على الرغم من انشغال العالم باختيار الأمريكيين دونالد ترامب رئيسًا لامبراطوريتهم المتأرجحة وما استدعته هذه النتيجة من دهشة في بعض الأوساط وخوف بين من شكّلوا رقعًا من جلد صوّب ناحيتها ترامب سهام حملته الانتخابية، يبدو المشهد على الساحة الإسرائيلية مغايرًا وبعيدًا عن تلك الهواجس والتخمينات والأماني، وكأني بحكام إسرائيل يعرفون ما لا يعرفه ذلك العالم المندهش والخائف وتراهم يرددون في فرحَين، صامت ومعلن، ما كان يردده ذلك الخليفة العباسي يوم كان يقف قويًا على شرفة امبراطوريته المترامية الأطراف ويناجي، مزهوًا، غيم السماء ويدعو له أن يمطر حيثما يشاء فلسوف يأتيه خراجه!
هكذا هي إسرائيل اليوم واثقة من عهد ترامب وحكمه الآتي ومتيقنة من أنها ستبقى كما كانت، أو ربما أكثر، مدللة أمريكا وحليفتها المنصورة.
كثيرون كتبوا مشخصين ما جرى في أمريكا كقفزة نحو اكتمال نظام رأسمالي متوحش مكشوف العورات ولكنها الأيام وحدها ستبقى كاشفة للمهالك والخبايا وللمسالك؛ وعلى جميع الأحوال سيكون الآتي علينا أعظم وقد نعتبر ما يجري في مواقعنا كمقدمات لمطر أسود غزير سيهطل على ساحاتنا.
في الواقع لم أنو الكتابة عن انتخاب ترامب إلا بقدر ما تشكله هذه الواقعة من مؤشر خطير لولادة حقبة تاريخية مستعرة قد تكون نتائجها على شرقنا أوخم وعلى القضية الفلسطينية أقسى وعلينا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، أخطر بما ستسوغه من تساهيل ورفع ما بقي من قيود قليلة عوّقت على حكام إسرائيل ومنعتهم من المضي في مخططاتهم الجهنمية تجاهنا ولكن ليس قبل إتمامهم هدم إسرائيل الناكبة التي عرفها حكام أمريكا حتى عهد ترامب الوليد وإنشاء كيان جديد يكون عبارة عن: مملكة إسرائيل الكبرى بقدسها وهيكلها، بجيشها وقضاتها، بسنهدرينها وشرعها.
من السهل تمييز ما يسعى لكسبه ممثلو اليمين المتطرف في دورة عمل الكنيست الحالية، فبمجرد انتهاء العطلة الصيفية وعودة النواب إلى العمل دفع هذا اليمين بعدد كبير من مقترحات القوانين التي تستهدف إنجاز ما خططوا له منذ سنوات وبدأوا في تنفيذه على صعيدين أساسيين: إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة وحجب الشرعية عنهم كأقلية قومية مواطنة في إسرائيل، وذلك عن طريق تطويقهم بقوانين عنصرية تسلبهم كثيرًا من حرياتهم الأساسية وتدفع بهم في أقفاص حديدية خانقة، ومن جهة ثانية، الإمعان في السيطرة على مقاليد الحكم والتركيز على تقويض سلطة النظام القضائي المستقل نسبيًا وعلى رأسه المحكمة العليا الإسرائيلية التي أصبحت منذ سنوات في قلب العاصفة والهدف الأبرز لهجمات قوى اليمين الذي لا يتردد ممثلوه في الكنيست والحكومة ونشطاؤه البارزون من الانقضاض وترهيب القضاة شخصيًا والتلويح بقضم ما تبقى لهم من صلاحيات وقوة، ومحاصرتهم بتشريعات تنتقص من مكانة المحكمة وتأثيرها الفعلي، هذا علاوة على نجاحهم، بالتوازي، في تعيين يمينيين موالين لهذه التيارات ولسياساتها سواء كانوا مستوطنين أو مجاهرين بمواقفهم من قبل استنخابهم قضاةً.
انهمك اليمين منذ مطلع الشهر الحالي بمحاولة تمرير قانونين عنصريين خطيرين وأصر ممثلوه على عرضهما في الكنسيت والتصويت عليهما رغم محاولة بعض أعضاء الائتلاف الحكومي اظهار تحفظهم الخجول أو السري أو حتى معارضتهم كما صرح في البداية وزير المالية كحلون إزاء تمرير قانون "التسوية" بكونه قانونًا قصد واضعوه المس بمكانة المحكمة العليا وقضاتها، لكن رفاقه في الحزب أيدوا في النهاية القانون.
تم التصويت في القراءة الأولى، ونام المبادرون إليه آملين أن يمر قريبًا في القراءتين الثانية والثالثة. يهدف هذا القانون إلى شرعنة البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة بما في ذلك مستوطنة "عمونة" المقامة على أراضي فلسطينية خاصة والتي قضت المحكمة العليا يوم الاثنين الماضي، بوجوب إزالتها حتى تاريخ ٢٠١٦/١٢/٢٥، رافضة طلب الحكومة الإسرائيلية تأجيل البت فيها ومضيفةً على لسان رئيستها القاضية مريام نائور: "من المحظور عدم تنفيذ قرار الحكم بسبب خشية الدولة من التهديد والعنف". إنه قانون يشرعن النهب والسرقة والسلبطة ويحاول أن يلتف على المحكمة العليا وأن يقوض مكانتها ومكانة قضاتها.
أمّا التصويت على قانون منع الأذان بالقراءة التمهيدية لم ينفذ في الكنيست بسبب اعتراض وزير الصحة الراب يعقوب ليتسمان عليه ولما يحمله هذا القانون من عواقب وتقييدات على الشعائر الدينية اليهودية أيضًا. إنه قانون عنصري سياسي بامتياز يحاول تأجيج حروب الدين في مسعى من واضعيه لخلق نقاط تماس مع مواطني الدولة العرب.
