الكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ... وأيضًا فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ...فالكلمة الهادفة والبنَّاءة سلاحٌ قويٌ يجب أن نحسن استخدامَه. انطلاقًا من روح هذا الكلام سوف نحاول وإياكم مقاربةَ المجلةِ الثقافيةِ ودورِها في مجتمعنا العربي. وقد يكون من نافل القول التأكيدُ على أن الصحافةَ والمجلاتِ، لاسيما الثقافيةُ والأدبيةُ منها، تعدُّ لسانَ حالِ الشعب في كل مجتمع، فهي تعبِّرُ عن آرائه وتناقشُ مشكلاتِه وقضاياهُ وتحدِّدُ اتجاهاتِه الثقافية. وقد أُطلق على وسائل الإعلام وعلى المكتوبة منها بشكل خاص السلطةُ الرابعة، لما لها من دورٍ مؤثّر وفعّال في مجريات الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأي مجتمع. لذا فإنّ ما يصدر من صحف ومجلات متنوعة إنما يدل على مدى الوعي الثقافي والتطور الاجتماعي والسياسي للمجتمع. كذلك هو مجتمعنا، فإنه سوف يتقدم وينهض طالما بقي الوعي فينا والثقافةُ مطلبنا والعقل رائدنا. حينذاك فقط، يمكننا أن نحافظَ على وجودنا وهُويتِنا من خلال تطوير لغتنا وثقافتنا ووعينا.
إنَّ الفراغ مفسدةٌ وأيُّ مفسدة! ولنعترف مقدَّمًا، ولو من باب التشخيص لا من باب العلاج، أنَّ لدينا، كأفراد ومجتمع، ما يُشبه العداوةَ أو قل النفورَ من الكتاب والمجلات الثقافية ومن الشعور بعدم الحاجة إلى القراءة بشكل عام، الأمر الذي سوف يؤدي بنا بالضرورة إلى فراغٍ في الزاد الثقافي وشُحٍ في الغذاء الروحيٍ كبيرينِ في حياتنا الخاصة والعامة، وكما نعلم جميعًا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! وبما أن الطبيعةَ تأبى الفراغَ، فإن الفراغ كلَّ فراغٍ، إذا لم يُملأ بالقيم النبيلة والمزايا السامية فسوف يُملأ، حتمًا، بكل ما هو سلبيٌ ومنافٍ للقيم والفضيلة والثقافة والوعي والخير والمحبة. ويثبت واقع الحال وهو ما نلمسُهُ من معاناةٍ شبهِ يومية، صحةَ ما ذهبنا إليه وادعيناه. فإذا خرجت الثقافة من بيننا وغاب الوعي عنّا، دخل نقيضها علينا، وانتشر بيننا كانتشار النار في الهشيم، كظاهرةِ العنفِ الكلامي والجسدي والنفسي ومظاهرِ العنصرية الدينية والطائفية والمذهبية البغيضة، على سبيل المثال لا الحصر. فلنضعْ يدَنا بيد بعض ولنتعاونْ معًا، فما أحوجَنا إلى بعض، ولنحصِّنْ أنفسَنا بتفعيل الثقافةِ وتوظيفِ الوعي وإعمالِ العقل. فنحن بحاجة ماسّة إلى كلِّ ما يمكن أن يعزّزَ تماسكَ المجتمعِ ويحميَهُ من مظاهر التخلف بكل أشكاله. هنا بالذات تكمن أهميةُ دورِ المجلة الثقافية في التكوين الثقافي والتوعية للإنسان الفرد والمجتمع على حد سواء. فالمعرفة والثقافة نمط حياةٍ ومصدرُ قوة! وقد قال من قال: إن كلَّ ما صنعته البشريةُ وفكرت فيه واكتسبته موجود في صفحات الكتب! وقِس على ذلك أيضًا المجلاتِ الثقافيةَ، بكل تأكيد!
