لولا قرار بلدية باقة الغربية بفصل المربي علي مواسي من سلك التعليم وتحريم استيعابه معلمًا في أي مدرسة من مدارس البلدة التابعة لسلطة البلدية، لما شهدنا تلك الموجة من بيانات الاستنكار والشجب الحزبية والمؤسساتية والشخصية، التي نشرت مؤخرًا الكترونيًا، وعلى بعض المواقع. وللتأكيد، أود أن أذكٌر، أنني احتسبت هذه المسألة بعد وقوعها مباشرة، بأبعد من كونها محاولة قمع معلم، وأنا للحقيقة لا أعرفه، في قريته باقة الغربية، لأنه اختار عرض فيلم فلسطيني معروف لطلابه، واعتبرتها فصلًا جديدًا، يضاف إلى فصول مأساتنا الاجتماعية العامة المتداعية، وذلك لما اختزلته هذه الحادثة، من عناصر يمكن أن تشكّل بمجملها معالم تلك المأساة : حيّز المدرسة ومكانته في المجتمع العربي، المعلم ومكانته أمام طلابه ومشغليه ومجتمعه، قمع حرية التعبير، وشعور المعترضين عليها بحقهم بمنع ذلك التعبير حتى بقوة الذراع والسلاح، وعلمهم أن الغلبة لهم، والآخرون إما ضعفاء أو مراؤون، تصرف مؤسسات المجتمع المحلي ازاء الحادثة، ردود فعل المسؤولين المباشرين عن المدرسة وفي طليعتهم رئيس البلدية الذي يستخف عمليًا بمن دعموه من حزب أو أحزاب سياسية من المفروض أن تعترض على أسلوب القمع الممارس، وأخيرًا، صمت وغياب الجهات الاسرائيلية الرسمية على كل ما يعنيه هذا من خبث وغش واصطياد في مياه مستوردة.
فقبل قرار فصل المعلم من قبل المجلس البلدي ونشر البيان على الملأ، ترددت معظم تلك الأصوات، وبعضها تمنى أن تخبو نيران تلك القضية، وينام أطرافها على فراش الطبطبة والتعشيم المتبادل، أو ربما، في أحسن الحالات، تمنوا أن تنتهي هذه المناوشة العابرة، بعقد الراية البيضاء، التي هي عند العرب راية الصلح وسلام الدم على العصا.
إنها لعبة الأقنعة الخاسرة، وقانونها الأساسي البسيط: من يزرع الرياء فليحصد الخسارة والهزيمة، لأن القضية، لعلم من لم تطرطشه بعد بصقة عربيد أو لم تدوشه صرخة الطلقة الشاردة، كانت، برأيي، منذ زمن هي ضياع ساحات البلد، والقضية صارت بعد الضياع، في يد من تركنا عصمة البيت وحرمة الشارع والمدرسة والمراح والبيدر؟
ما جرى في باقة الغربية هو وجه من أوجه المأساة التي نغرق في ثناياها يومًا بعد يوم، وباقي فصولها يهرق آهاتٍ في شوارعنا: رؤوس عذارى تقطع وتدحرج على أدراج من شرف ذكوري أحدب، حياة شباب صارت أرخص من عفطة عنز، يسقطون قتلى عوالم الغيب في ساحات خائفة، بينما تسيل الحياة حول جثامينهم بهدوء الروح كدمائهم، وبتردد الندم، مدارسنا مباحة لكل معارض وعارض ومعترض، أسواقنا تركت رهائن بيد أصحاب البلطة والفيل وقانونهم: ادفع بالتي هي أسخن !
خسارتنا، كمجتمع، لا تقاس بالقطعة والصفقة، ففي كل المواقع، تحققت خساراتنا بالجملة، وليس فقط على طريقة الباقة وحادثتها الأخيرة، فعندنا مثلها وقبلها "باقات"، ومثل علي دفع كثيرون الأثمان بصمت العاجزين، أو انحنوا لقانون السوق الشائع، فصاروا معلّمين لأولادنا، ونفوسهم نفوس عبيد، أو أضحوا رجالًا في الواجهات، أو في البيوت، وفي العتمة كانوا دافعيها صاغرين، حين عز حولهم الأمان ولم يعد بيتهم حصنهم، والحلال في خوابيهم يقطر، والحرام عند غيرهم يسير.
