يبحر معين أبو عبيد عبر مقالاته في بحر الحياة، يغوص في أعماقه متخيّرًا ما ينسجم أو لا ينسجم مع أخلاقه، مبادئه، وتربيته التي نشأ عليها، فيسطّره في هذه الصفحات داعيًا للتشبّث بما يراه من مكارم الأخلاق، أو منفّرًا عن كلّ سلوك مشين، يوجّهه في ذلك ما عهدته فيه من فكر نيّر وغيرة تكاد تأكله على بلده ومجتمعه العربيّ خاصّة، والمجتمع الإنسانيّ عامّة، لتأتي مضامينه مخاطبةً عقل القارئ وقلبه، مؤكّدًا انتماءاته العديدة التي يجاهر بها بصراحة تامّة دون تلوّن أو زيف أو مراءاة.
يظهر في مقالاته مصوّرًا فوتوغرافيًّا حاذقًا لمهنته، يتجوّل بعدسته فينقل مشاهد بانوراميّة من مجالات الحياة وميادينها المختلفة، ولا تقتصر كتابته على مضمون واحد، إنّما تدور حول مواضيع عديدة ومتشعّبة؛ خاصّة وعامّة، ولمّا كانت مدينته شفاعمرو هي الأرقى في سلّم أولويّاته، فقد أفرد لها كمًّا هائلًا من المقالات بثّ فيها كلّ ما يؤرّقه من هموم تشغل باله حرصًا على مدينته ومكانتها العظيمة التي حظيت بها على مرّ الزمان.
ونظرًا لارتباط المدينة بأهلها والمجتمع الذي يعيش فيها فقد جعل مساحة واسعة من كتابه للمقالات الاجتماعيّة، راصدًا فيها ما يعاني هذا المجتمع من آفات عديدة على اختلافها، وداعيًا لضرورة معالجة تلك الآفات، لينعم أبناء مجتمعه بحياة رغيدة، آمنة، مطمئنّة، أسوةً بما درج عليه الآباء والأجداد ومن سبقهم.
يبدو معين كاتبا صريحا، لا يراوغ، ولا يداهن، ولا ينافق، وهو ينطلق في كتاباته من مبادئه التي شكّلتها تجربته الحياتيّة، لا ينتظر مدحا أو تقريظًا من أحد، وفي نفس الوقت، لا يخشى لومة لائم أو غضبه، تزينه ثقة عظيمة وجرأة بالغة على نقل صورة جليّة صادقة لما يراه من ممارسات وسلوكيّات، سواء صدرت عن أحد أبناء مجتمعه، أو أيّ كان من طاقم الموظّفين والمسؤولين في السلطة المحلّيّة (البلديّة)، أو أحد كبار السلطة المركزيّة في البلاد (الحكومة)، فلا يهمّه سوى تعزيز كلّ ما هو إيجابيّ، ونبذ كلّ ما هو سلبيّ في نظره، ولا يبالي إلّا بإعادة الحقّ إلى نصابه.
تطغى على مقالاته النزعة المحلّيّة التي تستحوذ على مساحة واسعة من الكتاب، إيمانًا منه بأهمّيّة معالجة القضايا المحلّيّة والملحّة في مجتمعه أوّلًا، لينطلق فيما بعد، إلى قضايا إنسانيّة عالميّة مصيريّة ومقلقة، مستعرضًا إيّاها ومبيّنًا موقفه من كلّ مسألة أو قضيّة يثيرها، دون أن يطرأ على مواقفه ومبادئه أيّ تغيير، إذ يسعى في كلّ ما يكتب إلى احترام حرّيّة الإنسان ونبذ كلّ المظاهر السلبيّة المهدّدة لحياة الإنسان من ظلم، استغلال، اعتداء، عنف، أو أيّ سلوك مشين آخر.