أضف إلى ذلك، ما نشهدُه اليومَ في ضوء تزايدِ التقدمِ التكنولوجي وأمامَ ظاهرة انتشار الثقافة الالكترونية، من قتلٍ للإبداع، وتحويلِنا إلى مجتمع مستهلك لا منتج، قد أدَّى بنا إلى تراجعٍ حادٍ في الإقبال على المجلات الثقافية، مقارنةً بما كان عليه الوضع في السابق.فكلُّ المعطَياتِ تشير إلى انحسارٍ وتراجعٍ في حالتنا الثقافية.
بالمقابل، نستطيع القول: كانت المدنُ الفلسطينية قبل وقوع النكبة عام 1948 تتنافس في ما بينَها في نشر الثقافة، وأما انشاءُ المجلات الثقافية في بلادنا قبل وقوع النكبة، على يد الروادِ الأوائلِ من المثقفين الفلسطينيين، فنابعٌ من إدراكهم لأهميةِ تلك المجلات وتأثيرِها الكبير في الفرد والمجتمع، على الرغم من ضيق ذات اليد آنذاك.كانت بلادنا فلسطين، في فترة ما قبلَ النكبةِ، تعج بالمجلات الثقافية والأدبية، نذكر منها على سبيل التمثيل:
- مجلةَ "النفائس" التي أسسها المرحوم خليل بيدس في حيفا عام 1908 بعد إعلان الدستور العثماني بقليل، والمرحوم بيدس مولود في الناصرة عام 1874 ومتوفَّى في القدس عام 1949، ثم تغيَّر اسمُها ليُصبحَ "النفائسَ العصرية" بعد انتقالها إلى القدس. وقد استمرت بالصدور حتى العام 1923. وتعدُّ مجلةُ "النفائس العصرية" من أهمِّ المجلات االثقافية التي صدرت في حينه بفلسطين.
- مجلة "النفير" الحيفاوية أسسها ابراهيم زكَّا في الاسكندرية منذ صدورها عام 1904 حتى أفول نجمها في حيفا عام 1945.
- مجلة القافلة (المنتدى سابقًا) كان رئيسُ تحريرِها المفكرَ والأديبَ والمربي المرحوم حسن مصطفى، وهي مجلة فلسطينية عربية أسبوعية مصوَّرة، فيها مخزون ثقافي وأدبي وفكري كبير صدر منها حتى عام 1948 اثنان وخمسون عددًا بأقلام فلسطينية وعربية.
أما بعد وقوع النكبة فكانت:
- مجلةُ الجديد، الصادرةُ عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، رائدةً في مجالها، وهي أشهرُها على الإطلاق. وقد صدر العدد الأول منها في شهر تشرين الاوّل عام 1951 كملحق أدبي لصحيفة ألاتحاد ثم صدرت المجلة بشكلها المنتظم منذ شهر تشرين الثاني 1953 واستمرت حتى شهر أيلول 1991 حيث توقفت عن الصدور. ولا يختلف اثنان بأن مجلةَ الجديد تعدُّ مدرسةً ثقافية وطنية بامتياز، لما أسدته لشعبنا من أيادٍ بيضاءَ في مجال العطاء الإبداعي والتنوير الثقافي والبقاء ألإنساني على مدى أربعةِ عقودٍ متتالية تقريبًا. لقد أدت مجلة الجديد دورًا مهمًا، في دفع مسيرة الحركة الأدبية والثقافية والوطنية لدى شعبنا.
وقد يحسُن بنا، في هذا السياق، أن نذكر:
- مجلة العربي الكويتية، ذاتِ الشهرة المعروفة والانتشار الواسع، والتي كنا وما زلنا ننتظر صدورَها بفارغ الصبر! فهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على مدى ما تحظى به تلك المجلات من مكانةٍ مرموقة وما تتمتعُ به من مستوىً راقٍ، مع ما في ذلك من دحضٍ لمقولة أن زمن المطبوعات قد ولى وانقضى إلى غير رجعة!
واليومَ، نحن أمام واقع جديد تتبوأ فيه مجلة مواقف مكانة الصدارة، معها ومن خلالها يتطلعُ مجتمعنا إلى وصلِ حبلِ ما انقطع، وذلك بالاستمرار في الإصدار والنشر، والعملِ على رفع مستوى المجلة وتحسينِه، حتى يزدادَ الإقبالُ عليها ويتعمق، ويعمَّ النفعُ بها ويتحقق، وبذلك يمكنُ أن تُعيدَ "مواقف" للمجلة الثقافيةِ مجدَها الزاهر، ونفاخرَ بأنَّ لدينا خيرَ أبناءٍ لخيرِ آباء! ولا يساورني أدنى شك بأن مجلة مواقف يمكن أن تنهض بهذه المهمة على أكمل وجه.
