قرأنا قبل مدّة عن استنفار بعض رؤساء محكمة العدل العليا السابقين ورئيستها الحالية، القاضية مريام ناؤور، وشاهدناهم وهم يرفعون أصواتهم محذّرين، مما تخطّطه القوى اليمينية في إسرائيل، والتي تستعد لإنزال ضربتها القاضية، وتحجيم مكانة وسلطة المحكمة العليا، وذلك في مسارين خطيرين، كما صرّح عنهما، جهارةً، بعض غلاة اليمين، وبدون خجل ولا تردد:
الأول، السعي لتغيير تركيبة اللجنة الخاصة بانتخاب القضاة، عن طريق إضافة أعضاء كنيست يمثلون قوى اليمين المتشدّد، وبذلك يتم تأمين أكثرية حزبية تكون لها الغلبة في تحديد هويّة القضاة المنتخبين ، وفقًا لولاءاتهم السياسية، وليس على أسس مهنية وموضوعية، كما هو مطلوب ومتّبع.
والثاني، العمل في الكنيست من أجل استصدار تشريع تُمنع بموجبه المحكمة العليا من التدخل في عملية التشريع، ويحظر عليها إلغاء أي قانون لأي سبب كان، حتى لو كان قانونًا عنصريًا يتعارض بشكل واضح مع مبادئ المساواة والعدل، كما قررت هذه المحكمة ونجحت في الماضي بشكل نسبي ومحدود جدًا.
لست في معرض التأريخ لمسيرة الجهاز القضائي الإسرائيلي، ولكن، لا بأس أن أذكّر بأمنيات بُناته في زمن البدايات، حين شرع، مباشرة بعد النكبة، مؤسسو ما كان حينها يعرّف بالكيان الصهيوني المزعوم، بتشييد حلمهم المستورد من أهراء الخير في أوروبا البيضاء المنتصرة على الشيطان، وسارعوا لأقامة محكمة العدل العليا وهيّأوها لتكون ساقية تملأ صحاري الشرق عدلًا زلالًا، وتفاخروا بها عروسًا تزيّن ليل مدينة لبست الحزن تاجًا والوجع؛ أرادوها حصن عدالة ضائعة، وبيت حكمة موروثة عن أجداد مضوا وتركوا للبشرية حروفًا وإغواء "عجل من الذهب"، ومنارة، تضيء سماء بلاد لم تعرف إلا الاستبداد طريقة للحكم، فاستوطن الخوف قلوب أبنائها والفقر ملأ خوابيها.
لم يدم حلم المنتصرين طويلًا. فعلى الأرض بقيت أقلّية عربية طينها من هنا، من هذه التلاع، ولم تخدعها نداءات الثعالب، ولا أوقعها شعر الفروسية والحماسة ولا دردبة الطبول؛ أقلية ساستها قيادة حكيمة مجربة لم ترقص على تناويح حداة شمألوا، ولا على لهب النشيد الذي كان يؤكد أنه على "باب قدس تدق الأكف ويعلو الضجيج".
كان الباقون قليلين، ولكنهم كانوا بحجم البرهان الكافي لتكذيب زيف الرواية وفضح هول المؤامرة والكشف عن عمق المأساة. عشرات الآلاف من سكان البلاد الأصليين حاكوا بمغازل قهرهم وملاحقتهم قصة شعب أرادوا له أن يصير كالغمام.
لم يستوعب قضاة المحكمة العليا تلك الحقيقة، تجاهلوها وتنكّروا للواقع، فصاروا حكّام محكمة مستعلية سقط العدل عنها، فطفقوا مع قادة الدولة الوليدة المنتشين بخمر نصرهم، يعزفون على "قوانينهم" ألحانا أدمت قلوبًا ومزقت الأوتار.
دروب آلام المواطنين العرب في هذه البلاد مرّت من أروقة هذه المحكمة، وسيأتي يوم يقوم فيه الباحثون باقتفاء مواطن الظلم الذي عشش في صدور قاعاتها وقضى على آمال كثيرين استنجدوا بعدل قضاتها، ساعة كان هؤلاء، فعليا، كإخوتهم، مستريبين من مجرد بقاء مواطنين عرب في دولة تمنوا لو جاءت يهودية خالصة.
لا شيء كالعنجهية يعمي عيون البشر ويجرد القلوب من دفئها. وأنصاف العدل كانت دومًا دروبًا للشيطان وأعوانه الظالمين، هكذا كان منذ بدأ الانسان مسيرة الحضارة والتقدم، وإسرائيل، مهما تجبّرت، لن تشذ عمّا علّمنا إيّاه التاريخ وبكاء الجن على الأرض! ففي كل قضيّة خاطبنا فيها قضاة المحكمة أكدنا أننا كأقلية مستهدفة قد نكون أول الضحايا، ولكننا لن نكون آخرها، وأكدنا لهم كذلك، طيلة عقود، أنهم، ساعة يفتحون الأبواب ليمرروا قانونًا عنصريًا بحقنا، نحن العرب، وليسوّغوا قرارًا تعسفيًا ضدنا، يشرّعون عمليًا، بوابات للظالمين ويزرعون أجنّة للشياطين التي لن تترك أحدًا لن يسجد لها صاغرًا حزينًا.
ومضت سنوات القحط عجافًا سبعًا وراءها ستون حتى بدأ مؤخرًا بعض قضاة المحاكم وآخرون ينحدرون من شرائح عديدة في المجتمع الإسرائيلي، يشعرون بانتشار تلك الأعشاب السامة في كل جهة وناحية، وبدأوا يخافون حصارها الخانق.
منذ سنوات بدت صورة المجتمع الاسرائيلي تتكشف بعوراتها والبلطجيون تقدموا حتى باتوا على عتبات البيوت، ولم يعد يهمهم تاريخ ضحيتهم ولا مكانتها، فكل آخر مغاير هو عدو، وكل من ليس معهم فهو ضدهم ويصير هدفًا ملاحقًا حتى الركوع أو الفناء.
عشرات من الاعتداءات مرّت كسحابات صيف، لم يكترث لها أحد،فلقد كانت ضحاياها عربية لم تسترع رمشة أو تنهيدة، ولكن عندما حاولوا قتل مفكر عالم كزئيف شطيرنهال بدأت وساوس الخوف تحرك بعضهم، وعندما هاجم وحش من سائبة تلك الفرق بيت يهونتان جيفن وهو رمز من رموز ثقافتهم وأيقونة صهيونية خالصة واعتدى عليه مباشرةً، استُنفر بعضهم الآخر، وعندما اعترضوا درب أحينوعام نيني وهي من خيرة وأشهر مغنّياتهم تأهب بعضهم وخاف.
ها هو صوت الخوف يجلجل في بعض جيوب المجتمع الإسرائيلي، فمئات مثل رئيس المحكمة العليا السابق،أهرون باراك، لا يخفون قلقهم من الهاوية التي بدأوا يرونها قريبة، ومن محاولات تدمير ما تبقى من بقايا قيم إنسانية سينتهي أجلها عندما سينجح المستبدون الجدد بتدجين قضاة المحكمة العليا علمًا بأن بعضهم دخلوها مدجنين آمنين.
أمّا نحن، عرب هذه الديار، فلن يفيدنا الخوف، ولكن سنستفيد حتمًا إذا تحالفنا مع من صحوا منهم وباتوا يخافون على مصائرهم ومصائر أولادهم.
[email protected]