أكتب مقالتي وقد أنهى الأسير محمد القيق سبعين يومًا من الإضراب عن الطعام وهو يرقد، في هذه الأثناء، على سريره في مستشفى العفولة، مقيّدًا بيده اليمنى وساقه اليسرى، ويمارس، بخلاف سجّانيه، أرقى معاني الإنسانية وأقربها إلى قلب الحياة وجوهرها البدائي: الحرية العارية من شوائب النهم ومن خيالات الطيف الحزينة؛ فحريته ليست بحمراء "شوقي"، ولا خضراء كما أحبّها الدرويش، بل، بلون الحب سرمدية، هكذا رأيتها بأم عيني، وبطعم الفجر المستطير، حين يكون هذا احتمالًا أو شرفة على عمر يتناهى.
في البدء كانت متسادا
قد أكون من المحظوظين لأنني واكبت في السنوات الخمس الأخيرة وتابعت قضايا معظم الأسرى الذين خاضوا إضرابات طويلة عن الطعام، وها أنا أشهد أنني انكشفت، خلال هذه السنين، على إحدى التجارب البشرية الاستثنائية والملحّة، وليس فقط لأنها تختزن في طيّاتها كثيرًا من المعاني القصية على الفهم، بل، وبالأصل، لأنها تنبعث وتتداعى على أرضيتين من مرايا صقيلة تلفّانك بالحيرة والالتباس، تمامًا كانبهارك حين يندلق النهار، غير مستأذن، من قفة العتمة، أو كما يكون الواقع، في الحقيقة، قناعًا لعبث خفي ومتأهب؛ فالمضربون، جميعهم، أعلنوا، كما يعلن اليوم محمد: حريتنا/ كرامتنا أو فليكن موتنا/ استشهادنا. وكأن حيواتهم، في هذا التجلّي النيزكي، تشظت إلى بقايا أقدار مقيتة، حتى صار موتهم مستنخبًا وخيارًا أشهى.
لا أعرف كيف ستنتهي قضية محمد القيق، فهو في حالة صحّية خطيرة للغاية، كما يشهد عليها الأطباء ويعلنون أنه يواجه عمليًا إمكانية سقوطه صريعًا لموت مفاجيء في كل لحظة، وعلى الرغم من وضوح هذا الإعلان ما زالت نيابة إسرائيل تتمسك بموقفها وتطالب المحكمة العليا بإبقاء أمر الاعتقال الإداري على ما هو عليه.
والقضاة بدورهم يتخبطون بين ريحين: عجزهم في التصدي لسلطان الأمن وسطوته، وخشيتهم من أن يتذكرهم التاريخ كمن حكموا على فلسطيني بالموت وهو لا يعرف بأي ذنب "وئد"، ولم يعط الفرصة للدفاع عن نفسه، كما أمرت السماء وقبلت حكمها تلك الشعوب التي عافت قوانين الغاب ورفعة الظباة على الظباء!
وتبقى إسرائيل هي إسرائيل: جيش يملك دولة صارت سبية لاحتلال قوامه شعب يعيش في دروع لا تشبه دروع السلاحف، حافظوا على جينات أحفاد "متسادا"، ويحيون، كما عاش أسلافهم، على إهلاك الأمل، وبأرواح من رماد.
وتبقى الحكاية حكاية محمد وشعب محمد وأمته
فكم مرة حرت حين سألني محمد عمّا يقوله "الشارع" ويفعله في شأن قضيته، وفي كل مرّة كنت أكذب كي لا أحوّل ليله الزاهي من وجع إلى مقبرة مُجزعة لنجومه الفتية؛ وكم مرّة أحسست بنغزة في خاصرتي الدامية حين كان يسألني عن فلسطينه وعن ساحاتها الناعسة والخالية إلا من ممتهني السياسة العبثية وباعة الكلام، وكذبتُ، كي لا أمحو تلك البسمة الساقطة من فم يذكرك بحبة عناب كانت قبل مواسم الجفاء شهية، والشاهدة على روح عاشق متلهف لرشفة طل من ياسمينته الحزينة؛ وكم مرّة بلعت شهقتي حين كان يسألني، بفرح النرجس، عن غزته وإن هي ما زالت ثائرة ولا تنام، كما جاءته في الحلم، أناشيد هادرة ووعودًا صادقة تردد كما العاصفة: إما الحرية وإما الشهادة! وكذبتُ، كي لا أوقظ الفراشات التي نامت على جبينه، في ليلة طويلة رعت فيها الملائكة قلبه من السقوط ومن الصدى. وكم مرّة طمأنته، على أن رفاقه في السجون حوّلوا، بنضالاتهم، ليل سجّانيهم إلى حمامات من قار ونار، وكم مرّة، فاجأته، وأخبرته أن فلسطين ببرها وبحرها توحّدت كما لم تعرف الوحدة من قبل، وأعلمته، كيف تبخرت من موج أثيرها المزايدات والمبالغات والأسطرات، واختفى من منصاتها الرياء والزيف والاختلاقات، وذابت عن عرازيل فصائلها الثلوج ودب في صفوف نشطائها الحماس، وحين كان يسألني عن وقفة أمته التي أبعد من فلسطين، أخبرته، أن العرب أوقفوا بقر بطون بعضهم البعض إجلالاً لحروب معدات الفلسطينيين الخاوية، وأن الترك يهددون بطلاقهم من حلف الناتو ويتوعدون بالانقضاض على إسرائيل، وأما العجم، فبعد أن سوّوا حساباتهم مع الغرب اللعين بشروا أننا سنراهم، قريبًا، في ميادين تل أبيب في عباءات من قصب.
