كثيرون يتوقعون عمرًا قصيرًا لحكومة بنيامين نتنياهو الحالية وذلك ، بالأساس، لأنها تعتمد على ائتلاف ضيّق قد لا يصمد في حالة نشوء أزمة سياسية بين حلفاء الساعة، أعداء الأمس وربما المستقبل .
قد يكون هذا التكهّن صائبًا، وقد نشهد فعلًا انهيار الحكومة وعدم نجاح نتنياهو، أو بوجي هرتسوغ، ببناء تحالف يؤمّن إقامة حكومة جديدة مستقرّة ، ممّا سيؤدي إلى الإعلان عن ضرورة إجراء إنتخابات لكنيست جديدة.
تقلقني هذه الاحتمالية، فأنا من أولئك الذين يتوقعون تدهورًا خطيرًا جديدًا على الخارطة الحزبية الإسرائيلية، سيفضي، حتًما، إلى تحسين مكانة الأحزاب اليمينية اليهودية المتطرفة وتعزيز دورها على رأس النظام السياسي في الدولة.
لن أخوض في ما حرّضني على التوصّل إلى هذه القناعة، ولكن يكفي أن أشير إلى أهم هذه الدواعي، وهو عدم وجود بديل سياسي يهودي حقيقي يضع جماهير الناخبين اليهود أمام خيارات متباينة في الجوهر والمفاهيم المبدئية، والحلول السياسية الحاسمة، وبوضوح خال من تأتأة وغمغمة؛ فهرتسوغ، ومن على شاكلته في المعسكر الصهيوني، ليسوا أكثر من يمين واهن هرم، يحاول أن ينتصر على يمين أصيل واضح القول والفعل، وهم لم يتعلّموا أن الشعب في إسرائيل، ومنذ عهد بيغن، صار يؤمن "بحرّاس المقاثي" المدججين بالعقيدة والكرابيج، والمجيدين لفنون البأس والسطوة، ولم يعد تكفيه "الشراشيح" والدمى؛ وأن التقليد، في عرف شعب ساوم ربّه وربح، قد يشفع في التجارة والبضاعة، لكنه، أبدًا، لن يكفي كي تسوس قومًا ينامون على فراش من البنادق ونعالهم ترتاح في معد شعب آخر.
في رأيي أنه يجب أن لا ننتظر أزوف تلك الساعة، فما تداعى من أحداث خلال فترة الشهرين الماضيين، ومنذ بدء عمل حكومة نتنياهو- بينت يكفي لنا مؤشرًا عمّا سيتهاوى على رقابنا من ضربات، وعن فداحة الأضرار التي سنتكبدها، نحن أبناء الأقلية الفلسطينية، فيما إذا لم ننجح بلجم هذه القوى وحسر نيرانها الحارقة.
في الماضي نجح علماء المجتمعات من تشخيص آخر الأعراض التي تدلل على تفشي الفاشية وتملكها من جسم الدولة ونظام الحكم فيه؛ فملاحقة الأكاديميين وإرهابهم وقمع الفن والإبداع ومحاولات تدجيين الفنانين، كانت دائمًا تأتي كخاتمة الضربات ومغلقة حلقات الدم والشر. وهكذا أقر علماء علم الاجتماع السياسي وأكدوا أن تلك الضربة تأتي، بالعادة، بعد أن تطغى في الدولة سيادة الجيش وهيمنة "العسكرة"، وبعد أن يصير التعامل شبه مرضي في ما يسمى بأمن الدولة، والعلاقة بين المؤسسة الحاكمة والمؤسسة الدينية تصبح وثيقةً، ودفاع الدولة عن الشركات الكبرى يعكس الرباط بين السلطة ورأس المال، ويؤدي إلى إضعاف نقابات العمال، واستفحال المشاعر القومية المتطرفة، والاستهتار، بالمقابل، بحقوق الإنسان، والاعتداء على الحريات الأساسية، ورواج إجماع على استعداء هدف مستضعف وإيجاد "أكباش فداء"على شاكلة أقلية قومية أو فئات اجتماعية مستضعفة، والإعلام يمسي مجندًا وغير موضوعي وفاقدًا للمهنية والحيادية، ويتفشى الفساد ويعشش في جميع منظومات الإدارة والحكم.
