إن لم تخنّي ذاكرتي، كان المكان فارغًا تمامًا من المارّة، يخيّم عليه هدوء مطلق، شوارعه بلا روح؛ لا ضجيج سيارات، ولا صراخ أطفال، أو نباح كلاب متشرّدة، لا مواء هرّة، ولا خرير مياه
سوى أشباح الليل المخيفة التي تتراقص بخفّة، وتنتقل كالخيال من زاوية إلى أخرى، وبعض أوراق الأشجار المبعثرة التي اتّخذت لون الشمس وهي تجرّ أذيالها برفق نحو المغيب،
وحمامة بيضاء حزينة مكسور جناحها، تحاول التنقل من سطح إلى اَخر ، سقطت لترقد على سطح قرميد بيت قديم فوق نافذة مكسور زجاجها، استطعت أن أرى من خلال نوره الضئيل
رجلًا يجلس على مقعد خشبيّ، ويلبس معطفًا أسودَ، يبدو كأنه شاعرٌ متشرّدٌ، باله مشغول، يحمل هموم الكون بأسره، تلاحقه أشباح وذكريات أليمة، قيوده محطمة، غارق في وصف
كل شيء أو لا شيء، يسبح بخياله وذاكرته في بحر التاريخ، ويغوص بأفكاره وكأنه يدوّن قسوة الأيام ولوعة الفراق، قلقٌ وجِلٌ من الآتي، يحدّق برسم فتاة غجريّة شبه عارية، يتأمّل
بترقّب شديد تقاسيم وجهها ونظرات عينيها، يبدو أنه يحاورها ويخاطبها بلغة الصمت...
[email protected]