انتخب أعضاء مجلس ادارة "بنك لئومي" الاسرائيلي، بأكثرية حاسمة، ابن مدينة الطيبة د. سامر حاج يحيى رئيسًا عليهم، خلفًا لدافيد بروديت ، احد ألمع الأسماء المعروفة في عالم المصارف الاسرائيلية ورجالات المال وأسواقه.
لديّ شعور بأن أغلبية المواطنين العرب في إسرائيل قد تقبّلت الخبر بروح ايجابية وناضجة وبحيادية عامة؛ رغم الغرابة التي رافقت اختيار "حاج" لهذا المنصب؛ وكانت ، في الواقع، محرّكًا لبعض الاثارة الشعبوية العربية وللنقاشات المألوفة في تلك "العوالم الافتراضية" التي يتساوى فيها العالِم والجهول.
في هذه القضية فرادة معينة تميّزها عمّا صار أقرب إلى كونه مشهدًا عريضًا تمتد ملامحه بوضوح أمامنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، وتُشكل عُقَدُه مفاصل حياتنا العامة وتتركنا في حالة ارباك بين حالتين سياسيتين رسميتين متناقضتين. فمن الوريد إلى السكين ؛ تعمل الدولة، من خلال مؤسساتها الحاكمة وسياسات حكوماتها المتعاقبة، بشكل ممنهج وعلني، على اقصائنا عن "أحضانها" وعلى سحق شرعية نضالاتنا من أجل حصولنا على حقوقنا الكاملة ؛ وتحاول، من جهة أخرى، "هضم" قطاعات واسعة من بيننا والزجّ بها في "أحشائها"، ودمجها في مرافقها، واستيعاب فئات أخرى في مواقع كانت محظورة علينا، كعرب، لأسباب عنصرية وقمعية.
لم تعُد هذه المسألة محصورة في استمالة أفراد "وحرقهم" على بيادر القرى والمدن العربية، ولا على من وَجدوا في مختلف الأجهزة الأمنية ملجأ شخصيًّا ومصدر رزق، لولاه لبقوا على أرصفة العوز أو لهلكوا على حافة "أميّتهم" ؛ فمنذ سنوات ونحن نعيش سيرورات جديدة ستفضي حتمًا إلى واقع آخر، يمرّ في هذه الأيام بمرحلة انتقالية حبلى بكل الصخور والشواطىء.
لن يتطرق هذا المقال، بطبيعة الحال، إلى تلك العملية المتداعية، ولن يحلل أسباب تشكّلها، ولا إلى دوافع الدولة من تبنّيها أو إلى ماهية المتغيّرات التي حصلت، خلال سبعين عامًا، وتحصل داخل بنى مجتمعيّ الدولة. اليهودي وشعوره ، ربما ، بنضوج "دولاتي" وبقوة تسمح له "بالتضحية"، التي قد تكون مغرضة، في هوامش كانت موصدة أمام المواطنين العرب؛ والعربي، في المقابل، وما أصابه من تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية أثّرت لا في سلوك أفراده فحسب، بل ساعدت على تنمية شرائح ونخب جديدة بدأت تهتدي بمنظومات مفاهيم ومصالح متوالدة ومحدٍّدة، بشكل تلقائي وطبيعي، لعلاقتها بالدولة ومصيرها فيها.
لا يشبه اختيار ابن المثلث رئيسًا على مجلس ادارة "بنك لئومي الاسرائيلي" ما سبقه من تعيينات حظيت بها، عن جدارة تامة، أعداد كبيرة من الأكاديميين/ات والمهنيين/ات العرب الذين استوعبتهم مئات المواقع والوزارات والشركات الحكومية والعامة والجامعات والكليات والمستشفيات والمصانع وغيرها من المؤسسات الرائدة والهامة؛ فبنك لئومي يحظى بمكانة وبرمزية لافتتين لا بسبب كونه واحدًا من أكبر المصارف والمحركات الاقتصادية المؤثرة والوازنة في الدولة وخارجها فحسب، بل لأنه يعد وريثًا لأحد افرازات "الهستدروت الصهيونية" التي أنشأت في العام 1902 البنك "الأنجلو- فلسطيني" والذي أصبح، بعد عام 1948 "بنك لئومي ليسرائيل" الحالي، ومعناه الحرفي "البنك القومي الإسرائيلي".
استفز انتخابُ هذا العربي الطيباوي لرئاسة البنك اليهودي "جيش الانقاذ" الجديد فانقضّت بعض فرقه المتمترسة على هضاب الفيسبوك، عليه وعلى جميع من تجرأ على تهنئته أو عبّر عن رأيه بأن انتخابه يعدّ خطوة ايجابية جديرة بالتحليل وبالتقييم خاصة على ضوء جميع المستجدات الحاصلة في مواقعنا، كما أسلفت.
لقد تعودنا في السنوات الأخيرة على صمت القيادات ومعظم النخب العربية وهي تقبع في قواقعها حيث تعوّدت فيها على السكينة والأمان ولم يعد يعنيها ما يجري في ساحاتنا العامة أو على أرصفة شوارعنا أو أمامنا على مسارح البلد؛ فبعد انتخاب د. سامر حاج يحيى لمنصبه، حافظت تلك القيادات والنخب على رصيدها من العجز وغابت عن المشهد، بينما عجّت الصحافة العبرية ونقلت بالتفصيل ما يتوجب على مجتمعهم معرفته تقديرًا منهم لأهمية الحدث ولرفعة المنصب ولتميّز الشخص الذي خاض مواجهة وتحدى ثلاثة مرشحين آخرين نافسوه على المنصب لكنه تغلب عليهم بجدارة وبدون "تنزيلات" حملات نهاية الموسم .
