لم يشفق علينا تموز، ولم يتركنا واقفين على الريح نعصر قلقنا ونشقى في عتمةٍ أرخاها على أرواحنا مخلوق ميكروسكوبي لعين، فشل جهابذة البشرية بمواجهته ونجحوا فقط بايجاد اسم له؛ فراح "كوفيدهم التاسع عشر" يسخر من جهلنا ويضرب بموجه الغاضب شواطئنا ويحصد ضحاياه.
لم تتأثر القرى والمدن العربية المحلية بهذا الفايروس مثلما تأثرت به تجمعات سكانية أخرى مع بدايات انتشاره في العالم وفي اسرائيل، وحافظت معظمها على نسب اصابات هامشية دفعت ببعض المتفائلين منا أو المدّعين الى الاعتداد بجاهزية مجتمعاتنا الوقائية اللافتة، أو حتى الى الزعم بأننا نتمتع ببنى جينية فريدة وحصينة؛ في حين بعث الكثيرون نظرية المؤامرة من جديد فكذبوا وجود الفايروس وتأثيره القاتل؛ بينما أختلف غيرهم فيما اذا كانت امريكا هي أم جائحة الكورونا أو كانت هي الصين.
سقطت كل تلك الرهانات في اقل من شهرين؛ فمع بداية الموجة الثانية، تكشفت عوراتنا الانسانية أمام هذا الفايروس وصرنا مثل باقي البشر هدفًا من أهدافه، حتى سبقت، أحيانًا، بعض قرانا ومدننا سائر المواقع واحتلت بعدد اصاباتها رأس الهرم الأحمر داخل اسرائيل.
واليوم، وبعد أن ثبت بالدليل القاطع ان الخطر الذي نواجهه أكبر من المقامرة على حقيقة وجوده، يُنتظر منا ان نتصرف بمسؤولية كبرى تجاه انفسنا وتجاه المجتمع باسره.
فكل الدلائل تشير الى اننا على اعتاب حقبة تاريخية عالمية جديدة لا نعرف كثيرًا عن معالمها الجديدة؛ لكننا، رغم ذلك، بدأنا نشعر كيف يحاول رموز وأركان النظام الجديد في اسرائيل توظيف تداعيات هذه الجائحة لصالح مشروعهم السياسي الذي يتطلب نسف أواصر الدولة الحالية وهدم مؤسساتها ومن ثم التفرد في حكم سيقف على رأسه ديكتاتور مستبد محاطًا بأعوان لا يمارسون الا العنصرية والقمع والفساد ويطيعون سيّدهم، الحاكم القوي الجبار، بشكل مطلق.
نحن مجتمع هش وضعيف ومجزّأ. مصيرنا كمواطنين كان، قبل حلول الجائحة، على كف "كوفيد" وفي مهب الريح، وبحضورها صارت أوضاعنا أخطر وأوعر؛ ورغم ذلك تسير قوافلنا نحو الهاوية وجمالنا محملة بالعجز وبالجهل وبالانتهازية.
لن يختلف أثنان على توصيف فداحة واقعنا، فالشعب أعزل الا من تمائمه وأمله الأعمى، وقادته إما يحرضون على بعضهم وإما يتأتئون في ساعات المحن أو يراوحون في بقع الغبار أو يغفون على زند أمل أجرب وفي عين دعاء نحاسي.
كثيرون منهم يمالقون عند اشتعال الحروب الصغيرة التي لا تزرع بيننا الا البغضاء والفتن، مثل تلك التي دارت رحاها، قبل أيام، على أرض شركة لم تتوقع صاحبتها ماذا سيحصل حين تبرعت من مالها الخاص لجمعية تدعم المثليين فقامت الدنيا ولم تهدأ؛ أو تلك الحرب التي أيقظها فرمان عثماني قضى بتحويل كنيسة "أيا صوفيا" الى جامع، فعدّ هذا الفرمان رمزًا لهزيمة البعض أو انتصار خليفة هذا الزمن على قيصر، عند آخرين.
