على الرغم من مرور شهر تقريبًا على اعلان يائير لابيد عن نجاحه بتشكيل حكومة اسرائيلية جديدة وحصولها على الدعم من قبل الحركة الاسلامية الجنوبية، لا نستطيع أن ندّعي بأن مشاعر سخط المواطنين العرب على هذه الحكومة بارزة للعيان بشكل لا يقبل المناقشة والتأويل؛ ولا أن ندّعي بأن معارضة "الشارع" العربي، داخل اسرائيل، لقرار دعمها من قبل الدكتور منصور عباس وزملائه في القائمة الموحدة، واضح لجميع المراقبين والمتابعين والمحللين.
لقد سمعنا، بالطبع، انتقادات متفرقة لهذه الخطوة؛ وقد تصدّر نواب القائمة المشتركة حملات الانتقاد هذه والهجوم على زملائهم في القائمة الموحدة، ومثلهم فعل قادة الحركة الاسلامية الشمالية، المحظورة داخل اسرائيل، ومعهم قيادات بعض المؤسسات المدنية والشخصيات النخبوية؛ ولكن اذا أصغينا بجدية لنبض الجماهير واذا نظرنا بدقة إلى طبيعة الاجواء السائدة في معظم القرى والمدن العربية، لن نشعر بحالة من الفوران والغضب الشعبيين، بل ربما سنلمس حالة من شيوع الالتباس، التي تجاورها، في بعض الجيوب السكانية الواسعة، مشاعر من الترقب أو التمني بخيرات حكومة التغيير الجديدة، كما أسماها مقيموها.
لسنا في معرض تحليل هذا الواقع ولا بمآلات تشكّله التاريخي؛ لكننا نستطيع، بهذه العجالة، أن نعدد بعضًا من الأسباب البارزة التي ساعدت على بلورته وعلى افشاء حالتي: الالتباس العام والتخبط الهويّاتي.
فهنالك فوضى في سوقي المواطنة والهوية؛ حيث لا يستطيع المواطن العربي العادي أن يقتفي وأن يتفهم ما هي مواقف معظم الأحزاب والحركات السياسية والدينية الناشطة في مجتمعاتنا ازاء العلاقة بين شقي معادلة وجودنا بمركبيها : المواطني/ الاسرائيلي والوطني / الفلسطيني، ولا كيف يشتبكان أو يتعايشان، ليس في النظرية وحسب، انما في حياة ذلك المواطن اليومية وأثناء ممارسته للعلاقات الطبيعية مع مؤسسات الدولة وداخل مجتمعه.
وكي لا نذهب بعيدًا في التاريخ، وكي لا نظلم أحدًا على حساب أحد، أقول أن الجميع كانوا وما زالوا شركاء في خلق وهندسة هذا الواقع الملتبس؛ فالحركة الاسلامية نفسها كانت سببًا في خلق هذه البلبلة الهوياتيّة، خاصة بين مؤيديها؛ وذلك ليس فقط بتقديمها، كما هو متوقع، مركب الاسلام على غيره في هوية الانسان/المواطن الفلسطيني، بل بخلقها حالة من الصراع الشديد داخل المجتمعات الاسلامية وذلك عندما انقسمت على نفسها، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، واختلف جناحاها حول شرعية المشاركة في انتخابات الكنيست الاسرائيلية. لقد نمّى ذلك الانقسام، الذي ما زال قائمًا بحدة، مشاعر الضياع في كثير من التجمعات السكانية، وساعد على عزوف الكثيرين عن المشاركة السياسية، ودخولهم الى حالة من الفردانية وحتى الاستدفاء في أحضان الدولة والتماهي مع مؤسساتها. ثم أن استغلال مجلس شورى الحركة لحالة الفوضى السياسية الحزبية القائمة وللتناقضات في تعريف حدود الممنوع والمسموح، وطنيًا ومواطنيًا، ساعدهم، إلى حد بعيد، في تسويق قرارهم الأخير ؛ خاصة بعد أن أكدوا على الملأ أن اختيارهم لنهج "الدبلوماسية النفعية" لم يولد في زمن الدكتور منصور عباس، بل سبقه الى ذلك المحامي عبدالمالك دهامشة الذي مثل الحركة في الكنيست، (منذ عام 1996حتى عام 2006)، ورغم سلوكها المعروف، لم تمتنع مركبات القائمة المشتركة عن اتخاذ الحركة الاسلامية حليفًا لهم في جولة الانتخابات قبل الاخيرة.
