ما زال الرأي السائد في أوساط المواطنين العرب في اسرائيل يجزم بأن الصراع الدائر داخل المجتمع اليهودي لا يعنينا، نحن المواطنين الفلسطينيين، إلا بكونه احترابًا بين معسكرين يهوديين عدوّين لنا؛ ولذا، فمن المفضّل أن نبقى خارج حلباته وننتظر نهاياته التي ستكون حتماً في صالحنا. هكذا تفترض وتتصرف أكثرية الجماهير العربية وتمضي في ممارسة شؤون حياتها اليومية بروتينية ساذجة، وكأننا نعيش عل كوكب آخر، لا في اسرائيل.
من السهل، كما قلنا سابقًا، أن نعدد الاسباب والدوافع التي يوظفها دعاة مقاطعة المشاركة في الاحتجاجات المستمرة في العديد من المدن والمواقع الاسرائيلية؛ وإن كان بعضها صحيحا، من حيث المنطق والحجة، يبقى واجباً علينا أن نرى الصورة بكامل عناصرها وأن نضع جميع المعطيات والعوامل في كفتي ميزان السياسة، لنقرر ماذا يتوجب علينا عمله كضحايا مباشرين للحكومة الحالية؛ فالتذرع، على سبيل المثال، بمواقف رؤساء أحزاب المعارضة العنصريين وعدم رغبتهم، المستفزة والمقيتة، في مشاركة المواطنين العرب وقياداتهم معهم في الاحتجاجات، يندرج تحت باب الذريعة الناقصة، وهي تقول في حالتنا "أجت منهم لا منا ". فهذه المواقف لا تفيد في مثل هذه الظروف الاستثنائية، خاصة وأن الذين يرفعون هذه الرايات بيننا لا يقترحون علينا برامج سياسية جدية بديلة، ولا يبادرون الى خطوات نضالية مدروسة ومبرمجة تضمن تحشيدًا شعبيًا رضائيًا وقادرًا على التأثير الفعّال وعلى المثابرة التي هي من أهم عناصر المرحلة. وكما قلنا نكرر: لا يصحّ ألا نشارك في تل ابيب، بينما نعجز عن اقناع الجماهير بضرورة انخراطها المستديم والخروج الى شوارع الطيرة والناصرة وكفرياسيف ورهط.
من المحزن ومن المؤسف أن تكتفي معظم القيادات السياسية العربية والدينية ومعظم النخب المنتجة للفكر والضالعة في صناعة الرأي العام، بتشخيص مخاطر نظام الحكم في اسرائيل ومواجهة تلك المخاطر باللاعمل أو بالتنظير وبالشعارات العامة الفضفاضة التي ما فتئنا نسمع بعضها منذ كنّا أولادًا نحب الغبار والريح ودردبات الطبول وهي تدق على أبواب العواصم العربية، وحين كنا لا نفرّق بين الحِلم والحُلم، ولا بين الهُوية والهَوية.
ومن الغريب ألا يذوّت جميع من ذكرتهم أعلاه مغازي التداعيات الحاصلة داخل المشهد الاسرائيلي، ولا كيف تولد أمام أعيننا لحظة تاريخية لا يمكن أن نهملها أو نستخف بها وألا نتفاعل معها. ولا يجوز لنا ألا ننتبه الى جملة التصدعات الجارية داخل المجتمع اليهودي والتي لم نشهد لها مثيلا، من حيث سعتها أفقيًا وعمقها عاموديًا، ولا في اي محطة منذ قيام اسرائيل. لقد عرف المجتمع اليهودي صدامات كانت في بعض تجلياتها عنيفة؛ حرّكت بعضها أحيانًا صراعات طبقية، أو في احيان اخرى، صدامات ثقافيًة بين اليهود الاشكناز والسفارديم، وهم اليهود الشرقيون، او خضعت أحيانًا لتجاذبات بين العلمانيين والمتدينين؛ بيد أنه في جميع تلك الحالات بقيت الصراعات داخل حضن الدولة، لا صراعاً عليها، كما هو وضعنا اليوم؛ ودارت رحى جميعها تحت عقد الحركة الصهيونية والاجماع حول ما تعنيه لكل اليهود الصهاينة، وليس كما هو الحال عليه اليوم؛ وجرت جميعها ضمن اقرار بعدم التعرض لجملة من المحرّمات/التابوهات مثل: الجيش، ومكانة القانون، والمنظومة القضائية، ومفهوم الامن الوطني الاسرائيلي، وما ومن هي العناصر التي ترسم حدوده وتعرّفه؛ هكذا كان طيلة سبعة عقود كاملة بينما تحولت اليوم جميع هذه المحرّمات، هي بذاتها، الى عناوين مستهدفة من قبل أحزاب حكومة اسرائيل الجديدة، والتي لا تخفي مآربها وخططها تجاهنا نحن المواطنين الفلسطينيين وعموم الفلسطينين، في حالة نسفها لتلك التابوهات.