حرب الطحينة الخضراء
لا أعرف أصحاب "شركة الأرز" النصراوية ولا محطات مسيرتهم المهنية ولا قصة نجاحهم التجارية؛ لكنني انكشفت، مثل الكثيرين، على بعض تفاصيل سيرتهم، بعد أن ثارت الزوبعة حولهم في اعقاب نشر صحيفة عبرية لخبر أفاد ناقله على أن أصحاب شركة طحينة الارز قرروا التبرع لاحدى الجمعيات التي تدافع عن حقوق المثليين في اسرائيل، وهو عمل يجعلها أول شركة عربية تجاهر بدعم يخصص لتمويل خط هاتفي ستستخدمه الجمعية من أجل تلقي شكاوى أفراد هذه الشريحة من المواطنين العرب واليهود.
تحولت هذه الواقعة الى واحدة من أكثر القضايا التي أشعلت بيننا، في زمن الكورونا الحالي، معظم المواقع الاخبارية والترفيهية و"صفحات التراشق" الاجتماعي وأحاديث المقاهي والمقاثي؛ حتى تشكل أمامنا مشهد عبثي أوحى باندلاع حرب أهلية تجندت فيها كل فيالق "الفسابكة" وكتائب "التواترة" ولعلعت بيارق الاحرار والليبراليين وتليت الفتاوى والعظات ودكت حصون الخليعات والفاسقين، فسالت انهار من "الطحينة الخضراء" وامطرت الغيوم قيحًا وجرادًا، ورقصت أمامنا الخيية وغنت على شرفاتنا القروح.
لن اسكب أية قطرة حبر اضافية على جسد هذه المأساة؛ فطريقة تناول الحادثة كانت مفجعة، والمطالبة بمقاطعة "طحينة الأرز" هي شهادة على واقعنا المهزوم والمتشظي، وعلى حقيقة هويتنا الجمعية المشروخة والملتبسة، وانتمائنا المبعثر بين هياكل الجماعات التي اعلنت موقفها حيال ما قامت به الشركة، ومنه حيال قضية المثليين والحريات بشكل عام.
لقد تعرفنا في الماضي الى معظم المواقف المعلنة في مسألة المثليين، وجميع أصحاب تلك المواقف كرروها هذه المرة ايضًا ولن يغيّروها في المستقبل لا من أجل شركة طحينة، يراها البعض مفخرة لمجتمعه وانجازًا لاصحابها، ولا من اجل وحدة اقلية مضطهدة، ولا كرمى لشرع يؤمن به غيرهم ؛ فمن يؤمن بحرية الأفراد وبممارسة حقوقهم بسلام سيبقى في موقعه ولن يتزحزح؛ ومن يؤمن، بالمقابل، بأن شرع الرب حرّم المثلية وحدّ من ممارسة الحقوق الفردية، لن يقنع ولن يبحث فيما اذا كانت هذه حالة جسدية مخلوقة في صاحبها مع نطفته الأولى.
فالقضية، اذن، ليست على صحة هذه المواقف المتباينة، والتي ستبقى كما هي؛ بل على الحق والواجب باتخاذها من قبل كل فرد أو جماعة أو عدمه، كما لاحظنا هذه المرة ايضًا عندما غابت عن المشهد مواقف بعض المؤسسات المدنية وقادة الاحزاب والحركات السياسية، الذين آثروا بلع ألسنتهم وصمتوا تملقًا وجبنًا وانتهازيةً، اتمنى أن يحاسبوا عليها في محطاتهم العامة المقبلة.
في المقابل عبر ايمن عوده رئيس القائمة المشتركة على صفحته، بدماثة سياسية، عن موقفه من نداءات مقاطعة "طحينة الارز" التي اطلقتها عشرات المواقع والصفحات وشرعنتها شخصيات اعتبارية كثيرة، فقال، ولم يتطرق الى حقوق المثليين: "كم من النفاق بمقاطعة طحينة الارز مقابل ابقاء كل الشركات الاسرائيلية من المعتزين بدعم الاستيطان والجيش ..؟! وكم من العبث اختلاق صراعات ونحن على شفا وصول شرائح واسعة الى المرض او حتى الموت جراء جائحة الكورونا ...أمامنا قضايا مرعبة يجب ان نكون موحدين وقادرين بمواجهتها".