لم يكن حال حزب التجمع الوطني في خلق واقع المواطنين العرب السياسي التعيس أفضل من غيره؛ فعلاوة على التنافر البنيوي القائم بين عقيدة الحزب السياسية وطموحاته في الواقع الاسرائيلي، أدّى ضعف مؤسساته القيادية وتعلقها لسنوات طويلة بمؤسس الحزب، حتى بعد استقراره في دولة قطر، وتخبطهم في اتخاذ المواقف المفصلية احيانًا، إلى ابتعاد أعداد بارزة من كوادره القيادية، والى خلق بلبلة كبيرة في صفوف واسعة من مؤيديه العلمانيين، وإلى تشظيهم بين مجموعات راديكالية ضاجة، ومجموعات تحترف الصمت احباطًا ويأسًا. وللتدليل على حجم دور حزب التجمع في تصنيع واشاعة حالة الالتباس التي ذكرتها، سوف استعين بمثالين وقد وفرتهما مؤسساته مؤخرًا.
فقرار مؤتمره، قبل جولة الانتخابات الأخيرة، باستبدال رئيس الحزب، بعد مدة قصيرة جدًا من انتخاب الرئيس، كان دليلًا على التخبط وعلى افتقار قيادته لصفة الحسم، تمامًا كما ظهر في حالة امتناعهم عن تجريد مازن غنايم، الذي كان يعدّ أحد قياديي حزب التجمع البارزين، من عضويّته في الحزب حتى بعد اعلانه الانضمام الى الحركة الاسلامية وانتخابه نائبًا عنها في الكنيست، هذا ناهيك عن كون انتقاله هو خطوة انتهازية بامتياز.
قد يكون دور الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواه في تدهور الحالة السياسية بين المواطنين العرب في اسرائيل، هو الأكبر؛ وذلك ببساطة لأن دورها التاريخي في بناء ذلك الواقع كان أيضًا هو الأكبر. وحين أقول ذلك أعرف أن الكثيرين سوف لا يوافقون على هذا التقييم، أو انهم فرحون لأن منجزات الحزب الشيوعي ومن ثم منجزات الجبهة الديمقراطية قد تآكلت أو انها قد دمرت وأمست من دوارس الماضي.
انها مسألة كبيرة لا يمكن تغطيتها في هذا المقال لكنني سأكتفي بالاشارة الى عدد من العناوين الرئيسية التي كانت تميّز مواقف الجبهة وممارساتها في عصر قيادتها الذهبي، آملًا العودة إلى معالجتها كما يجب .
لقد اهتم أباء الحزب الشيوعي، وبعدهم قادة الجبهة الديمقراطية، الى بناء معادلة متوازنة بين حقيقتي كوننا جزءًا لا يتحزأ من الشعب الفلسطيني وفي نفس الوقت مواطنين في دولة اسرائيل؛ وقد ناضلوا، من مواقعنا، منذ البدايات، الى جانب أبناء شعبهم وخطّوا، في أكثر من حالة تاريخية، شعارات المرحلة الوطنية، واجترحوا، في الوقت ذاته، وسائل الصمود والكفاح الحكيمة والناجعة.
لم يغرهم بريق شعارات القوميين من جهة، ولم تردعهم، من جهة ثانية، هرولة بعض "مخاتير" العرب إلى أحضان اسرائيل ولا زعرنات أذنابها في ذلك الوقت؛ لكنهم أكدوا دومًا على ضرورتين أساسيتين للصمود وهما: تعزيز الوحدة الكفاحية مع القوى المحلية الوطنية، والعمل مع القوى التقدمية اليهودية.
