أثارت زيارة السيد محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل ومعه الدكتور منصور عباس نائب رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية إلى قطر موجة من النقاشات التي اتسم بعضها بالحدة الزائدة عن الضرورة والمفيد.
قد يكون عنصر المفاجأة وعدم الإعلان المسبق عن هذه الزيارة من أهم مسببات تلك الزوبعة وما صاحبها من نشر معلومات كذّّب بركة بعضها بعد عودته إلى البلاد.
لن أسترجع مضامين الانتقادات التي وجهت لبركة ومنها تلك التي ركزت على مواقفه السياسية السابقة المعلنة إزاء الفرقاء المتخاصمين وأرض اللقاء، وأخرى تمحورت حول مبررات انخراطه في عملية مصالحة غير مكتملة المعالم وملتبسة الوجهات، ولا يعد التدخل فيها ضرورة تستحوذ على إجماع واضح بين مركبات اللجنة التي يقف على رأسها؛ ولذا اعتبر بعضهم خطوته خلافية خارجة عن "الإجماع التوافقي" وعادلوها بمغامرة سياسية غير محسوبة شرخت أكثر مما ضمّدت، أو كما وصفها آخرون، كانوا أكثر حدة وغضبًا، بكونها مجرد قفزة لسياسي أوقعته " النخوة العربية" في مطب كان الأجدر ألا يقع فيه، لا سيما وبعضهم عرفوا أن بركة وعباس لم يتوجها إلى قطر وحيدين، بل برفقة وعند طلب بعض الأخوة الفلسطينيين المنخرطين في قضايا المصالحة منذ زمن طويل.
بعيدًا عن هذا المشهد فإن الزيارة، بالأسلوب والإخراج اللذين رافقاها، قد كشفت برأيي واحدًا من أخطر المواضيع التي على الجماهير العربية ومؤسساتها القيادية السياسية والمدنية والاجتماعية أن تواجهها بجرأة ومسؤولية ونضوج: فهل حقيقة يضطلع المواطنون العرب في إسرائيل ومؤسساتهم التمثيلية بوزن سياسي حقيقي يخوّلهم ويجيز لهم أن يتصرفوا كرعاة لعمليات سياسية عابرة لولاية وجودهم الجغرافي والسياسي؟ وعلى مستوى آخر نجد أن الزيارة أقحمت تساؤلًا مقلقًا مفاده: هل استجدّت متغيرات جديدة على طبيعة علاقاتنا المحددة والمقبولة والملزمة مع منظمة التحرير الفلسطينية والتي أرست قيادات جماهيرنا التاريخية معالمها وفصّلت حدود ترابطها وتقاطعها وتباعدها وفقًا لمعطيات الزمان والمكان؟ فهذا ما قد توحي به هذه الزيارة ومعززاتها التي سيقت من قبل منفذيها.
هنالك ضرورة حيوية لإعادة النظر في دور الجماهير العربية وموقعها في المجريات العامة للقضية الفلسطينية وتفاعلاتها السياسية والميدانية، وضرورة الإجابة، كذلك،على ماهية مفهوم كوننا جزءًا من الحركة النضالية الوطنية الفلسطينية - بخلاف كوننا الطبيعي جزءًا من الشعب الفلسطيني- وما هي حدود هذه التبعية ومضامين هذا الانصهار وتداعياته على وجودنا كأقلية في دولة يستوحش فيها النظام ضدنا؟ وهل جميع مركبات اللجنة العليا متفقون على إجابة واحدة متشابهة على هذه الأسئلة الهامة؟
لقد انتقدت بعض القيادات السياسية زيارة بركة وعباس لقطر مؤكدين عدم اطلاعهم عليها وتغييبهم عن مجرياتها بالمطلق.
إن هذه الجزئية، برأيي، تلقي الضوء على واحد من الإشكالات الجدية التي تعتري ساحة العمل السياسي والعلاقات بين المؤسسات القيادية السياسية والمدنية والمؤمل منها أن تكون شريكة في صنع القرار ووضع آليات النضال المشترك المنشود في هذه الأوقات العصيبة، فمن غير المقبول أن يتم تجاهل مواقف الأحزاب والحركات الناشطة بيننا إزاء هذه الاحتمالات السياسية والمسائل التي تكشف عنها الزيارة، لا سيما وكلّنا نعرف أن هنالك تباينات عميقة وجوهرية بين مركبات اللجنة العليا حول معظم القضايا العامة وتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، بدءًا من مواقفهم من منظمة التحرير الفلسطينية، ومرورًا بمواقفهم من الفصائل خاصة من تنظيم "فتح" وقياداته وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، و"حماس" وارتباطها العضوي مع حركة الإخوان المسلمين، وانتقالًا إلى مفهوم النضال وموجباته، ثم الدولة الوطنية الفلسطينية المأمولة وحدودها وطبيعة النظام المنتظر أن يقف على سدة الحكم فيها؛ هذا علاوة على ما ظهر من صراعات بين هذه الأحزاب والحركات المركبة للجنة العليا وتشتت ولاءاتها بين مختلف الأنظمة العربية والإسلامية والعالمية، تلك التي تتدخل في رأب الصدع الفلسطيني وأخرى تسعى إلى تعميق الجرح وإبقاء النزيف سيالًا.
لقد دافع محمد بركة عن سفره وما قام به في قطر باسم مصالحة الاخوة وضرورة السعي لإنهاء الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، وهذه برأيه قضية لا يقف في وجهها حائل ولن يؤخره عن متابعتها رأي معارض أو موقف مغاير، فكل المبررات تتساقط أمام محاولة إعادة اللحمة للجسد الفلسطيني الواحد.
