وكأننا نستعيد تفاصيل مشهد من فصول التيه، وفلسطين ما زالت تستجير بأبنائها العاقلين ليخلّصوها من فُجر مغتصبي أرضها ومن جهل كان، عمليًا، سبب الضياع الأول وما زال أفظع ما يهدد مستقبلها ومجهض الفرج المأمول.
لا يمكن التكهّن بما ستفضي إليه التفاعلات الجارية في عدة مناطق من الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وأعتقد أن أخطر ما في الأمر هو هذه الحقيقة، لاسيّما أن المحللين والمراقبين ما زالوا يفتشون عن تسمية تليق بما يحدث، وعن أباء تعلّق برقابهم المسؤولية عن نصر قد ينبلج أو فشل قد ينهمر، وعن الشهداء الساقطين على "دروب التبانة" البعيدة، وفي حقول من زنبق أسود تتمايل وتذكّر بليل فلسطين الطويل.
بعض الكسالى سارعوا فوصفوا ما يحدث بالانتفاضة، ومعظمهم لجأ إلى فيء الاستعارة السهلة، متغاضين عن الفارق بين ما كان انتفاضة حقيقية أثمرت ما أثمرته في بداية التسعينيات من قرن ولّى، وبين ما ولّدته أخت لها خاضت ما خاضته في حقول من غمام ومن دخان وحرائق لم يُجمع كثيرون على خيرها والعكس صحيح.
معظم العناوين التي نقلت وما زالت تنقل من ميادين المواجهات أخبارها تستهلها "باندلاع" مواجهة هنا واندلاعها هناك، واللافت المستفز، يبقى ذلك الأب المجهول لفعل يتركك تتنشق ضبابًا ووهمًا، وكأن أصل ما يحدث وما سيحدث هو الغنج والولع والدلع. فمن الأخبار ينضح إجماعًا أنّها، لغاية الأن "اندلاعة"، ويبقى، كما تفضل السابقون وأفادوا، المخفي أعظم!
لن أخوض فيما تستنفره هذه الأحداث من تساؤلات عديدة موجعة ومستحثة، وأترك معالجة جلّها لفرصة أخرى وللقريبين من إحداثيّتها، فأنا، أومن بأن الصدفة والقدر عاملان هامّان في صنع التاريخ، لكنني أومن كذلك، بأن ساسة إسرائيل وحلفاءهم من صناع القرار في العالم، لن يتركوا مصيرهم بيدي صدفة تتجبر وقدر يندلع على هواه ويفسد، وهو يندلق، ما خططه هؤلاء، وخارطة رسموا حدودها بدم ولوّنوها بتعاويذ سماوية وملأوها بأنهر من نار.
فهل اندلعت، حقًا، هذه المواجهات بدون فعل فاعل؟ وهل يكفي الإيعاز، كما فعل كثيرون من هواة التسطيح وأصحاب الأجوبة المعلبة الجاهزة، بأن الأحداث انفجرت بفعل ضغط احتلالي متراكم، وبدون أن يخطط لذلك، عامدًا، فاعل أرعن وخبيث، أو عاقل مناضل حكيم؟ ومن هو المعني في تصاعد هذه المواجهات؟ ومن هو المستفيد من مشاهدها ومجرياتها؟ وقبل الإجابة أنصح أن نتذكّر، كيف كان وضع ساسة إسرائيل السياسي في العالم وفي الداخل؛ فانعدام أفق سياسي وأمل بحل واضح يضمن لشعبهم أمنًا ومستقبلًا، ويؤمن اندماجًا فيما يتشكّل من أنظمة سياسية ودول في المنطقة، خلقا لنتنياهو أزمة حقيقة لدى كثير من زعماء دول العالم وفي أوساط يهودية ذات تأثير وصاحبة مصالح بدأت تشعر باختناقها جراء مماطلة نتنياهو وزمرته وتهرّبهم من استحقاقات الفلسطينيين عليهم.
ألم نقل إنّهم ساسة لقوم يسمنون بالحرب ويهزلون بالسلم، والبقيّة ستأتي!
