في السابع عشر من أيار الجاري، سيعلن البابا فرنسيس الثاني قداسة راهبتين فلسطينيتين عاشتا في القرن التاسع عشر، وسيتم ذلك في احتفال مهيب من المتوقع أن يحضره عشرات الآلاف من جميع أنحاء العالم، وبمشاركة زعماء العديد من الدول، بمن فيهم فخامة الرئيس محمود عباس ومعه وفد سيمثل فلسطين التي أنجبت الراهبتين، ماري بواردي المولودة الجليل، وماري غطاس التي ولدت في القدس، حيث عاشتا وخدمتا أهلها وفي ثراها دفنتا على رجاء القيامة.
إنه حدث تاريخي هام، فعلاوة على ما توليه جماهير المؤمنين المسيحيين في العالم، وخاصة الكاثوليكيين منهم، من حفاوة دينية خالصة للبابا ومكانته، وما تحمله هذه الجموع من مشاعر إيمان وورع، لراهبتين كرّستا حياتهما في خدمة البشر، ونشرتا قيم المحبة والعطاء والتضحية، كما فهمتاها وصايا من معلّمهن الأول، واقتدتا بها، ستشهر الكنيسة الكاثوليكية، في ذاك اليوم، موقفًا هو أبعد من حدود الدين الواسعة وطقوسه الضيّقة؛ فمع رفرفاتعلم فلسطين في ساحة بطرس الرسول وفي ساحات روما، يطرّز الفاتيكان رسالةً ويطيّرها، أوضح من قبس، مؤكدًا، للقاصي والداني، حرصه على أبناء فلسطين العرب، ومُقِرًّا، وهو الذي يمثل أكثر من مليار ومائتي مليون إنسان، بأهمية فلسطين وقدسية دور بناتها وأبنائها في الحفاظ على شعلة النور التي كان شمعها الإنسان المحب والمضحّي من أجل حرّية وكرامة أخيه الإنسان.
وبينما سيحتفل العالم بفلسطينية "العينين والوشم، والأحلام والهم"، ينتشر في مواقعنا جهل قاتل إزاء عالم الكنائس الواسع والناشط في أرجاء المعمورة. ويسود، على الأغلب، بين الناس، في المشرق العربي وفي معظم الدول الإسلامية، اعتقاد أن كل الكنائس في العالم متشابهة وتنتمي كلّها إلى فصيلة دم واحدة، وتتبع رئاساتها ذات المواقف السياسية، إلا من شذَّ منها، وهي، بشذوذها، تشكّل الاستثناء الذي يؤكد تلك القاعدة الراجحة.
لن نبحث، في هذه المقالة، عن الأسباب التي أدت إلى تشكيل وانتشار تلك الذهنية والاعتقاد، فحبل تلك السرّة الخانق قد يمتد إلى ولادة الحروب الصليبية، لا سيّما ما ألحق بها من توظيف مغرض لبعض معانيها وتجلّياتها، وقد يصل إلى ولادة "الريجانية" و"البوشية"، ومن سبقهما من آباء موتورين وتلاهما من مواليد مشوّهين، ولكن ما سأحاول التنبيه إليه هنا، هو ضرورة أن لا نتعاطى مع ما سيجري في الفاتيكان بعفوية وإهمال، وأتمنى على الفلسطينيين أن ينتهزوا هذه الفرصة ويحلّقوا على جناحيها: الديني المقدس والإنساني الوطني.