لا أحد يستطيع أن يختلف مع بركة على ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني الخطير، لكنني وكثيرين مثلي نعرف أن هذه الزيارة ومثيلاتها لن تحقق تلك الأمنية، ولن تضيف حتى حجرًا صغيرًا على جسر غير موجود فوق الهوة السحيقة التي حفرتها معاول دول غريبة متناهشة على رئتي فلسطين من أجل مصالحها، وبسياساتها الخبيثة تخطط إلى ترسيم شرق أوسط جديد وبعضها يضرب بمطارق العروبة وأخرى بمحاريث الإسلام؛ وما دام الحال هكذا وأسوأ، يحق للمنتقدين أن يسألوا وفد المتابعة:
بأي مؤثرات يستطيع وفد وصل باسم لجنة منقسمة على حالها وتمثل جماهير مشتتة ومتعبة أن يتغلب على هذه الحواجز وينتصر على واقع مأزوم ومهزوم؟ فالقضية هي أكبر من "طوشة" أولاد بدأت خصامًا على "طابة" في الحارة وكبرت، وأعقد من خلاف أخوة أشعلته غيرة نسوة فاحتدم. إنها المعركة على فلسطين، على تلك الخانة على رقعة الشرق المبدد في حين يفترض فيه المحللون أنه على فلسطين انتظار دورها فقط بعد أن تضع حروب الأشقاء أوزارها وقد يكون ما جرى في لبنان مؤخرًا بداية الفرج، وربما ستكون سوريا اللاحقة، وهكذا إلى أن ينزاح عنا الغبار وينبلج الصباح .
بالخلاصة، إنها لعبة ليس من صالحنا أن ندخل في متاهاتها.
ما كنا نتطرق للزيارة لو لم يصاحبها "أعراض جانبية" من شأنها أن تضر بوحدة المواطنين العرب في إسرائيل وبمصالحهم الأساسية.
فقد يكون باسم اللجنة الجواب الشافي لعدم ضرورة هذه الزيارة، لأنها "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل"، وقد قلنا في الماضي إنها بحاجة إلى ترميم شامل وإعادة بناء تنظيمي ومضاميني، فهي بمعان كثيرة قائمة كإرث مؤسساتي متصدع، وقد عملت،وقبل عصر بركة، في ظروف مضت مسوغاتها وبمحركات نريد تغييرها.
لا شك أن السعي في مواكب "الصلحات" غاية مباركة، ولكن قبله يجب أن نتفق على أبجديات وجودنا في إسرائيل وعلى تعريف أعدائنا وحلفائنا. وعلى كيفية صيانة حرياتنا، وقبله أن نتوافق حول قوالب حرياتنا؛ فأن يصدر، مثلًا، بيان يصرح فيه أن : "لجنة المتابعة لشؤون الجماهير العربية ترفض قطعيًا بإجماع مركباتها جرائم قتل النساء المسماة زورًا وبهتانًا: قتل على خلفية الشرف أو أي خلفية أخرى" يعد خطوةً إيجابية، لكنها ليست خالية من التورية و"الغنوجة"، فالبيان، برمته، هام لكنه ليس كافيًا، لأننا نعلم أي تصريحات سبقت إصداره، وبعضها جاء على لسان قياديين في اللجنة العليا بينهم وبين مفاهيم الحريات المعاصرة قرون من الزمن، ومنهم، على الرغم من موافقتهم على إصداره ، ما زالوا يؤمنون أن المرأة عورة!
سياسة الدولة ومخططات قادتها خطر محدق في وجودنا الجمعي وسلامة وأمن أفراد مجتمعاتنا في جميع قرانا ومدننا.إلى جانب ذلك يبقى قتل النساء عارًا على مجتمعنا، ووصمته لاصقة في جبين مؤسساتنا العاجزة على مواجهته بصدقية واستقامة وجرأة. والعنف المستشري في مواقعنا خطر وجودي على حصانة مجتمعاتنا واستقرارها المنشود. التضييق المتعاظم على فضاءات حياتنا وانحسار الحيّزات العامة ظواهر قاهرة يشكو منها كثيرون، لكنهم لا يجدون الإسناد والدعم من أصحاب القرار والمقدرات العلمية والمادية. ويبقى تيهنا السياسي آفة الآفات التي تلقي بنا في المتاهات، وتشتت شملنا وتفتّ من قوانا. فهل الطريق إلى تركيا أكثر أمانًا منه إلى الشام، أم علينا أن نصاحب بوتين ونهجر أولاد عدنان، وهل نترك مياديننا في حيفا وكفرياسيف وصفد ونستظل في خضرة رام الله وخيم الصحراء ونعم السلطان؟
هذه هي مشاكلنا وهي ذاتها مسؤولياتكم في اللجنة العليا، فلا بأس أن تذهبوا إلى قطر أو الى جنيف أو موسكو، ولكننا بحاجة قبلها للجنة متابعة سليمة قوية ومتجددة، ولرئيس لها كشاف عنيد، فحين انتخب بركة عقدنا عليه الأمل ولأننا رفاق ذات الطريق ما زلنا نؤمن أنه قادر على أن يكون الياطر الأوفق لسلامة سفينتا .
نريد بركة قويًا فإذا كتب على صفحته في الفيس بوك ذات صباح، كما نقل الصحفي المعروف وديع عواودة في القدس العربي قبل أيام: "إن النساء اللواتي يشاركن في المناسبات الوطنية في المجتمع العربي هن بطلات، وكل من يعارض ذلك فلينظر في داخله" لا يضطر إلى محوها في المساء، فبركة مثلنا ما زال يؤمن أن المرأة ثورة، وفي أعدائها الاثم والعورة.
[email protected]