لم أقل لمحمد الحقيقة وأجزت لنفسي أن أكذب في كل مرّة زرته فيها، رغم أني أعرف أن المحدّثين الأوائل أجازوا الكذب في ثلاثة، ولم تكن حالته واحدة منها. لكنني أريده ككثيرين ممن تفانوا في التضامن معه، حيّا، وأريد أن ينتصر، كما أراد ذلك كثيرون، من الأحرار، هنا وفي العالم، وصرخوا وكتبوا ونادوا وكاتبوا وتظاهروا وخاطروا وتصادموا وتعبوا وسهروا وحثوا واستنهضوا وتضامنوا، ونريد أن ينتصر حتى لو كان نصره صغيرًا، كأفراح الغلابى والمقهورين، ومثل انتصارات الأولاد الحفاة في سباقات الحارات الفقيرة. ولا نريد له أن يهزم، بل أن يعود حرًا لبيته، الذي يحبه كما تحب السنابل أشماسها، وإلى حلمه الأجمل من حلم الربيع.
لم أكذب عليه، فهناك، في العالم كثيرون يصلون من أجله، في المعابد وتحت ظلال السرو والسنديان وفي حقول الأرز والقطن وبفيء السواقي، لأنهم يعرفون أن في هزيمته نكوصاً للروح وانكسار ضلع من ضلوع الإنسانية، وموتاً لبؤبؤ العين.
لا أعرف متى وكيف ستنتهي قضية محمد، لكنها واحدة من تلك القضايا التي تفتح النافذة واسعة على دروب الوجع الفلسطيني والعربي، وتعرّي عروق الاستبداد الإسرائيلي وقهر احتلالها، وتفضح، بالوقت ذاته، بواطن عجز ثورة شاخت وفصائلها، والتواطؤ الدولي، وتبرز كثيرًا من ملامح العهر الفلسطيني الأقرع.
في الماضي كتبنا عن جدوى هذه الإضرابات الفردية وتناولناها من باب الضرورة والنجاعة والخلاصات، ولن نكرر ما قلناه، لكنني، وأنا المتابع لمعظم تلك الحالات، أقرّ أنها ستبقى تجارب، متعبة لكنها فذة، لمناضلين فلسطينيين عدموا أفاق الأمل الجماعي، فلجأوا إلى الخيارات الصعبة وهم يعرفون بيقين أنهم قد يخسرون كل شيء، وعلى الرغم من ذلك يمضون في ليل كله شوك وهم وقلق ومقامرة على أصباح قد لا تنبعث أبدًا.
إنها خيارات لأفراد لا يحق لأحد منا أن يحكمها بمفاتيح "منطقية" لا يمكنها أن تسبر مجاهيل تلك النفوس ومديات ترحالها، نحو الأزرق الخالص، بقناعات ستبقى عصية على استساغتها بذهنيات محللين يدرسونها مستعينين بمشارط لا تتعدى كونها أدوات أكاديمية مجردة أو مخبرية مثلومة.
فمن يمضي على طريق الحرية الصافية، كما يفعل محمد القيق، في ليلته الواحدة والسبعين، وهو بين غيمة ونجمة، لا يُساءل عن جدوى رحلته ولا يُحاسب على دوافعه، إلا إذا زوده شعبه بضمانات لحريته، وإذا كفلت أمته أن يعيش ابنًا عزيزًا حرًا كريمًا، كما يليق بإبن يؤمن أنه سليل لخير الأمم وأفضلها.
وأخيرًا، من المؤسف أن تطوى هذه التجارب في أدراج البؤس الفلسطيني، والأحق والأجدر أن تدون وتحفظ وتدرس، كي تكون عبرًا للأجيال القادمة، لا سيّما، في غياب بوادر تطمئن على اقتراب أجل الاحتلال الإسرائيلي ونهايته، فبدون أن نقيم تلك التجارب ونستفيد منها، سنبقى "كأعمى في يده جوهرة!"
[email protected]