وفي الحق، فإن مجلة مواقف مجلةٌ رائدة في مجالها، بمقدورها أن تواصل المسيرة بكل جدارة، إذ استطاعت، على الرغم من كل ما كان يعترض طريقَها من معيقات وظروف صعبة، أن تنقش على رايتها، ومنذ تأسيسِها، أن تكون المنبرَ الحرَّ للكلمة الصادقة في الفكر والمعرفة والثقافة والإبداع، وتطمحَ لتصبحَ مستقبلاً مشروعًا ثقافيًا متكاملاً؛ شكلاً ومضمونًا. فهيا بنا إلى التواصلِ معها بالقراءة والدعم والتشجيع، كأن نعمل على إقامة مجموعة أصدقاء للمجلة، تتولى دعمها المعنوي والمادي. لقد مضى على نكبة شعبنا إلى اليوم ما يقاربُ سبعةَ عقود، من دون أن يكون لدينا، إلى الآن، مؤسسةٌ ثقافية معتبرة بكل المقاييس تختصُّ بإصدارِ مجلةٍ ثقافيةٍ عصريةٍ تجيب على متطلباتنا كأفراد ومجتمع وشعب، فجاءت مجلة مواقف لتسدَّ هذا النقص.
وبعد، فإنَّ محرِّرَ المجلَّةِ الثقافيةِ اليومَ باختياره لهذا المجال يكونُ قد اختار طريقًا وعِرًا ومركبًا صعبًا عزَّ ركابُهُ في هذا العصر. نحن نعلمُ كم هو الطريق صعبٌ وشاقٌّ وطويلٌ أمامَه، لذا فإنَّ المحرِّرَ أشبهُ ما يكون وإلى حدٍّ كبير بالحارس الثقافي، لأنه يحملُ رسالةً ويؤدي أمانةً، خاصة أننا نعيش في مرحلة من أدقِّ وأصعبِ المراحلِ التي يمر بها شعبُنا وأمتُنا، في خضمِّ نظام العولمة، وهو ما نشاهدُهُ بأمِّ العينِ يوميًا تقريبًا إذا ما نظرنا من حولِنا. ولا يفوتُنا في هذا المقام أن نناشدَ سلطاتِنا العربية المحلية والمؤسسات الرسمية بضرورة الدعم المادي والتشجيع المعنوي لمجلاتنا الثقافية من أجل الاستمرار بالقيام بدورها المنوط بها.
وللقائمين على مجلة مواقف تحديدًا نقول: من حقنا كقراء أن نتوجه إليكم ونطالبُكم بالارتقاء بمستوى الكتابة بما يليقُ بالقارئ وبكم كمحررين، لجهة الجرأة والمصداقية والموضوعية في النقد والنقد الذاتي والمنافسةِ الإيجابيةِ بين الأقلام، وبذلِ قُصارى الجهدِ بكلِّ ما يمكنُ أن يشجعَ الأقلامَ الإبداعيةَ والحداثيةَ منها بخاصة، ويدعمَ المواهب الكتابية الواعدة، مع نبذِ ما هو مبتذلٌ وإن كان شائعًا أو منتشرًا. وبنفس الوقت أن لا نَغفَلَ عن الانفتاح على روائع الأدب العالمي. كذلك، يجبُ أن نوليَ اهتمامًا خاصًا بقضايا المرأة المتعددة، والعملَ على رفع مكانتها بيننا. كما نتطلعُ، إلى ترسيخ الجذور الوطنية ونشر الرواية الفلسطينية وتوثيقها، من خلال الكتابة عن القرى المهجرة، وعن شخصيات ثقافية وأخرى وطنية، وذلك لأجل الحفاظ على هُويتنا الفلسطينية: الثقافية والوطنية. فقدمًا إلى الأمام دائمًا!
[email protected]