فعندما سيحيي الفاتيكان، ومعه الملايين، ذكرى فلسطينية "المنديل والقدمين والكلمات والصمت"، تجدنا، في الواقع، نعيش في مجتمعات ينظر معظم أفرادها ويعتقدون أن أغلبية "النصارى" هم من نسل أولئك الصليبيين، والمسيحيين في العالم إخوة "لتاتشر" وحلفاء "لريجان وبوش" ؛ هكذا بالنسبة للأجانب، أصحاب العيون الزرق، أمّا مصيبة المسيحيين أبناء غسان وأحفاد النابغة، أعوص وأوجع، فأكثرية سكان الدول العربية والإسلامية يجهلون وجود عرب مسيحيين مواطنين أقحاح، عاشوا ويعيشون في أوطانهم منذ أيام السيد المسيح وإلى أيام داعش وأخواتها؛ ويجهلون أن التاريخ مضى والمؤمنون ينامون على زند أمل وتناهيد حب لأوطانهم، وحتى عندما تقلّبت أحوالهم، قاوموا وبنوا وتمازجوا مع شعوب هذه الأرض، فصاروا جزءًا من فضائها وقطعة من نسيجها الثقافي والوطني والاجتماعي، ولبس الشرق، معهم وبهم، أحمرَه، وعبقت في الجهات رائحته، وذاع بين الأمم طعمه، وحلا مذاقه، ووهب للسماء لونها الأزرق الوادع الصافي.
ربما سيكون الاحتفال في الفاتيكان، وأصداؤه في روما وقريناتها، الأكثر جذبًا لأنظار العالم، ولكننا يجب أن لا ننسى ما بادرت إليه، في السنوات الماضية، عدة مجامع كنسية وأعلنت قياداتها الروحية مؤازرتها لقضية فلسطين، وبعضها شرع باتخاذ خطوات عملية تعدّت رفع صلوات أتباعها من أجل حرية فلسطين وخلاص شعبها من الاحتلال الاسرائيلي، فنادت بعض تلك القيادات الروحية بوجوب مقاطعة اسرائيل المحتلة، وحضت أتباعها على تنفيذ خطوات فعلية في هذه الاتجاهات. قائمة تلك الكنائس طويلة، وأذكر منها، الكنيسة اللوثوية، والكنيسة المشيخية، وكنيسة المسيح المتحدة، وكنائس كاثوليكية، وأنجليكانية وغيرها، فجميعها عبّرت، في مواقف رسمية علنية عديدة، عن مساندتها للحق الفلسطيني ومعارضتها للاحتلال الاسرائيلي وممارساته.
وإني إذ أؤكد على هذه الحقائق، أذكّر بما قرأناه قبل أشهر قليلة، في صحيفة القدس العربي، وعلى لسان وزير الخارجية الفلسطيني، السيد رياض المالكي، حين أعلن أن فلسطين فشلت بالحصول على موافقة تسع وعشرين دولة اسلامية وهو العدد المطلوب ليكتمل النصاب القانوني من أجل عقد جلسة لقمة طارئة لدول منظمة التعاون الاسلامي، طالبت فلسطين تخصيصها لبحث عمليّات الاستيطان التهويدي في القدس، والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على الأقصى وأماكن دينية أخرى.
وحين أذكّر بهذا الواقع العربي والإسلامي الأليم، أنوّه أن توطيد العلاقات الفلسطينية مع كنائس العالم، وخاصة تلك التي جاهرت بمواقفها المساندة للحق الفلسطيني، باتت مهمة استراتيجية هامة ويجب أن تحظى برعاية القيادة الفلسطينية، التي وإن دأبت على ايلائها أهمية والتفاتة، تستدعي، على ضوء المستجدات العالمية، إعادة نظر، فمن أوكلوا بهذه المهام الجسام باتوا بحاجة إلى تدعيم وإسناد، ولذلك، برأيي، توجد ضرورة إلى رفد تلك الهيئات المسؤولة عن العلاقات مع الكنائس وأتباعها، بقوى مهنية جديدة، قد تؤدي إضافتها إلى نجاعة أكبر في العمل، وتحصيل نتائج مؤثرة لصالح فلسطين والقدس، التي كانت في قلب ابنة الجليل، ماري الاعبلينية، وأختها الساهرة على ندى وردهها، ماري ( سلطانه) غطاس.
كم قلنا أن الوطن أكبر من بلاطة وقبة ومبكى، فهل يا ترى سيسمع العالم صلوات بناته اللاتي أحببنه، كما أحبّه ذلك العاشق الذي من فلسطين حين أقسم: "من رموش العين سوف أخيط منديلا، وأنقش فوقه لعينيك، وإسما حين أسقيه فؤادًا ذاب ترتيلا.. يمد عرائش الأيك.. ".
[email protected]