لقد سبق تقديم هذين القانونين إطلاق اليمين لمبادرة تشريعية استهدفت تعديل قانون انتخاب قضاة المحكمة العليا وذلك من خلال تغيير قواعد العمل المتبعة حتى اليوم؛ ففي لجنة تعيين القضاة المكونة من تسعة أعضاء يشارك ثلاثة قضاة من المحكمة العليا وستة ممثلين عن نقابة المحامين والحكومة والكنيست. لن يُنتخب قاض للمحكمة العليا إلا إذا حظي بسبعة أصوات من أصل تسعة، والهدف من وراء هذا الشرط هو إبقاء قوة النقض للثلاثة قضاة في وجه تكتلات سياسية أو "مصلحجية" جائزة. لم يكن الاعلان عن مبادرة التعديل صدفةً فلقد جاء أيامًا قبل التئام هيئة المحكمة في قضية إخلاء مستوطنة "عمونة" ووفقًا للتعديل المقترح كان يكفي حصول القاضي المرشح على أكثرية عادية ليصبح قاضيًا مما يفقد عمليًا قضاة المحكمة العليا قوتهم ومكانتهم المميزة.
لقد استُفزت المحكمة العليا من تلك المحاولة السافرة واعتبرتها إشارة تهديد قبل جلسة "عمونة"، مما حدا برئيستها مريم نائور إلى كتابة رسالة غاضبة وجهتها لوزيرة العدل شكيد وعملت على نشر فحواها في الإعلام. وفيها أعلنت عن توقيف جلسات التنسيق المتبعة مع الوزارة، وعن احتجاجها على محاولات تهديد القضاة وأضافت، بلغة قاسية غير مألوفة، أن صمت وزيرة العدل عن نشر مسودة القانون يفهم كأنه موافقة منها ويعتبر بمثابة وضع المسدس على طاولة القضاة بهدف ترويعهم وإخافتهم.
في الحقيقة شهدنا في هذه الأيام أحد تجليات المعركة التي كانت صامتة بين اليمين وهيئة المحكمة العليا، والتي أصبحت مكشوفةً للعموم وهي، برأيي، آخر الجولات التي ستتلوها ضربات القوى الفاشية الصاعدة القادرة على قصم ظهر هذه المؤسسة وتمكين جحافل اليمين المنفلش، هنا وفي العالم أجمع، من السيطرة على جميع مقاود الحكم والبقية تأتي.
عقب هذه التطورات قرأنا كالعادة بعض بيانات الشجب والاستنكار. كان أبرزها ما نشره جهاز إعلام القائمة المشتركة. رغم عددها فلم نلمس جديدًا في مضامينها التي تجيئنا على الغالب بقوالب تقريرية مكررة، وبلغة تقليدية انتشلت من آبار شبه جافة ومن القواميس الجامعة من المحيط إلى المحيط، وهي تنتهي بالعادة بدعوة نواب المشتركة: "الجماهير العربية وتياراتها السياسية والوطنية وحركاتها الدينية والمجتمعية ومؤسساتها الأهلية إلى مواجهة السياسات والتشريعات العنصرية والفاشية التي تحاول حكومة اليمين المتطرف من خلالها انتهاك حقوق أهل البلاد الأصليين واقتلاع وجودهم "وهذا بعد تأكيدهم أن ذهنية الاستعمار متجذرة في صميم سياسة حكومة اليمين وأن المعركة لشطب القوانين لم تنته.
من اللافت أن نشهد تفاعل قضية "عمونة" على صعيدين إسرائيليين فقط: القضائي من خلال موقف المحكمة العليا الواضح والمثابر في وجه محاولات اليمين والحكومة للالتفاف عليها وتطويقها، والسياسي من خلال نشاطات بعض أوساط اليسار اليهودي الذين يحتجون ضد الاستيطان بشكله العام وضد "عمونة" خصوصًا، وهذا كله يحدث بغياب أي نشاط يذكر من قبل الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال وضحايا الاستيطان المباشرين، علمًا بأن قرار المحكمة العليا كان يمكن أن يشكل لاحتجاجاتهم مظلة ورافعة. غياب نشاطهم غير مبرر ويبعد نشطاء محتملين وجهات مساندة للقضية الفلسطينية ويشجع قوى اليمين وسوائب المستوطين على التمادي في موبقاتهم.
وعلى محور آخر يبقى نداء القادة العرب لجماهيرهم وبالطريقة التي نشر وعمم بها مقلقًا، فكيف الوصول "إلى مواجهة السياسات والتشريعات العنصرية الفاشية" بهكذا خطابية عارية ومن دون أن ترفق بأي برنامج عمل نضالي واقعي تستعذبه هذه الجماهير وتنتخي لنبضاته وأصلًا من غير أي تحضيرات مسبقة من شأنها أن تصهر الجماهير وقاداتها في بوتقة نضالية سليمة ليصيروا معًا سدًا منيعًا في وجه ما نواجهه من سيل غاشم.
قلنا ونكرر واليوم صار النصل ناجزًا وأقرب من رقابنا: إننا نعيش في عصر تسوده "ترامبية" مقبلة مدبرة ولا تستحي، وأمامنا تتقدم قوى فاشية لا تتردد،وكما قرأنا، بوضع "مسدساتها" على طاولات قضاة الدولة.
فهل سنبقى نراوح حيث أَنخنا وأُنخنا وهل سنمضي حفاة في دروب دنيانا الموحلة ولُكناء من غير لغة تصلح لمواجهة هذا العصر القبيح الأزعر! من يرفع الياطر؟
[email protected]