يبلغ عدد أعضاء مجلس ادارة البنك أثني عشر مديراً؛ قرر ثلاثة منهم منافسة حاج يحيى ؛ فحاز هو، بعد عملية تصويت سرية، على خمسة أصوات، بينما حاز "أوهد موراني" على صوت واحد، رغم إشغاله في الماضي لمنصب مدير عام وزارة المالية؛ ومثله حاز "يتسحاك شرير" على صوت واحد، وكذلك حاز "مولي بن تسفي" على صوت واحد، رغم انه شغل منصب رئيس قسم الميزانيات في وزارة الدفاع ومستشارًا ماليًا خاصا لرئيس أركان الجيش الاسرائيلي .
تم اختيار د. سامر الحاج يحيى على الرغم من كونه عربيًا، لا كما يحلو لبعض العرب أن يدّعوا، بسبب كونه عربيًا وبهدف تجميل وجه مصرفهم ودولتهم العنصرية ؛ فأقل ما يقال في هذا الادعاء إنه أخرق وغير معقول.
لقد أشادت كل وسائل الاعلام العبرية بمكانة الدكتور سامر العلمية البارزة وبتحصيله الأكاديمي المبهر وبتجربته العملية الدولية والمحلية الواسعة وبمهنيته المثبتة وبتفوقه، بسبب كل ذلك، على جميع منافسيه، رغم امتلاك كل واحد منهم لسيرة ذاتية غنية بحد ذاتها.
لقد استوقفني ما كتبه رئيس"مركز السايبر" في جامعة تل-أبيب ورئيس "وكالة الفضاء الاسرائيلية" برفيسور يتسحاك بن يسرائيل حين قال قبل يومين: "قد يكون ذلك مفهومًا ضمنًا ولكن من المهم أن أؤكد على أن حاج يحيى نافس مرشحين في مجلس إدارة يستطيع كل واحد منهم أن يقود البنك، لكنه لم ينتخب لكونه عربيًا انما لأنه كان الافضل من الجميع. ولقد انجزت إسرائيل هذا الاسبوع فصلًا مهمًا في عملية نضوجها".
هل كان ذلك فعلًا شاهدًا على نضوج إسرائيلي، أم مجرد ضربة خفيفة على جناح قدرنا الملتبس بين نقيضين ؟ ففي زمن تتغير فيه إسرائيل للأسوأ وتهرول يمنةً نحو الهاوية؛ تفتح لنا "قبضاتها" أرصفة لنقف على حوافيها ولنتأمل في نهاياتها.
كم قلنا أن الإصرار على نيل كامل حقوقنا المدنية سيبقى قضية خلافية شائكة، خاصة عند أولئك الذين يترددون في حسم مواقفهم ازاء الدولة وأزاء مؤسساتها، أو لدى غيرهم ممن يرفضون اعادة تقييم مواقفهم بعد رحلة القوافل نحو جبال الضوء البعيدة ؛ فأنا أعرف أن حياتنا، بعد سبعين سمان، أصبحت أكثر تعقيدًا، ونحن لم نعد أولاد تلك "الكتاتيب" نجلس في العراء ونردد الأناشيد وننتظر الفرح يأتينا من الشرق.
يرمينا واقعنا الإسرائيلي في كل يوم بمعضلات هي افرازات طبيعية لحياتنا المركبة،وقد تكون رئاسة مواطن عربي لادارة "البنك القومي الإسرائيلي" ، عند البعض، واحدة من تلك المعضلات.
أنا شخصيًا لا أراها كذلك ولن أتردد بتهنئة الدكتور سامر حاج يحيى على جميع منجزاته وتفوّقه، وآخرها فوزه الحالي بمنصب رئيس ادارة هذا البنك وهو منصب رفيع وحساس ومؤثر ولا يشبه، كما قلنا، ما سبقه من تعيينات.
لقد استسهل البعض حسم مواقفهم بخفة، وتفّهوا الحدث وأكّدوا ، بمزايدة نمطية، على أنها لعبة إسرائيلية وحاولوا، بدون أي اعتبار للحقائق، المسّ بالشخص وعايروه بفوزه وأغفلوا حتى ما رواه قبل دخوله للمنافسه؛ فلقد كان يستطيع البقاء في أمريكا حيث كان يعمل بأعلى المراتب والرواتب، لكنه آثر العودة الى وطنه لأن أبناءه كما صرّح "قد وصلوا إلى مرحلة من عمرهم أجبرتني أن اقرر هل سيصبحون أمريكيين أم نعود لنعيش مع أبناء عائلتنا في الطيبة ..".
قرر سامر العودة إلى طيبة المثلث وألا يبقى غريبًا في المنفى ويمضي عمره كآلاف العرب الناجحين أو ربما كنجم ساطع على قمة أمريكية، يعود إلى بلده زائرًا ومغتربًا فيلحن بضاده ويقرص حروف "سام" ويلوكها؛ كانت عودته مباركة ومنافسته انجاز ينضم إلى انجازات جميع من بقوا على أرضهم وصارعوا "التنين" وانتصروا على نيرانه وهم قابضين على الجمر وعلى ناصيات النجاح وبعضهم صار رايات مرفوعة على سطوح المؤسسات الصهيونية رغم أنف القمع والقهر والعنصرية.
لقد تحفظ البعض من اعتبار انتخاب الحج رئيسًا لادارة البنك "كأنجاز تاريخي لمجتمعنا العربي" ويستحق رأيهم وقفة واحترام ففيه "طعم" ووجهة نظر ؛ لكنني ورغم ذلك اعتبر أن ما حصل كان "تاريخا " صنعه فرد مميز يستحق أن نبارك له انجازه الشخصي الكبير .
[email protected]