فليقم كل واحد منا بمراجعة هذه القائمة، وليحاول أن يفحص مدى انطباقها على واقعنا في اسرائيل. وهل سيبقى بعد هذا مجال للتلكؤ والمزايدة والإهمال؟
هل كنا بحاجة إلى ما صدر عن وزارة إسرائيلية، قبل أيام، لنتحقق من أن في قرانا ومدننا العربية، ليس هناك من مسرح أو متحف؟ ولكننا، وهذاما لم يقله ذلك التقرير، وعلى الرغم من تلك السياسات العنصرية والإجحاف الصارخ والمزمن بحقنا، نجحنا كشعب يحب الحياة أن نجد إليها السبيلا، فرممنا ركام ثقافة أرادوا أن يدفنوها يوم نكبة ، وشيدنا، على جروح وطننا، صروح فن "ضوعت أزاهيره" في هاك الفضاء، وعلى أكتاف فناناتنا وفنانينا، رفعنا أشرعة للحرية، وسواري لحكايات علّمت الدنيا والجن، كيف من القهر يولد طائر الريح ولا يعشق إلا النجم والقمم.
ولكن، إن مع اليوم غدا، وغدنا، كما تبشر القوافل، لن يكون صافيًا ولا معطرًا بماء الورد والحبق؛ فإخوتنا عرب حنّوا إلى بطونهم، وولجوا جوف الزمان ومزقوا، إربًا، ما ورثوا، لا كاهن يستطيع أن يستجلي لأي حتف هرولوا، ولا منجّم! " والعالم" معتم ومتنور، صار، كما كان، لوحة "بورصة" تبرق، والكل بأعينه وأنوفه، يتابع ويرقب، والشاطر من يبيع عندما الأمير يأمر ومع حلول الموسم، والفالح من يشتري أذا رضي عنه خليفة وسمسار وصائد أحلام متخم.
ونحن هنا، يجب أن نكون أسرع من نوم ، وأرق من ماء، فما شهدناه مؤخرًا قد يكون بطاقة تذكير على أننا نقترب إلى خط النهاية ونقطة الحسم، ومهمازًا لجميع مؤسسات مجتمعنا وقياداته الوطنية، وفي طليعتها نواب القائمة المشتركة، للبدء فورًا في الاستعداد ميدانيًا، في جميع قرانا ومدننا، لاقتراب يوم حسم جديد، والأهم البدء بالتفتيش عن حلفاء لنا من وسط مجتمع الأكثرية اليهودية، وفتح حوارات مسؤولة وجادة لبناء جبهة عريضة قد تصد تقدم ذاك الخطر الداهم. كثيرون منكم يعرفون أن جهات كثيرة في داخل المجتمع اليهودي باتت تستشعر الخطر على نفس موجاتنا وبنفس المجسّات تقريبًا، وعلينا أن نقرر التواصل معهم، وأن نولي ضرورة التحالف معهم أولوية قصوى، حتى إذا اضطرت بعض الأحزاب العربية والحركات السياسية للتنازل عن مواقف آمنت بها واعتمدتها يوم كان هذا الوحش بعيدًا عن غرف نومنا وملاعب أطفالنا. ألم يقل الماضون: الحركة ولود والسكون عاقر!
وأخيرًا، قد يكون طبيعيًّا أن تعيش الجماهير العربية في البلاد حياتها اليومية برتابة وروتينية تفرضهما الحاجة والركض وراء لقمة العيش وإغواءات الأفضل، وقد لا تولي هذه الجماهير أكثر من ومضة إزاء ما ينمو على رؤوس شجر الغابة التي في فيئها نعيش، فالعبرة تبقى، لدى من يريد العيش، في تأمين فرصة عمل سانحة، ووظيفة في مكتب حكومة، ما فتئت تفصح وتعلن، أنها ستسعى إلى استيعاب النخب المتعلمة والطاقات العربية الفذة، وذلك في محاولة منها للتكفير عن مواضيها ومواضي سابقاتها، السود، ولجسر هوة سحيقة من الصعب أن تردم.
قد تكون الأكثرية واهمة، فالوهم كان دومًا أول الملذات، أو غافلة، ولكن واجب القيادة أن تبقى دومًا، عين الوطن الساهرة ومرساة لرحلة شعب آمنة.
[email protected]