات الكافية والمعقولة للاستمرار في عملنا بقلق وفي خدمة موكلينا ومساعدتهم بقدر ما يمكن أن يتيحه جهاز قضاء عسكري قائم على الباطل "وعدله" العقيم والمستحيل.
لقد كان وضع المحاكم العسكرية بشكل عام وبقي سيئًا لكنه مستقرّ، حتى أقام بنيامين نتنياهو حكومته الحالية، فبدأنا نشعر اننا مقدمون على عالم عبثي جديد لن يبقى فيه أي أثر لما كان قبله ولا للقواعد الضرورية للمحافظة على استمرار "الوضع القائم".
لن أسهب في وصف الحالة الجديدة التي فرضوها علينا كمحامين، وعلى الأسرى الذين يواجهون اعتداءات وحشية وظروفا جهنمية كان قد نشر عن بعضها وبقي أكثرها طي عتمة الزنازين. إن التفاصيل اليومية كثيرة ومستفزة وعناوينها باختصار أن المحامين العاملين في المحاكم العسكرية يواجهون ظروفا مذلة ومهينة من لحظة وصولهم الى أبواب المحكمة أو السجن، حتى مغادرتهم. أما المشكلة الطارئة فهي أن عمل المحامين وفق الظروف والشروط الجديدة أصبح غير مجدٍ ولا حتى مقارنة بأقسى سنوات العمل في الماضي. لقد تغيرت عوامل معادلة توازن المكاسب والمخاسر ، وذلك لأن المحامين، خاصة بعد السابع من أكتوبر، تحوّلوا إلى أدوات كسيرة ومدجّنة وصاروا يزاولون عملهم بنمطية مهلكة من داخل أقفاص يزجون فيها ويتحركون منها وإليها وفق تعليمات العسكر وفي ظروف لا تلائم من يدافعون عن مناضلين وأحرار .
الذل والعجز وفقدان الهيبة وعدم احترام عناصر الجهاز القضائي لهم ولحقوق موكليهم والاستهتار بهم بشكل فاضح وبدعم من المحكمة العليا، جميعها عناوين هذه المرحلة وهي أسباب كافية بقناعتي كي يتنادى ويتدارس أهل فلسطين والمسؤولون عن قضايا الأسرى امكانية اتخاذ قرارات تاريخية صحيحة في سبيل ضمان مواجهة الوضع الخطير الجديد، كما يليق بتاريخ الحركة الأسيرة وبالذين دافعوا عنها ويعرفون متى يجب أن تلاطم أياديهم مخارز العدم.
لقد وصلنا الى زمن فيه نيابة الدولة تكذب على قضاة المحكمة العليا؛ وهذه تأوي قضاة مستوطنين، وتفسح الفرصة لحكومة لتشهر قرارها بتجويع آلاف الأسرى، ومحاكم عسكرية تعمل كخطوط انتاج تعلّب حريات الفلسطينيين وتلقي بها في السجون وفي صناديق المستحيل.الى هنا وصلنا فأين الطريق ؟ أعرف أنني أسأل وهناك من يريد أن يجيب، لكنني أعرف أيضا أن السؤال عسير والمسألة كبيرة وأعرف أنه عندما يكون الشأن كبيرا، تحتاج فلسطين إلى حركة وطنية كبيرة وقوية وصارمة، فهل تستجيب فلسطين؟
[email protected]