لم يكتفوا بردود الفعل على سياسات اسرائيل العنصرية، فبادروا، كما يليق بقيادات مجتمع يكافح من أجل البقاء في الوطن، والعيش بكرامة وبمساواة قومية ومدنية، بوضع سياسات تستشرف المستقبل، وببناء المؤسسات الكفيلة للوصول الى ذلك المستقبل. لقد استلهموا، في سبيل ذلك، تجارب الشعوب ونضالاتها ضد الفاشية تحديدًا، فعرفوا متى وكيف تبنى الجبهات ومعها وحولها عدد من المؤسسات القيادية: النقابية والمدنية والنسائية والطلابية والشبابية والبلدية.
لم تحافظ الجبهة على صدارتها ومواقعها، وذلك لأنها لم تستحدث بناها التنظيمية، ولأنها قبلت بترئيس قيادات حزبية ضعيفة وغير قادرة ولا معنية على مواكبة معظم التغييرات التي حصلت داخل المجتمعين، اليهودي والعربي؛ فتحولت معظم هيئاتها الى مجرد هياكل باهتة تتحدث، على الأغلب، بأكثر من لغة وبعكس ما يتوقع منها.
لن أجد صعوبة بتقديم عشرات الأمثلة على تلكؤ مؤسسات الجبهة وغيابها عن تأدية دورها الريادي، أو عن قصورها المتكرر في مواجهة وازالة حالة الالتباس المستشرية بين الناس، وفشلها في بناء جبهة عريضة لمواجهة اليمين والفاشية.
سيكفيني، في هذه الجزئية، أن استحضر كيف هاجم ويهاجم بعض القيادييين الشيوعيين والجبهويين جميع الأحزاب والمؤسسات والشخصيات الصهيونية دون التمييز بينهم وبين مواقفهم ازاء مسألتي الاحتلال ومطالبنا بالمساواة، والزام رفاقهم بهذه المواقف، رغم عدم وجود اجماع حولها؛ كما رأينا في مواقف بعض قيادييهم وآخرهم ما بادرت اليه النائب عايدة توما.
لا أعرف اذا ستهاجم النائب عايدة توما من قبل بعض رفاقها، وذلك بسبب مبادرتها التي دعت فيها، بالشراكة مع زميلها النائب عن حزب "ميريتس" ، موسي راز، المعدود في قاموس السياسة الاسرائيلية من أحزاب اليسار الصهيوني، الى عقد مؤتمر تحت عنوان ؛ "بين الاحتلال والابرتهايد". لقد عقد المؤتمر داخل الكنيست، رغم انف عدد من النواب الفاشيين اليمينيين، و شاركت فيه، قبل يومين، مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني، العربية واليهودية. لقد أوضحت النائب توما، على صفحتها على انه "في السنوات الأخيرة غيّبت الحكومات الاسرائيلية موضوع الاحتلال من خطاب غالبية الخارطة السياسية، ولكنها لم تغيّب من جدول أعمالها هي تعميق الاحتلال وتوسيع المنظومة الكولونيالية للاستيطان ونشاطات ترسيخ نظام الابرتهايد"؛ وهذا ما دعاها الى المضي في مبادرتها بالشراكة التامة مع النائب عن حزب "ميريتس" الصهيوني، الذي أعلن ويعلن أسوة بصهاينة كثيرين معارضته للاحتلال ووقوفه في وجه الفاشية والفاشيين وتأييده لجميع مطالبنا بالمساواة التامة.
ما زلت أراهن على أن حياة هذه الحكومة ستكون قصيرة؛ وهي في الواقع ليست أكثر من بديل يميني بجوهره، فُرض على جميع الشركاء ، وذلك لأداء مهمة الانتقال من عصر اليمين النتنياهوي، الذي يدفع ثمن جشع وتورط أيقونته وقائده "المفدى"، إلى عصر الظلمات الذي قد يجتاح البلاد قريبًا من النهر والى البحر.
فاذا حصل ذلك وسقطت هذه الحكومة، علينا ، كما قلت مرارًا، أن نراجع بعض مفاهيمنا السياسية الأساسية، وأن نفتش عن حلفائنا من أمثال موسي راز وغيره، ومعهم نبني جبهتنا ونعزز قوتنا في وجه حكومة الظلام الآتية.
[email protected]