أمور كثيرة تحصل، وليس داخل اسرائيل وحسب، وعلينا الانتباه اليها ؛ فمتى قاطع النظام الأمريكي ومعه كبريات المنظمات الصهيونية اليهودية زيارة وزير المالية الاسرائيلية، كما حصل، قبل أيام، خلال زيارة الوزير بتصلئيل سموطريتش لامريكا؟ وسموطريتش ليس الوزير الوحيد الذي اعلنت عدة دول غربية انها ستقاطعهم ولن تتعامل معهم بسبب امعانهم بالقضاء على اسس نظام الحكم القائم، وبسبب مواقفهم تجاهنا كأقلية مواطنة داخل اسرائيل، وأيضا بسبب مواقفهم الدموية وسياساتهم العنصرية والقمعية تجاه ابناء الشعب الفلسطيني. فجهات عديدة في دول العالم بدأت تعارض مضامين السياسة الحكومية الاسرائيلية ومخططاتها تجاه الارض الفلسطينية وممارساتها بحق الفلسطينيين؛ وقد شكل الاعتداء الفاشي الدموي على حوارة محطة هامة توقّف عندها قادة العالم لما حملته من نذائر حول "قدرات" هذه الحكومة. وقد تعكس زيارة الممثل الامريكي الخاص للشؤون الفلسطينية ، هادي عمرو، الى حوارة في يوم 28/2/2023 وجهًا من امكانيات التغيير المرغوب والمحتمل في الرأي العام الرسمي والشعبي وفي بعض المحافل الدولية، خاصة اذا تنبهنا لما قاله السيد هادي وهو على أرض حوارة؛ فبعد تأكيده على "ادانة اعمال العنف العشوائية واسعة النطاق من جانب المستوطنين"، أعلن انهم في امريكا يريدون "أن يروا محاسبة كاملة ومقاضاة من خلال القانون للمسؤولين عن هذه الهجمات الشنيعة، وتعويضات لأولئك الذين فقدوا ممتلكاتهم أو تتضرروا بطريقة أخرى". قد يشكك البعض بجدوى هذه التصريحات وبجديتها وبفاعليتها، خاصة أن جميعنا يعرف تاريخ الدعم الاسطوري الذي أمّنته وتؤمّنه أمريكا لاسرائيل على جميع الجبهات، واستمرار دعم احتلالها للاراضي الفلسطينية وتغطيتها المثابرة لجميع موبقاتها بحق الفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك يجب أن تحسب مثل هذه المواقف وفق القواعد التراكمية، وهذه تأتي أكلها مع مرور الزمن شريطة ملاحقتها؛ والاهم انها تتطلب بذل مجهود كبير من الضحية وعدم الاكتفاء بالبكاء أو الاستجداء أو الدعاء وانتظار الفرج من حيث لا ندري.
لا أعرف كم من بيننا تابعوا قوائم المجموعات التي اطلقت نداءاتها المعارضة لمخططات حكومة نتنياهو الجديدة. ومن اللافت ان يكون بين هذه الجماعات جهات اجنبية عديدة. من الضروري أن نتمعن في تلك القوائم وفي اسماء أصحابها، ليس لأنها أعربت عن معارضتها وخشيتها من تقويض أسس الديمقراطية داخل اسرائيل، وتاكيدها على ان مخططات هذه الحكومة ستفضي الى انشاء نظام دكتاتوري مرفوض، وحسب، بل كي نتعرف على كمية التأييد والدعم الذين كانت اسرائيل تحظى بهما في الماضي؛ ونعرف كذلك من هي الجهات التي كانت تؤمّن لها أحزمة النجاة وأغطية الشرعية، رغم ما كانت حكوماتها السابقة تمارسه.
