في ساعة مساء مشبعةٍ بروتين “قدسيّ” مُتعِب، غادرتُ منزلي متأبّيًا أن أبقى فريسة لما تعرضه شاشات الفضائيات العربية من مشاهد عمّا اصطلح على تسميته “ثورات الشعوب”.
“قتلوا جوليانو خميس”، أنبأني صديقي. صوتُه كان عاديًا، فيه بقايا جرح ولوعةٌ أدمنها. لم يعرف صديقي جوليانو ولا سمع كثيرًا عنه، لكنه خَبِر، قبل سنوات، كيف ينتزعُ موتٌ قلبَك ليبقيكَ على حافة الحياة. لم أستوعب ما قاله. استطرد: “أطلق مجهول عليه بعض رصاصات في شارع عمومي في جنين”. طلبتُ أن أقفلَ المحادثة متمتِمًا: نعم كنت أعرفه!
أيّ عبث هذا؟ وأي حصار؟ لا مكان إليه ألجأ. أهرب من شاشات أدمنت تعاطي قشور الحقيقة، تمضغها وتبصق في حيّزنا ما يكاد يقضي على عطر الربيع وشذى ياسمينة المبرعم. أهرب إلى أين؟ لا ملجأ ولا خيمة!
لم أكن بحاجة إلى ضحيّة لأستوعب أن ساحاتنا كانت وستبقى هنا. في “صفد”، كما كتبت، وفي “جنين” التي على مسرحها ربّى جوليانو الأمل فامتصَّه بطلاً مضرجًا لمأساتها.
فلسطينُ أختٌ لليمن وسوريا برضاعة حليب السماء. لا مهرب ولا مخرج، “فيَمَنٌ” هنا وما فيها فينا، قاتُهم قاتُنا وخنجرهم بارودنا! هل حقا؟
من يمنٍ حاولتُ الإفلات. والرواية تؤكد أنه، في ماضي الزمان، كان اليمنُ سعيدًا. واليوم تتحزَّم السعادة كروش وأوساط شيوخ قبائل، يخبئونها على أنصال “جنبيّاتهم” (وهي الخناجر اليمنية الأصيلة) ويغمدونها، فيما حَسُن من خشب الصنوبر المزركش. موروث يمني أصيل حمل ما حمل من تاريخ قبائل تحالفت، وأخرى تناحرت، وحمل غبارَ الهياكل وجهلَ العمائم. قبائل، كادت الدولة الفتية أن تصهرها لتصبح شعبًا ويصيرَ اليمنُ دولة.
تعشَّمنا الأمل من يمنٍ، أسوة بأختيه تونس ومصر. سارعنا بالتسمية من باب عدوى تمنيناها. هي ثورةٌ، حسمنا، وإذ بها على حدِّ نصل، وأمنية تنسمناها وإذ بها محشوة في غمدٍ. “فهل يغمد السيفان ويحَكَ في غمد؟”.
من خنجر يمني أهرب فيصرعني رصاصُ جنين. هي “ثورة” باسمها تصطف جيوش وتتجنَّد سماوات وباسم حرية تزهق أرواح وتذبح بلاد.
“رويدك لا يخدعنّك الربيعُ وصحوُ الفضاء وضوءُ الصباح”، كان صياح التونسي لعليٍّ بنِ صالح وأشكاله، هناك في الميادين البعيدة. وهنا هو الحسرة على من استأمن وآمن أن لا ربيع ولا صباح، إلا إذا حلّا على جميع “أولاد آرنا”. هكذا آمن فصرعته رصاصات مَن إيمانُه أشدُّ وأقوى! رصاصات الغدر.
“ثورة” أم “فورة” يبقى السؤال وتثقل الأحجية. لا مهرب ولا مخرج، “فزنقتنا” واحدة وإن اختلفت دلالات المعاني، فكلها تضيق وتتشابه لأن النبعَ هو النبع، فهل حقاً؟
دقائق مرت وأنا أقود سيارتي. بلا شعور محدد. لا خوف، لا حزن ولا دهشة. لحظات بيضاء، بعدها، ومن قلب البياض، شخصت أمامي الوسامة وجمال الرجولة الخالصة. كان وجه جوليانو مليئًا بالقلق والثقة معًا. بعض “زهور الحكمة” خالطت بستان رأسه الأسود. عندها استعدت مقدرتي على الخوف وتملَّكَتني الحسرة.
كان مختلفًا، لا يتركك إلا وبك قسط من تحدٍّ وإغواء التسلق على سلم، صحَّت تسميته بـ”سلم جول”. حب، إقدام، ابتكار، سخرية وإيمان بسعادة الآخر لتكتمل سعادتك. فردوس على مصراعيه مفتوح لكل إنسان، زهرة وبسمة.
حسرة حارقة لم تفارقني، لكنها سرعان ما اختلطت بنوع ما من الراحة وحتى الابتسامة. كان استذكاره مهدِّئًا وكأنه يلح ويقول: “لا تحزن ولا تتأسَّ، فأنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضرَّ ثانية وفي موتي حياة ما ….”.
عساها كذلك! ربما يا جول بموتك تخضرُّ حقول جنين وأخواتها. فها هو موتك استفز من في عروقه دماء وبعض إنسانية وخوف من هسيس الجنِّ يتربَّص على شفا هاوية.
بين وجع وحسرة قدت سيارتي في شوارع القدس التي بدت كسيدة ألقيت على حافة طريق بعد عملية اغتصاب جماعيّ.
أفكر بلا شيء أحيانًا، وأفكر بكل شيء أحيانًا. اختناق، احتقان، حصار وهوامش تشطب. وأعود للتونسي الذي قال: “ففي الأفق الرحب هول الظلام وقصف الرعود وعصف الرياح!”.
أهيم ولا أعرف كم، لأعود إلى بيتي واجمًا.
تلفازي أخرسُ بلا صوت. شاشته، كما تركتها، تنقل بتكرار مهين مشهد الرئيس بشار الأسد، الوارث الوحيد لدولة ونظام حكم في العصر الحديث. يدخل ما يسمى مجلس الشعب في الجمهورية العربية السورية. مائتان وخمسون جسمًا، تخيلتهم كالكرشات والفوارغ. تنتصب على قواعدها بلا رؤوس وتهتز بما حشيت من ولاءات وزيف. تتراقص بإيقاعات ثابتة وأيدٍ تنفتح وتنغلق كجناحي ذبابة. أحدِّق. أتقزَّز. إنه الغثيان.
ثوان معدودات كانت كافية لتعيدني إلى حبة القمح وصوت التونسي، فلأولئك في الشام وأخواتها قال: “حذارِ فتحتَ الرماد اللهيب ومن يزرع الشوك يجني الجراح”.
أعود إلينا هنا، إلى ساحاتنا وإلى من يزرع الأمل والحب والحياة، إليك يا جول الحاصد الخلود والبقاء لأنك حتمًا ستصير ما تريد. لقد رحلت مغدورًا وأنت تنشد: “سأصير يومًا فكرةً. لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب، ولا كتاب.. كأنها مطرٌ على جبل تصدَّع من تفتُّحِ عشبةٍ، لا القوة انتصرت ولا العدل الشديد. سأصير يومًا ما أريد”.
قوتُك/قوتُنا لا يشبه قاتَهم. وردتُك/وردتنا لا خنجرهم. نبعك/نبعنا لا حراؤهم. فارحل وسيمًا، كما كنت وستبقى، فأمثالك لا موت يقهرهم."
[email protected]