يزعجني ما يجري في تلك المناطق ويزعجني أكثر كيف يجري ذلك، لكنّني أستنخب ما قاله أجدادنا، وأفترض، أن أهل رام اللهوالقدس أدرى بشعابها! فهم هناك يعرفون مَن حقًا على الأيام ينتحب، وَمن، كالأفاعي لانت ملامسهم وبين أنيابهم يرتع العطب! ولكن، هناك يبقى هناك وهنا، عندنا وبيننا، يدوم الجرح ويتفاقم الوجع، فما يجري في بعض قرانا ومدننا يقلقني حتى الفزع، وكلّما أقرأ عنوانًا في موقع أو جريدة، يزف للقرّاء الأنباء عن مواجهات عنيفة بين شبابنا وقوّات الأمن الإسرائيلية وعن صدامات في شوارع تلك المدينة أو القرية، أتساءل: من ترك تلك العواطف تستشيط وتستعر؟ ومن أطلق لهذه الجنحان أفق السماء لتنطلق؟ ومن قرر أن أوان الحرب قد حان وأهاب بهذه الجموع ونادها لتسد مداخل قرية بإطارات تشتعل، وعلى الباصات المسافرة تلقى حجارة والزجاجات تحرق وتحترق؟
أدرك السعادة مَن تنبه! فمن قرر من قياداتنا وماذا؟ فعن المشتركة لم نقرأ بيانًا، ولم نسمع موقفًا صريحًا يهدي شبابنا ويرشدهم إلى كيف تكون نضالات أقلية تعيش في دولة يحكمها ساسة ونظام حكم ينزع بتعريف علمي سياسي إلى الفاشية الواضحة؟
في المقابل، قرأنا عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة بيانًا يحمّل الاحتلال الاسرائيلي مسؤولية كل تصعيد ويعد بأن أوهام الغطرسة ستتبدد! ولكننا لم نقرأ في ذلك البيان ولو نصف جملة موجّهة للجماهير العربية المواطنة في إسرائيل، كما وأنه خلا من كل موقف إزاء ما يحدث من تداعيات في شوارع البلاد، رغم ما يعبق في الأجواء من روائح الخديعة وبعض الدسيسة ورائحة الدم القريبة!
أمّا قادة حزب التجمع، فأجمعوا أن ما يحدث هو مغامرة إسرائيلية غير محسوبة، وأنهم يستشعرون نشوب انتفاضة شعبية عفوية، ويؤكدون أن كل الانتفاضات الفلسطينية منذ ١٩٣٦، بدأت من الشعب وبدون قرار قيادي! وعليه، هكذا وفقًا لقادة التجمع، على السلطة الفلسطينية أن لا تحرك ساكنًا "لأنها إذا حرّكته فلن تحركه بالاتجاه الصحيح"! وفي إشارة منهم دعوا الجماهير للمشاركة في النشاطات المحلية والقطرية دعمًا للأقصى فشعبنا، هكذا صرحوا، "سيحمي الأقصى مهما كلّف الثمن".
أدرك الشقاوة مَن غفل! ولن أناقش ما سيق أعلاه، لكنني أكرر ماقلته مرارًا بحق المؤسسات القيادية المعترف بها بين جماهيرنا، فما نشاهده في هذه الأيام يثبت مجددًا أننا نفتقر إلى قيادة حقيقية وجريئة، لأن قيادة لا تقف أمام جماهيرها وتجيز ما ينفع وتجزر ما يضر هي قيادة تعاني من جبن، وستجلب على جماهيرها النوائب والخسائر، وقيادة تتماشى وواقع مجهول الأبوة والإقامة هي قيادة منبطحة وغير مسؤولة، وقيادة تخشى المزايدات والمزايدين، هي قيادة رهينة للمقامرين.
لقد كان أكتوبر قبل خمسة عشر عامًا أسود، حين حصد فيه رصاص أجهزة "الأمن" الإسرائيلي حياة ثلاثة عشر شابًا عربيًا بريئا، في ما أسمته جماهيرنا، بمجاز ملحمي، هبّةً وأصر البعض على كنيتها بالمجيدة، ولقد مضت هذه الأعوام ثقيلةً فصار ذلك اليوم ذكرى يُحتفل فيها وقلوب أمهات الراحلين وحدها تدمى وتنفطر، بينما فلت كل المجرمين من العقاب وعاشوا طلقاء، لا بل ارتقى بعضهم من منصب إلى أعلى والأعلى، في شهادة على هذا الزمن القبيح القائح، الصارخة أيامه في شوارعنا: كفى بأكتوبر واعظًا!
[email protected]