إنها لعبة الأقنعة الخاسرة، وقانونها الصارخ مثل الجوع : من يرض أن يكون ذيلًا سيعدم ،حقًا، مكانته في الصدارة والريادة والقيادة، فقبل البكاء على عروش أحزاب ولّت وتبخرت من مواقعها البلدية، علينا أن نسائل أصحاب تلك العروش البائدة، كيف ومتى ومن دعم أولئك الذين يحكمون اليوم في قرانا ومدننا، ويقررون مصائرنا ومصائر أولادنا؟ من مكّنهم من رقابنا، ومن يسّر لهم وأوصلهم سدات الحكم وأمسكهم نواصي السلطة والقرار؟
أما آن الأوان أن يقوم قادة أحزابنا العربية الوطنية بجرد حساب جريء ومكشوف حول أدوارهم وأقساط أحزابهم ومؤسساتها، بدعم رئيس المجلس المحلي هذا أو رئيس البلدية ذاك، وهل سيتجرأ حزب بمكاشفة مصوتيه ومراجعة موقف ازاء رئيس مجلس استؤمن وطنيًا وخان الأمانة وأحلام داعميه من مصوتي ذاك الحزب، أو نكث بوعد وباع موقفًا وابتعد عن السرب الذي أوصله إلى تلك السماء والقبة ؟ هل من قيادي واحد يخرج علينا ويصرخ أننا دعمنا، في الحزب فلانًا، حتى صار رئيسًا عليكم، لكننا نقر اليوم أمامكم اننا أخطأنا، وتبيّنا أن من حسبناه رأسًا كان بالفعل ذنبًا، ومن استبشرنا بخيره سريًا كان في الواقع سرابًا وطيفًا خفيًا. متى سنشهد بداية الصحوة؟ متى تستعيد الهيبة سلطتها والمخافة همسها والتقوى حكمتها؟
انها لعبة الأقنعة الخاسرة، وقانونها الذي من وجع: أين تكون الأقنعة تذهب الهيبة ولا تكون . مأساتنا اليوم أننا نعيش في زمن رحلت عن أنفاسه الهيبة ، واستوطن الخوف تحت القناع ومعه.
فأبناء جيلي عاشوا على ضفاف الهيبة، تمرغنا بطيبها ورشفنا من جداولها حتى الأرب، تضمخنا بحنّائها، وعشقنا سفراءها حتى الطرب، فما قيمة مجتمع لا يعرف المخافة والاجلال والتقوى والوفاء والأدب وهو ميراث الأشراف ومبدد التعب.
لقد عشت في قرية جليلية عرف أهلها معنى الهيبة وصانوها فصانتهم وأبقتهم أعزازًا كرامًا آمنين. عشنا في بيت من سعادة ودفء وأمان، فللأب هيبة وللأم كل الحب والرأفة والحنان ، ونضجنا في الحارة، حيث للجيرة هيبة وحق وأمان، وركضنا في شوارع لفضاءاتها هيبة، للكهل وقار، للطفل حرمة، لضوء القمر صلاة، وللضفيرة الناعسة تنهيدة وأمان، في المدرسة، للمعلمين هيبة القديسين، وللمعلمات حمرة الخد وخفقان الشقي ورهبة الورد وأمان.. أنّى شططنا، كانت الهيبة تقفز وتربي وتحرس، وكيف ولّينا وجوهنا كانت الهيبة تركض وتحمي وتردع .
كبرنا في مجتمع كانت سماؤه بلون الوطن وأرضه من وفاء وتراب ونرجس، وعشنا في قرى لم تعرف ساحاتها الأقنعة وكل ما هو فاسد ومفسد كان في حياة سكّانها مستجفى ومستكره .
كنا صغارًا في زمن كان للقائد هيبة، ننام ونتمنى أن يطلع لنا وجهه في الحلم لنفيق على بحته، وكنا نصدق مايقولونه لنا في الصباح لأن الليل عندهم نجوم ومناجل وسنابل، عشنا يوافع يكللنا الوطن بهيبة، فالرأس بيننا لا يخفى على أحد، والذيل ذيل حتى لو جاءنا في العلب منضدًا، طرنا شبابًا في زمن كان للضمير كيان وهيبة، فكنا لا نذوي إلا بعد أن نصلي للحب وللحمامة التي في الطاقة تدمع، وكبرنا.. حتى شهدنا رجالًا في زمن، استقوى فيه الأخ على أخيه وجاره ومعلمه، بما لم تنزله السماء من حجارة وحمم، وبسطوة السكين والقناع المزيف، فذهب خيرنا وتشتت ريحنا وصرنا في الأمم ضحكة وعبرة ، وتفشى بيننا أربعة- القليل منها كثير: النار، والعداوة، والفقر، والمرض، فكيف وقد صار كثيرها بيننا كثيرًا .
فمن يعيد الهيبة إلى بيوتنا، إلى شوارعنا، إلى مدراسنا، إلى ساحات بلدنا، إلى قادتنا وأحزابنا؟ من ينقذنا من هذا الزمن العقيم، زمن الأقنعة حيث لا مروءة ولا وفاء ولا هيبة ولا قلم.
[email protected]