هو في كتابه أشبه بنحلة دائبة على جمع أشهى الرحيق، تنتقل من زهرة لأخرى متخيّرة أجملها وأطيبها رحيقًا، فهو يغرف من بحر الحياة كلّ ما راق له، يلجأ تارة إلى التعبير عمّا يجيش في صدره من مشاعر فيبثّها في خواطره التي تعكس الكثير من آرائه ومبادئه في الحياة، ويلتفت طورًا لذاته وعلاقاته الخاصّة ليسطّر قلمه ما شاء له، مؤكّدًا قوّة علاقته بأمّه وأسرته، تلك العلاقة التي تتناغم مع مواقفه الإنسانيّة الرفيعة، فيثبت عددا من الأحداث العالميّة المؤسفة لتأتي شاهدة على العصر وعلى تشيُّؤ الإنسان وتجرّده من المشاعر تجاه أخيه الإنسان الذي ينوء كاهله تحت أثقال المعاناة والعذاب وانتزاع حقّه في الحياة، ممّا يؤكّد قوله في أحد مقالاته، وهو استحقاق الناس لشهادة موت ضمير البشريّة!
الكتابة لدى معين بمثابة إكسير لحياته، يرتبط بها ارتباط الوليد بحبل السرّة، فلا غرو أن يتناول في بعض صفحات الكتاب موضوع الكتابة وعلاقته بها، مبرّرًا سبب انقطاعه لها وأهمّيّتها في حياته، كما يلتفت لمناقشة بعض أعمال زملائه الكتّاب مبيّنًا رأيه فيها بكلّ صراحة دونما مواربة أو رياء.
يراعي معين في كتابه أقدار المعاني ويجعلها تتناسب مع أقدار القرّاء عل اختلافهم، وعليه فهو يختار توظيف اللغة المعياريّة البعيدة عن الزخرفة اللفظيّة والمحسّنات البلاغيّة، فتأتي لغته، في معظمها، تقريريّة مطعّمة ببعض الألفاظ المجازيّة القريبة من مدارك القارئ العاديّ ومحيطه، اللهمّ إلّا في بعض المقالات والخواطر التي يلجأ فيها إلى توظيف لغة سماويّة تتدفّق مجازًا وبلاغةً دون الإثقال على كاهل القارئ.
إنّ المتتبّع لما جاء في الكتاب يدرك مدى اطّلاع الكاتب على الحياة الفكريّة والأدبيّة في العالمين العربيّ والغربيّ، يدلّنا على ذلك كثرة المتناصّات من آراء ومقولات المبدعين التي يوظّفها في بعض مقالاته ليعزّز فكرة ما، أو يدعم رأيه بمثل هذه الأقوال، ناهيك بما يستقيه من آيات القرآن الكريم أو أحاديث الرسول محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) المنتشرة في تضاعيف مقالاته، وممّا يؤخذ على الكاتب والكتاب تكراره الكثير لبعض القوالب التعبيريّة التي نشهد حضورها في عدّة مقالات مثل، "في ليلة حالكة الظلام"، "لعلّ وعسى"، "بحقّ وحقيقة"، "ناسين ومتناسين"، "قولًا وفعلًا"، ونحو ذلك، إضافة لتكرار بعض المضامين في أكثر من مقال كالحديث عن الكتابة وغيرها من المضامين التي تستحوذ على فكر الكاتب.
وبعد، فإنّ هذا الكتاب يعكس فكرًا نيّرًا وغيرة محبّبة على مستقبل البلد، المجتمع، والإنسانيّة لما يتضمّن من دعوة صادقة والحثّ على اتّباع ما هو في خير الناس جميعًا، ونبذ كلّ ما يسيء لنرقى بسلوكنا وتعاملنا إلى أعلى المستويات، إضافة لاعتباره، في بعض مضامينه، وثيقة تاريخيّة لمدينة شفاعمرو ومجتمعنا العربيّ.
نبارك للأخ معين هذا النتاج الذي يعدّ أوّل غيثه، وباكورة نتاجه، منتظرين ما سيأتي مستقبلًا.
دأ. محمّد صفّوري
[email protected]