كم كان كلامه دقيقًا وصحيحًا.. ولكن ..
لم يشفع لايمن كلامه المتزن والمتبصر بل وجد نفسه مهاجمًا بدون رحمة ولا هوادة؛ ومطالبًا، بعد تخطئته، من قبل زميله في القائمة الدكتور منصور عباس يالاعتذار، لأن موقف الحركة الاسلامية واضح من مثليي الجنس وهو مستمد من الشريعة الاسلامية التي ترفضه.
لقد اعلن الدكتور عباس في معرض تعقيبه، ان " القائمة المشتركة هي مشروع وحدوي وطني هدفه زيادة قوتنا وحضورنا السياسي وهو اجتماع على القواسم المشتركة بين الاحزاب والتي تحافظ على خصوصيتها الفكرية داخل المشتركة ولذلك ففي المواضيع الخلافية كموضوع المثليين يكون القرار لكل حزب وما يختاره من مبادئه وثوابته وتوجهاته السياسية والاجتماعية والثقافية".
كلام لا غبار عليه، الا انني لم أفهم لماذا طالب د. عباس زميله بالاعتذار ما دام يعترف بأن في "المواضيع الخلافية كموضوع المثليين يكون القرار لكل حزب وما يختاره" ؟
ربما بسبب غياب أصوات رفاق النائب ايمن عودة، في الجبهة والحزب، وبسبب انتهازية القيادات اليسارية والعلمانية المنفتحة، التي تؤثر، رغم ايمانها بصحة موقفه السياسي، أن تكبر ارصدتها في بنوك الانتهازية والتملق؛ وربما بسبب إعراض زملاء النائب ايمن في القائمة المشتركة وتمنعهم عن ابداء رأيهم، لا في قضية المثلية الجنسية، رغم اهميتها، فحسب، ولكن في قضية مكانة الحريات الفردية بشكل عام وحرية المراة وفي مسألة احترام الرأي الأخر والمحافظة على سلامة الحيزات العامة.
يسكت جميع هؤلاء فيضعف صوت ايمن وامثاله؛ وبالمقابل لا يصمت في كثل هذه الحالات من يدين المثلية شرعًا ولن يهادن من يحرّمها، فأولئك لن يعتبروا الرأي المختلف عنهم، في هذه المسألة وفي غيرها، حقًا للأخرين بل هو ببساطة اعتداء منهم على الدين وحرب على الاسلام؛ تمامًا مثلما عبر الشيخ كمال الخطيب، الذي يرأس لجنة الحريات المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا التي يرأسها محمد بركة، عن هذه الحقيقة، حين شرح على صفحته قصة المثل الشعبي "مش على رمانة ولكن على قلوب مليانة"، الذي ينطبق برأيه على هذه الواقعة؛ وقد انهى ملصقه مؤكدًا ان المثل يقال" في كل من يفجُر في الخصومة ويستغل كل فرصة لنفث سمومه وتصويب سهام حقده" ؛وأضاف: "مش على طحينه ولا طحين ولكن على الاسلام والدين". هكذا بكل حزم ووضوح.
فما دامت القضية ليست على طحينة وعلى طحين، فمن سيكون بحاجة، والحرب هي على الاسلام، لصوت أيمن عودة وامثاله حتى اذا كان يحذر من "عبث اختلاق صراعات ونحن على شفا وصول شرائح واسعة الى المرض او حتى الموت أو الجوع جراء جائحة الكورونا .." ؟ واذا كانت الحرب على الدين فمن سيهمّه اذا كانت "أمامنا قضايا مرعبة يجب ان نكون موحدين وقادرين بمواجهتها" ؟
يتبع ..
[email protected]