رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية، في السادس عشر من شباط، وبعد عدة جولات من التقاضي المضني والمستفز، التماسًا قدمتُه باسم الأسير محمد القيق، المضرب عن الطعام منذ خمسة وثمانين يومًا، وفيه طالبتُ قضاة المحكمة بأن يسمحوا بنقله من مستشفى العفولة إلى مجمع فلسطين الطبي في مدينة رام الله المحتلة.
جاءت مطالبتي هذه بعد أن قضت هيئة مكونة من ثلاثة قضاة، في الرابع من شهر شباط، بتعليق أمر الاعتقال الإداري الصادر بحق محمد، على أن يبقى، مجبرًا، في مستشفى العفولة لتلقي العلاج هناك .
في نفس يوم صدور ذلك القرار أعلن محمد عن مواصلته إضرابه عن الطعام ورفضه القاطع لإجراء أي فحوصات طبية، وكذلك عن استمراره باعتماد الماء مشروبًا وحيدًا خاليًا من أي إضافات أو مدعّمات، فهو، هكذا أدّعيت في مرافعتي، ومنذ لحظة تعليق أمر الاعتقال صار حرًا، وحقه أن يمارس حريته دون قيد أو شرط؛ يعيش كيف وأينما يشاء، ويضرب كيف ومتى شاء، أو يأكل، وهذا ما حرمه منه قرار المحكمة القاسي.
مرّة أخرى أكتب عن هذه القضية وأنا لا أعرف كيف ستنتهي، لكنني أشعر أنها كانت تجربة مختلفة عن سابقاتها، وذلك رغم أوجه الشبه الكثيرة بينها، فمحمد ما زال ماضيًا في إضرابه، وللبعض قد يبدو هذا، بعد التطورات الأخيرة، قرارًا ملتبسًا. ويرقد في مستشفى العفولة مرغمًا، يرفض إجراء الفحوصات الطبية أو تلقي العلاج المقترح من قبل طواقم المستشفى الطبيّة، وهو معرّض، هكذا كتب الأطباء في تقاريرهم اليومية، للموت الفجائي في كل وقت يسهو فيه القدر! وكل هذه تفاصيل تذكّر، للحقيقة ، بفصول الحكايات السابقة : من خضر عدنان إلى محمد علان، فهل حقًا تختلف هذه التجربة عن أخواتها وبماذا؟
أكْتم من لسان
قضية محمد القيق ليست هي القضية الأولى لأسير فلسطيني يعلن إضرابًا عن الطعام محتجًا على اعتقال تعسفي من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومن الطبيعي أن تتميّز كل حالة بعناصر خاصة وتنفرد بها وبمعطيات متفاوتة، لكنني أشعر أن هنالك بعض الفوارق والمؤثرات الطارئة الجوهرية التي ميّزت هذه القضية عمّا سبقها وقد تكون التفاسير التي سأسوقها، وراء تداعيات القضية منذ نقل القيق إلى العفولة ولغاية اليوم.
منذ البداية، برأيي، لم يكن مستشفى العفولة هو المكان المؤهل لرعاية أسير مضرب في مكانة القيق، فالمستشفى وطواقمه الطبية يفتقرون إلى التجربة والخبرة التي راكمتها مستشفيات أخرى استقبلت، في السنوات الماضية، عشرات الحالات من المضربين الفلسطينيين الذين أنهوا إضراباتهم باتفاقات مشرّفة مع الطرف الإسرائيلي، وبمساعدة المسؤولين في تلك المستشفيات الذين احترموا إرادات المضربين وحيواتهم. كما أنني وجدت أن المسؤولين في مصلحة السجون في المنطقة الشمالية لم يكونوا مؤهلين لاستيعاب أزمة بحجم تلك التي سبّبها إضراب القيق، وجهلوا كيف يتعاملون معها، لا سيما في الأيام التي كانت يجب أن تستغل لإيجاد حل ومخرج قبل تفاقم المواقف وتأجج العواطف وتعملق الأنوات .
أمّا بعد أن علّقت المحكمة العليا أمر الاعتقال الإداري، فقد أمسى القيق مريضًا حرًّا يرقد في مستشفى قريب من التجمعات السكانية العربية، في حين يسمح لكل البشر بزيارته والتواصل معه وتوصيله مع جميع أرجاء المعمورة دون قيد أو شرط؛ وفعلًا بدأت وفود شعبية كثيرة برزت من بينها وفود عن الحركات الإسلامية وقادتها، بزيارته من دون انقطاع وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة، ومثلهم فعل نشطاء وقياديون في أحزاب وحركات ومؤسسات عربية أخرى. لقد تشكّلت في محيطه حالة استثنائية، أدت في الواقع، إلى نتيجتين متناقضتين : فمن جهة زوّدت تلك الجموع القيق بمعنويات فولاذية إيجابية، لكنها في الوقت نفسه كوّنت في داخله عالمًا متخيّلًا أو مشتهى، ومن جهة أخرى، شكلت أمامه، عن غير قصد، سواتر حجبت عنه إمكانية التفكير السليم والواقعي والدقيق؛ وفي جميع الحالات أتاح هذا التماس ولادة تجربة جديدة برز فيها دور بعض القوى السياسية العربية في إسرائيل وتفاعل قادتها، بتفان فاق كل تصور، مع الأسير المضرب وبتفاعل مباشر ونشط ومؤثر، وليس من باب التضامن والإسناد فقط، بل كعناصر منخرطة بشكل عضوي ومتماهية مع الحالة، حتى أن بعضهم تصرف، بموافقة القيق ورضاه، كأبيه الروحي وكسيّد الساحة وكصاحب المسألة، وأخذ يديرها بالمطلق، ويخيط عباءاتها بخيوط جليلية خضراء، وبحرير "مرجعامري" سماوي . وبعيدًا عن تلك القوى الخيّرة، ربما قد أتاحت تلك الحالة ظروفًا ميدانية سهّلت نشوء فرص لدخول أو إدخال عناصر غريبة أو مشاكسة أو مزايدة أو "دنفة" من حبّه وعلى مصيره.
