لا تُبقي أخبار منطقتنا الكبيرة فرصة لعامة الناس كي يتابعوا تفاصيل الأحداث اليومية المتداعية في مواقعهم؛ حتى لو شكّلت تلك الأحداث عمليًا عوارض لأمراض خطيرة تتفشى في أجساد المجتمعات، أو نذائر على اقتراب التسونامي الهدّام من آخر شواطئهم الآمنة.
يعيش الإسرائيليون منذ شهور تبعات فشل إقامة الحكومة بعد جولتَي انتخابات مثيرتين؛ ويتأهبون للذهاب، في مطلع آذار المقبل، إلى جولة انتخابية ثالثة قد تفضي نتائجها الى تأسيس مرحلة سياسية جديدة لا نعرف إلى أين ستأخذ الدولة، ومعها سائر منطقة الشرق الأوسط؛ ولا كيف ستؤثر علينا، نحن المواطنين العرب في الداخل، أو على مستقبل الفلسطينيين المتواجدين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وعلى مصيرهم في ظل حل الدولتين أو باحتمال وأده، كما تشير بعض الدلائل الحالية.
ورغم أن المناطق الفلسطينية المحتلة ستتأثر، بدون شك، بنتائج الانتخابات الاسرائيلية وبهوية الحكومة القادمة، إلا ان الحياة في هذه المناطق مستمرة باشكالها المعقدة والمتناقضة والمحيّرة في أغلب الاحيان.
يتحدثون، في الأراضي المحتلة، عن احتمال اجراء انتخابات فلسطينية عامة، ويراها البعض قريبة، بينما أراها أنا شبه مستحيلة؛ فمن يتابع ما تفعله حركة حماس في قطاع غزة ويقرأ عن تفاصيل مفاوضات وفدها المتواجد في مصر يشعر بأن "أحاديث السرايا" ليست "كأحاديث القرايا"؛ ومن يعش مثلنا، في رام الله وجاراتها، يعرف أن فكرة اجراء الانتخابات ما زالت غير ناضجة داخل صفوف حركة فتح، ويعرف، كذلك، ان الحالة السياسية الفلسطينية غير مختمرة.
لا يوجد في الواقع جماعات ضغط وازنة معنية بتغيير الواقع أو مؤهلة لإحداث التأثير الحقيقي والتسبب بإجراء الانتخابات على ما قد تؤدي اليه من عواقب أو تحققه من مكاسب، وذلك حسب من سيكون الرابح ومن المهزوم.
لجأتُ إلى هذه المقدمة كي أعالج نبأً فلسطينيًا محليًا نشر، رغم اهميته، بشكل هامشي. ومع أن الخبر لم يشغل إلا مساحة "انشين" في المواقع الإخبارية الفلسطينية، إلا أنه هزّني وأغضبني وأعادني إلى تاريخ ناصع عاشته فلسطين قبل بضعة عقود.
في الماضي، عندما كان للاحتلال الاسرائيلي "رونق" وكان وجوده يشكل تناقضًا أساسيًا وصداميًا مع الوجود الفلسطيني، كان نشر خبر عن إغلاق حرم جامعة بير زيت يسبّب أزمة دولية، ويحرك جوًا من التضامن داخل بعض الجيوب العاقلة الاسرائيلية الصغيرة، ويؤدي، بالاساس، إلى ردود فعل شعبية وفصائلية فلسطينية كانت تتطور، كما حصل مرارًا، الى صدامات مع قوات الاحتلال.
لكننا نعيش
اليوم في زمن "الخوف العادي" والوهم ؛ فننام، في رام الله، على أحاديث الهدنة الحماسية؛ وفي غزة يفيقون على قصص التنسيق الأمني الضفوية، حتى صار عالم الفلسطيني مقلوبًا ؛ فيحاول الناس الاقلاع عن احلامهم، ويمشي الناجون من لعنتَي الانتماء والانحراف ورؤوسهم الى الوراء، فلا يعرفون اسم بير زيت إلا لأنه يشبه اسم ذلك الابريق، بطل الحكاية الشعبية الشهيرة، الذي كانت أمهاتنا تملأنه لنا، قبل المنام، زيتًا وعبثًا فلا يشبع ولا يطفح إلا عندما كنا نصاب بالنعاس وننام.
كنت في عملي في رام الله عندما اتصل بي صديق عتيق، وسألني مستهجنا إذا كان ما قرأه في أحد المواقع الفلسطينية صحيحًا.
لم أسمع بالخبر الذي افاد، كما قرأ صديقي، بأن" إدارة جامعة بير زيت تقرر اخلاء الجامعة على وجه السرعة وإغلاقها أمام طلابها".
اتصلت مباشرة مع احد طلاب الجامعة فأكد لي ان الخبر صحيح وان اغلاق الجامعة جاء في اعقاب قرار اتخذه مجلس إدارتها في اجتماع طارئ عقد في نفس يوم نشر النبأ ، يوم الأربعاء الماضي، وذلك بحجة "قيام مجموعة من الطلبة بتحطيم وتكسير مدخل الجامعة الغربي" كما جاء في الخبر "ولممارستهم عملا يخالف أنظمة وقوانين الجامعة وقرارات إدارتها، ولما لهذا العمل من تداعيات على سلامة الطلبة والعاملين ومجتمع الجامعة".
