لم يحظ إعلان مؤسسات حزب الليكود الإسرائيلي والقاضي بإلغاء جولة الانتخابات التمهيدية لاختيار قائد للحزب، البرايمريز، في الأسبوع الماضي، لأي اهتمام يذكر في الإعلام العربي أو بين السياسيين العرب أو المفكرين والمحللين من أصحاب الرأي وكتبة الأعمدة المختصين في متابعة الشؤون السياسية وتداعياتها خاصة في الساحة الإسرائيلية.
لقد عبر بنيامين نتنياهو، قبل أكثر من شهرين، عن رغبته بإجراء انتخابات عامة قطرية يشارك فيها جميع أعضاء حزبه، وذلك كي يختاروا زعيم الحزب للفترة المقبلة. ومع أن باب الترشيح لهذا المنصب أغلق عمليًا في العاشر من كانون الثاني، فلم يترشح أحد منافسًا لنتنياهو الزعيم الحالي.
بهذه الحالة اقترح القائمون على سير هذه العملية أن تجرى الانتخابات بوجود ورقتي اقتراع، وكما هو متبع في مثل هذه الحالات : على واحدة يكتب "مع" وعلى الثانية يكتب "ضد". يقال أن نتنياهو خشي مما قد يتيحه هذا المشهد من مظاهر ونتائج، وهو الذي يشعر أن جيوبًا ليكودية، وإن كانت صغيرة لكنها معارضة قد تستغل الفرصة وراء الكواليس وتعبر عن مواقفها كتابةً، وبشكل قد يحرجه أمام العالم وعامة الشعب، فأوعز لمستشاريه أن يلغوا هذه الاحتمالية، وفحص استبدالها بوضع ورقتين: واحدة "نعم" و الثانية "بيضاء".
في النهاية، عدل مستشاروه عن هذه الفكرة، وآثروا من الخيارات الأسلم، فقررت مؤسسات الحزب الغاء الانتخابات كليًا، والإعلان عن بنيامين نتنياهو زعيمًا أوحد وبدون منافس.
لقد أثار قرار نتنياهو، منذ إعلانه حتى نهايته بالصورة التي انتهى عليها، انتقادات برزت من بينها كتابات مجموعة من المحللين السياسيين والتقارير الصحفية التي نشرت في عدة صحف ومواقع إخبارية إسرائيلية هامة، وفيها، خلص معظم كتابها إلى نتائج مقلقة وتوصيفات خطيرة للغاية في كل ما يتعلق بمنظومة الحكم المتشكّلة في إسرائيل وبطبيعة القوى المؤثرة على سيرورة قرارات مؤسسات الدولة.
لقد تطرقنا ووصفنا في الماضي عملية الانهيار الشامل والمتداعية في جميع سلطات النظام الإسرائيلي، ورصدنا ما نشهده من تقدم فئات سياسية مغرقة في عنصريتها القبيحة واحتلالها لمراكز القول والفصل في معظم أجهزة الحكم. ومنذ سنوات ونحن ننبه ونحذر من نشوء نظام، ينزع، ببطء ولكن بإصرار، إلى فاشية سوداء فاحمة، من السهل، على كل مراقب أو متابع، أن يلحظ أنيابها وأن يسمع فحيحها ويشعر بوخز نِصالها المشهرة؛ فالمجتمع في إسرائيل تخطّى، عمليًا، مرحلة العنصرية المضطهدة التقليدية، التي عانينا من ممارساتها، كأقلية عربية، لعقود هلكت، والدولة اليوم تتصرف كجهاز قمع يخدم، بشكل عقائدي شمولي وممنهج، أكثرية يهودية تصر على تفوّقها على أقلية عربية مستعداة لكونها عربية.
من اللافت أن بعض تلك التقارير تناولت قضية إلغاء "البرايمريز" في حزب الليكود، مسلطة الضوء على شخص نتنياهو وممارساته منذ عاد الى سدّة الحكم في العام 2009، وما قام به من خطوات تبدو صغيرة لكنها كانت مدروسة في سبيل تحويله إلى الزعيم الأوحد، والقائد الأقوى، والآمر الناهي الأول والأخير، كما يليق بدولة فقدت معظم أحشائها وأعضائها الداخلية، وبقيت تعمل بأطراف باطشة، ومن دون قلب أو عقل أو ضمير.
ربما تكون مقالة الصحفي بنّ كسبيت، عن الغاء "البرايمريز" في حزب الليكود، والمنشورة في جريدة معاريف يوم 19/1، واحدة من تلك المقالات اللافتة، لا سيما إذا عرفنا أن كاتبها هذا الصحفي البارز، لم يشتهر بمواقفه المتزنة ضد سياسات الدولة وبحق الفلسطينيين والعرب مواطني إسرائيل.
يقوم بن كسبيت بعملية جرد تاريخية سريعة لمجموعة من القرارات التي بادر إليها بنيامين نتنياهو ومعاونوه المقربون، في السنوات الأخيرة، والتي لم تؤخذ، في حينه، على محمل من الجدّيةً والخطورة، ولم تستوعب على كونها، في الحقيقة، وخزات إبر شكّت على مهل في جسد الدولة لتأمين شلّها، وكي يضمن زارعوها تفوقهم وتفرد زعيمهم في السلطة بشكل محكم وتام.