بالمقابل، شهدنا في فلسطين المحتلة ما شهدناه في حالات الاضراب الفردي السابقة: في البدايات التباس ظاهر وتلكؤ في التعبير عن التضامن مع الأسير المضرب وغياب نشاطات إسناد شعبية واسعة ذات شأن وحضور. فصائل وحركات سياسية وطنية وإسلامية شبه غائبة عن الحدث، بينما نلحظ، من حين إلى حين، تمظهر قياداتها أو ناطقيها، بتصريحات نارية هي، عمليًا، ضرائب كلامية عليلة. إعلام، بمعظمه غير مهني، يصطاد ويتلقف الأخبار، باستثناء قلة ما زالت تحترم المهنة والرسالة، بعفوية وسطحية من كل فم ويد، وأحيانًا يختلقونها، فتولد مشوّهة ومضرّة. مؤسسات حقوقية وغير حكومية تتسابق على تصنيع الخبر أو استنساخه وتصديره للشاشات والمواقع ، مملّحًا ومبهّرًا، وجل غاياتهم، إعلاء أسماء مسؤوليهم أو قادتهم، بينما تبقى الضحية، على الأغلب، ذاك الأسير المضرب ومصلحته. منابر ومنصّات تشيع الوهم في نفوس من يشاهدها ويسمعها حتى يخيّل لهم أن الثورة قاب شعار من كنسيت إسرائيل أو طلقة ! وأخيرًا، عن غزة سيحدثنا البحر، أما عن المحامين والمتحامين فحدّث ولا حرج، وتبقى نضالات السجون، ففيها الصمت أجلّ لي وأسلم، لأن السالفين علمونا أنه قد:
" يموت المرء من عثرة بلسانه *** وليس يموت المرء من عثرة الرجل!"
لكل شيء إذا ما تم نقصان
لا أفشي سرًّا إذا قلت إنني عملت، كما في الحالات المشابهة التي سبقت، على أكثر من جبهة، وحاولت طرق أبواب عديدة ومسارات مجرّبة وغير مجرّبة، فالخيار القضائي لم يكن عنوانًا مأمولًا لدينا منذ البداية، ولم نجر وراءه طمعًا بعدل محكمة ولا بإنصاف نظام لم يُذقنا، منذ عقود، إلا المرارة والخيبة، لكننا نرتاده كهامش متاح يجب استنفاده، وكرافعة نستعين بها للوصول، أحيانًا، إلى أبواب بعيدة وموصدة.
لم ننجح، لغاية كتابة هذه السطور، بالاهتداء إلى مخرج مقبول ينهي، بشكل رضائي، هذه الأزمة، وعلى الرغم من أن الجانب الإسرائيلي تمنّع وتعنّت، كما في حالات سابقة، من أن يبادر إلى طرح حلول ومخارج، إلا أننا كنا في محطتين حاسمتين قريبين من التوصل إلى اتفاق معقول ومشرّف، لولا تعثر تلك الفرص في ساحات مستشفى العفولة .
ما زلت أجهل الأسباب التي أدت إلى فشل التوصل إلى حل رأيته مشرّفًا، كما رآه كثيرون غيورون غيري، رغم أنه قد يكون بعيدًا عن الكمال، لكنه كان يضمن، في كل مرّة، الحياة لمحمد القيق وعودته الكريمة، وفي تاريخ معلوم وقريب، لأحبائه وشعبه، لكنني أجزم على أن الظروف الخاصة التي أحاطت فيه هناك، في العفولة، لم تساعده على اتخاذ القرار السليم، فبقينا نتلمس طريق الخلاص، وننام، بصعوبة، ونصحو ضارعين أن لا تميد بنا الأرض، كما مادت بأهل "كليب".
أنا نادم لأنني لم أجد الفرصة كي أشرح لمحمد عن العفولة وتاريخ مرجها العامر قبل أن يبيعه "السراسقة" وأشكالهم، فهناك، قريبًا من أين يرقد ابن جبل الخليل، قُدمت بنات فلسطين قرابين على مذابح المؤامرة البريطانية والخيانة العثمانية والعمالة العربية، وما زال تراب المرج يحفظ تهاليل آباء بكوا عزتهم ونواح الأمهات على العذارى، فمن الجائز أن محمدًا ينام على سريره هناك ويسمع في لياليه الطويلة آهات ذاك الأسى يتنهد على كيف:
"قطعن النصراويات مرج بن عامر / ولما قطعن المرج فاض بالبكا" .
لقد أضعنا الوقت هناك في المرج، ولا أعرف على من من الأحباء أعتب، والعتاب كان دومًا حدائق المتحابين، لكنني لن أيأس وسأستمر، غاضبًا وحازمًا، في التفتيش عن حل يرضي أهل الأرض وبعدهم، حتمًا سترضى،السماء، وأخشى من أن أتجنى على أحد، والتجني كان دومًا رسول القطيعة والفرقة؛ فأنا أريد لمحمد الحياة لا الموت، وأن يعود إلى " فيحائه" والغار على رأسه إكليل فخار.
[email protected]