شعرت بغربة تصفعني؛ رغم انني عشت، في المدينة، كالدوري، مقيمًا على أهدابها المتعبة. فهمت ان إدارة الجامعة ترفض مظاهر العسكرة، مثل مسيرات الملثمين المدججين بما يشبه الأسلحة داخل الحرم، بينما تصر بعض الكتل الطلابية على ممارستها رغم انهم يعرفون ان الاحتلال قد يستغلها لضرب الجامعة وإغلاقها.
أحسست بأنني فقدت لغتي وأن المفردات التي عشت على موسيقاها قد انقرضت.
لم تعد رام الله اليوم شبيهة بتلك، صاحبة الأشجار والبيوت الانيقة؛ التي كنا ندخل قلبها الدفيء لنصل إلى قرية بير زيت الجميلة والواثقة، ولكي نودع، في حضنها، بعضًا من أحلامنا الفتية.
لم تكن جامعة بير زيت، بالنسبة لأبناء جيلي مجرد مؤسسة تعليمية فلسطينية يأتيها الذين لم يحالفهم الحظ بالحصول على فيزا أجنبية ومنحة للدراسة خارج الوطن؛ أو ملجأ لأولئك الذين منع الاحتلال سفرهم فدخلوها من باب الرحمة أو على سبيل "أضعف الإيمان".
كنا، في سبعينيات القرن الماضي، طلبة في جامعات إسرائيل، وكانت هي أكثر من معهد عالٍ للتدريس وأكبر من صرح نقف على "صاريته" لنقارع بها عنجهية الاحتلال ولنعرّي تبجح دولته التي تدّعي أنها مهد للحريات الأكاديمية.
أتيناها حجاجًا لنتزود بأطعمة الفراديس،ولنهتدي بنورها وهو ينثال من سمائها الزرقاء، حاملًا على أمواجه عطرها الساحر، فكانت عروقنا تتجرعه وجبات من كرامة ووطنية صافية.
كم كنت أرغب أن أُحدثكم عن "بير زيتي" التي تعرفت فيها على أجمل الرفاق، ومعا، في أفيائها، خبرنا كيف يمكن أن تصير الأماني أوتادًا والقصائد رماحًا والقبضات سهامًا من ماس.
قرأت، وأنا أعدّ مقالتي، أن إدارة جامعة بير زيت أعلنت عن استئناف التدريس كالمعتاد في الجامعة، وذلك "من أجل منح الفرصة للحوار بين إدارة الجامعة والطلبة".
لم أفرح لهذا النبأ، لأنني أشعر وأعرف، مثل كثيرين يتعاطون مرارة الواقع الفلسطيني، بأن المعركة التي وقعت بين إدارة الجامعة وقسم من طلابها كانت بمثابة الطعنة التي سددها بعض "الاخوة الاعداء" في خاصرة امهم فلسطين.
الموجع أن ما حدث يعتبر مشهداً عاديًا سيمر مثلما مرّت مئات المناكفات والمشادات والاحتكاكات والاعتقالات والاعتداءات الفلسطينية الفلسطينية، وسيندمل مع الجراح التي نكأها عميقًا في قلب الأمل الفلسطيني.
تسير بير زيت في طريق صعب قد تفقد في نهايته امتيازها كصرح مدّ ويمدّ طلابه بالعلم وبالمناعة الوطنية؛ فالجامعة تواجه الأنواء من كل الجهات ومن داخلها ايضًا، وقد تصبح ضحية الواقع الفلسطيني المأزوم ومزايدات اليساريين وسبات "الثوريين" وأوهام الاسلاميين؛ فمعظم الناس والتنظيمات والفصائل والحركات والمؤسسات يمارسون الرياضة الوطنية في فلسطين المحتلة وهم يلتقطون الأنفاس بين اللقمة والنقمة.
كانت بير زيت عقل فلسطين الراجح، وهويتها المشتهاة، وسيفها المشهر ابدًا في وجه الاحتلال وعساكره؛ لكنها هي ابنة فلسطين الجريحة التي لا تستطيع أن تصمد وحيدة في عالم"القواقع" المتفطرش، والمنفلشة رموزه ببركة الاحتلال ووفقًا لهندسته.
لقد قرأت معظم البيانات الصادرة عن جميع فرقاء الازمة وادركت بأن قضية فلسطين تعيش كوابيسها وتعاني جامعتها الاشهر قصة ذلك الابريق ولعنة العبث العدمي واختلاط المفاهيم؛ فحتى اللغة التي بات الاطراف يستعملونها في مخاطبة بعضهم صارت هجينة وغريبة عن ماضيها وعني.
وهنت فلسطين حين أعدمت نخبها "العقل" وحين خاطت لجثمانه كفنًا من ريح ومن سراب؛ وستسقط بير زيت لأن فيها من يعبث بالقدر ومن لا يستطيع أن يحدد من هو العدو ومن الصديق والحليف.
ينشغل الاسرائيليون بقضاياهم الكبيرة ويتركونا، نحن المواطنين العرب، نغرق في دمائنا وفي اقتتالنا على امتلاك السماء؛ وينشغل الفلسطينيون برحيل غزة وبلهاث رام الله، فتمضي البلاد ومعها الجامعة نحو ذلك المجهول .
ساستمر في حبي لرام الله محاولًا ألا يدميني شوكها، وألا تهزمني حواجزها؛ وسأدخل قلبها المتعب كي أعود، كما كنا نفعل،إلى تلك القرية الوادعة وأنبش فيها مقابر الذكريات، فعساني، مثل من يشتاقون معي الى طلوع فجر بنفسجي، أجد بقايا مستقبل منسي وعطر عشيقة كان اسمها حرية وأثرًا للفراشات.
[email protected]