يبدأ الكاتب، قصته مؤكدًا على التأثير الخطير لتشريع قانون منع قادة المواقع الأمنية وجنرالات الجيش من خوض المعترك السياسي إلا بعد مرور أربعة أعوام من تاريخ تركهم لذلك المنصب. لقد أثر هذا الحظر بشكل كبير وقلل من أعداد المرشحين الجديين في المعارك الانتخابية السياسية وأدى عمليًا إلى تجفيف تلك الهوامش من شخصيات قادرة على المنافسة والقيادة، فنحن، نعرف أن معظم قادة إسرائيل الكبار، منذ قيام الدولة وحتى تاريخ سن ذلك القانون، وفدوا، عمليًا، لمناصبهم السياسية والقيادية المدنية، مباشرة من مناصبهم الأمنية الرفيعة التي أشغلوها لعقود، وهم مستثمرون أرصدتهم وما اكتسبوه من تجارب وشهرة وسمعة ومعارف وعلم طيلة عقود، في قيادتهم لدفة الحكم وتسيير شؤون الدولة، وقبل كل ذلك كانت مكاناتهم العسكرية والأمنية محفزًا جعل تلك الجماهير تسير وراءهم وتنتخبهم.
لقد أثر هذا القانون وأدى إلى هجرة أعداد كبيرة من قيادات الأذرع الامنية والجيش وابتعادها عن ساحة المعترك السياسي ولجوئهم إلى اشغال مواقع أخرى في كبرى الشركات والأكاديميات، هذا في وقت دأب فيه نتنياهو على الترويج، بإمعان مدروس، إلى سياسة التخويف الفظيعة، التي تدفع بعامة الشعب إلى المطالبة، بشكل غرائزي، بضرورة ضمان قائد قوي قادر على مواجهة هؤلاء الأعداء وسكاكينهم، وفي غياب وفرة من الخيارات ووجود شح في المتنافسين الأكفاء له، يضمن نتنياهو، عمليًا، تفوقه الطبيعي؛ فكلّما زيدت جرعات التخويف والترهيب والتهليع، تزداد الحاجة لصاحب الذراع القوية والقبضة الفولاذية.
إذا أضفنا على ذلك إصرار نتنياهو على الاحتفاظ بوزارة الاتصالات وهي المسؤولة عن وسائل الاعلام بأصنافها، وتدخله الفاعل باختيار من يقف على رأس أهم الوظائف ذات التأثير الحاسم في الدولة، ( مثل المستشار القانوني للحكومة، قائد الأركان، رئيس الموساد، رئيس الشاباك، قائد الشرطة العام، مراقب الدولة وغيرهم)، نعرف لماذا وصلنا الى زمن لا يجرؤ أحد من أتباعه أو منافسيه على مناكفته بشكل صارم وجدي ومؤثر.
لم يكتف بن كسبيت بالإشارة إلى تلك العوامل بل أضاف إليها موقفًا يبدو "ثوريًا" اذاما نزعنا منه عناصر الغرابة، فهو يصر على أن عملية تفريغ حزب الليكود من قيادييه التقليديين المشهورين، أمثال بيني بيغن ودان مريدور وغيرهم، ليست صدفة، بل هي عملية مقصودة من قبل نتنياهو ورجاله، وتستهدف إدخال شخصيات شعبية ضعيفة وأحيانًا مهزوزة، وضمان مكاناتها في صفوف الحزب المتقدمة وتبويئها مناصب تنفيذية في الوزارات وفي الكنيست، وذلك لتعزيز شعور الناس ضد هذه الشخصيات الهزيلة وانتقال هذه المشاعر منها إلى المؤسسات التي يعملون فيها أو المناصب التي يشغلونها، لتفقد الجماهير العريضة ثقتها بالنظام ومؤسساته وتلجأ إلى ايمانها بضرورة وجود القائد القوي المتميز والقادر والمختلف .
لقد كان عنوان مقالته المثيرة، "عن مفارقة البرايمريز في حزب الليكود، التي تعكس كيف صارت الديمقراطية الإسرائيلية عاجزة ولا تستطيع الدفاع عن نفسها"، وقد رأينا كيف يحذر، كما حذرنا في الماضي، من تلك الهاوية التي سينتهي إليها كل من يسير على ذلك المنزلق خانعًا ومستكينًا، ويقول، ربما كما قلنا: "نحن في طريقنا إلى هناك، العملية تسير ببطء، وتتقدم بهدوء تحت أعين راداراتنا، وذلك حتى نفيق في ذات صباح ونجد أنفسنا في واقع مخيف جديد. نحن عمليًا متواجدون في هذا الصباح .. هناك رئيس حكومة واحد، فوقه زوجته، وتحته قطيع كبير من السياسيين والموظفين المقزمين، وهم لا يستطيعون التأثير فليس لديهم قواعد.."
قد لا يكون البعض بحاجة لمزيد من الدلائل عمّا يعتمل في قلب الغابة التي نعيش فيها، وقد لا تهمكم التفاصيل، مع أنها تعزز ما نلمسه وما نواجهه في إسرائيل صباح مساء، ولكننا نعرف أن التاريخ يكتب، أحيانا، بنقاط حبر شفطت من دُوَى الجهل أو الاستخفاف أو الكسل، وأحيانًا، يكتب بريش الحماقة والحماسة والتشاوف، فما قرأناه كان بمثابة تذكير لمن سها وغفل، بأن قضيتنا اليوم تتعدى كونها معاناة من سياسات نظام قامع، لأنها، في الواقع، هي أقرب الى مواجهة مع مجتمع ودولة أفرغت من مضامينها المدنية الديمقراطية والانسانية، وعطلت جميع كوابحها القانونية .
وإن هي كذلك فما العمل؟ يتبع..
[email protected]