لقد قام موقع "واي نت" الاسرائيلي في تاريخ 17/2/2023 بنشر تقرير تضمن اسماء مجموعة من الجهات التي وجهت نداءاتها لنتنياهو ولحكومته وطالبتهما بالعدول عن تنفيذ مخططهما، وحذرتهما من مغبة استمرارهما بهما ومما سيلحقه ذلك بمكانة اسرائيل في العالم وامكانية رفع غطاء الشرعية عن سياساتها وسحب ابسطة الدعم الممدودة لها منذ سنوات ولغاية هذه الايام . وأورد التقرير قائمة جزئية باسماء الجهات المعترضة على المخطط ومنها : عريضة موقعة من (400) عنصر قيادي رفيع المستوى عملوا في اجهزة الامن على فروعها؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء "مجلس الأمن القومي" الاسرائيلي السابقين؛ عريضة تضمنت تواقيع اكبر سبعة عشر مكتب محامين في اسرائيل يعمل فيها (3500) محاميًا؛ عريضة موقعة من (300) عالم اقتصاد من بينهم الفائز بجائزة نوبل دانييل كهنمان؛ عريضة موقعة من قبل (50) مديرا عاما في عدة وزارات، خاصة ذات الطابع المالي والاقتصادي؛ عريضة موقعة من قبل (100) من رؤساء ومسؤولين كبار في شركات الهايتك؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء الجامعات الاسرائيلية؛ عريضة موقعة من (185) محاضرا كبيرا في كليات القانون؛ عريضة من قبل (50) بروفيسورا امريكيا في القانون وبينهم احد اهم المنافحين الكبار عن اسرائيل هناك وصديق لنتنياهو، ألان درشوفيتس؛ عريضة موقعة من (240) محاضرا في مادة العلوم السياسية في الجامعات؛ عريضة من (13) فائزا بجائزة نوبل في الاقتصاد؛ عريضة موقعة من (200) عالم يُعدون من بين اشهر العلماء اليهود في العالم، من بينهم تسعة علماء حائزون على جائزة نوبل في العلوم؛ عريضة موقعة من (18) قاضيا ورئيسا سابقين في المحكمة العليا الاسرائيلية وعريضة موقعة من(70) قاضيا في المحكمة العليا الكندية، وغيرهم كثر. قد يقول قائل ما شأننا وهذه القوائم؟ فموقعوها في النهاية يعبرون عن خشيتهم من سقوط نظام حكم دولة مارست العنصرية بحقنا، نحن المواطنين في الدولة، ومارست الاحتلال وبشائعه ضد ابناء شعبنا الفلسطينيين ، وهذا طبعا صحيح، ولكن لهؤلاء اقول: اذا كان كل هؤلاء يخافون من طبيعة النظام الجديد ويؤكدون انهم لن يسندوه لانه سيكون ذا طابع ديكتاتوري وفاشي، فهل من الصعب ان نتصور حالنا وكيف سيعاملنا هذا النظام نحن في اسرائيل وكيف سيعامل اخواننا الفلسطينيين. قد يكون خوفهم على دولتهم، بيننا يجب ان يكون خوفنا من "دولتنا" واستعدادنا لمواجهة سياساتها المقبلة .
نحن امام لحظة تاريخية، وعلينا ان نكون جزءًا من صنع هذا التاريخ؛ فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم رموز النظام القديم والتصفيق لديموقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على الحياد وانتظار نهاية حرب اليهود. انها لحظة علينا ان نحاول فيها، ونحن قادرون على ذلك، ان نرفع، الى جانب مطلب تحقيق الديمقراطية، شعاري انهاء الاحتلال والمساواة التامة لنا، وعلينا ان نقنع هولاء اليهود بضرورة تبنيهم لهذه المطالب – لقد خصصت جريدة هآرتس العبرية افتتاحيتها اللافتة قبل ثلاثة ايام لهذا الموضوع- فبدون ذلك سيخسرون دولتهم التي لم تكن يومًا ديموقراطية، وستقوم هنا دولة فاشية سنكون نحن طبعًا اولى ضحاياها، وسيلحقنا جميع من صرخ باسم الديموقراطية.
[email protected]