إن انضمام أبراهام بورغ إلى عضوية الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة يُسجّل، برأيي، لغاية الآن، كأهم حدث جرى بين العرب، في هذه الدورة الانتخابية، وإن كان البعض يصلي من أجل نسيانه أو يعمل على تهميشه أو يجتهد لتوظيفه في نظريات المؤامرة الدائمة، أو يلقيه محترفو حلقات الوهم حطبًا على حرائق المزايدة والتقريع الأجوف.
ما استقطبته هذه الخطوة من كتابات وتعليق في الوسط اليهودي يدلل على ما استشعرته المؤسسة الصهيونية الكلاسيكية، وما عنت لأقطابها هذه الخطوة الشجاعة والهامة. فبورغ سليل عائلة عريقة في التدين والتصهين، كما مارس ذلك أبوه قبل النكبة وبعدها. وهو منذ شبابه كان ناشطًا سياسيًا مشهورًا، وتبوأ في مسيرته مناصب تجسد مفاهيم الصهيونية وانتصاراتها على إرادات العرب. لقد كان عضو كنيست لسنوات طويلة عن حزب العمل، وشغل منصب وزير في حكومة إسرائيل، كان رئيسًا منتخبًا للكنيست، ورئيسًا للوكالة اليهودية وللهستدروت الصهيونية؛ ولذلك خاف من خاف من الصهاينة وخونه بعضهم.
لهذه الخطوة أبعاد كثيرة وقد تكون ذات أهمية مفصليّة، ولكن إلى أن ينكشف بر الوحدة الذي تفتش الجماهير عنه، أدعو الجبهة أن تفاخر بهذا الإنجاز اللّافت وأن لا تتعامل معه بخجل وبتورية وبتردد، فانضمام هذه الشخصيات إلى معسكرها هو المراد والمبتغى، خاصة من يعلن، اليوم، مثله، على الملأ أن: "على إسرائيل أن تقرر إن هي دولة حضارية كفرنسا أو دولة دم كألمانيا الرايخ-النازية".
للجبهة حق أن تزيدها هذه الخطوة ثقة بصحة طريقها التاريخي، وحصانة لاختياراتها المستقبلية، وعليها واجب لضخ مجهود أكبر في هذه الميادين والفوز بأكثر من "بُرج"، فدومًا كانت القلاع أقوى بأبراجها.
لقد كانت كلمة النائب محمد بركة في افتتاح جلسة المجلس القطري للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في الثالث من الشهر الجاري، مركزيّة وشكّلت، برأيي، في سوق الكلام العامر والعابر، علامة فارقة ومميّزة؛ فممّا قرأته تبيّن أن بركة، وهو رئيس الجبهة وزعيمها، شرح بإسهاب عن رؤاه الحزبية، وباسم الجبهة رسم ملامح الأرق بجدارة، وشخّص بواطن الوجع بدراية، واستشرف، -وهو قائد عرفت سياط الجند والشرطة الإسرائيلية صلابة جلده مذ كان طالبًا يقارع صغار "المستفشيين" الذين صاروا بعد ثلاثين عامًا أصحاب الحل والربط في إسرائيل- عناوين هذه المرحلة وما قد تفضي إليه من مخاطر تبدو اليوم كالمناجل "ستحصد من شهب الدجى نرجسا"، وأكّد أن هذه الانتخابات تجري "على مستقبل الجماهير العربية كصاحبة وطن ولها حقوق متساوية، وعلى القضية الفلسطينية ومستقبلها".
لا أعرف تفاصيل ما أنجز من تفاوض واتفاقات بين الفرقاء العرب، الذين لبّوا نداءات الجماهير الداعية إلى وحدة عربية وصفها كثيرون أنها ستكون، في هذه الظروف، غلّابةً، فهي ليست وحدة برلمانية فقط، بل "خطوة هامة ومؤسسة في اتجاه بلورة مشروع فلسطيني موحد للداخل"، كما أعلنت بصراحة متناهية النائبة حنين زعبي، وأضافت، بما يستدعي التوقف عنده، وقالت:" هنالك مفترقات تاريخية علينا أن ننتهزها لصالحنا والفلسطينيون في الداخل يعيشون إحداها، إذ أن الوحدة في قائمة مشتركة، تحافظ على البرامج السياسية المختلفة لكل منا، هي ليست مطلب الساعة فقط بل هي أيضا ما ينقلنا استراتيجيًا إلى موضع سياسي آخر..."ما زال التنبؤ بمصير محاولات الأحزاب والحركات العربية والإسلامية، تشكيل قائمة عربية واحدة، أو واحدة مشتركة مع يهود، أو قائمتين أو أكثر، يعد ضربًا من ضروب التكهّن والمقامرة، فمن الواضح أن معظم المتحمسين والمشاركين في عملية التفاوض، أو التماحك أو التآمر، ما كانوا ليفعلوا ذلك لولا قرار إسرائيل برفع نسبة الحسم وخوف بعضهم أن لا يجتازوا، في القوالب السابقة، هذه العتبة. فكيف يمكن أن تبنى قائمة واحدة مشتركة تحافظ على البرامج السياسية المختلفة لجميع الفرقاء؟ وكيف سيكون بمقدور هذه القوى أن تعمل موحّدة إذا كانت مرجعيات عمل كل واحد منها مبنية على برامجها السياسية الخاصة والمختلفة من حيث مصادر الإلهام والاسترشاد، إن لم تكن متناقضةً مع الآخرين، (للوقوف على المزيد، اقرأوا أيضًا ما كتبه القيادي في الحركة الإسلامية السيد منصور عباس شارحًا معنى مركزية الوحدة في فكر الحركة الإسلامية).
استعان البعض في تبرير لزوم وحدة الأحزاب العربية الشاملة بفرادة هذه المرحلة وكونها تاريخية بامتياز، وكأن ما سبقها في تاريخنا كان من خيال ورمل، أو ما سيصير تاريخنا حتمًا سيخاط من تبر وحرير. لقد كُتب التاريخ مع كل همسة ويكتب مع كل لمسة وسيكتب في قعر كل قرار، وهو يضحك في وجه من استقرأه واستشرفه واستفاد، ويبكي على كل غافل أو عابث أو مختال.
من يظن أن الوحدة المرجوة بمفهومها القبلي ستعمل عمل الندّاهات حين كن يستفزعن الربْع ويستغثن بالأجاويد على طريقة يا "سامعين الصوت، وجاي يا غلمان جاي"، سوف تقهره الغفلة ويميته الاستبساط، لأن عكوف العرب عن التصويت للكنيست وراءه عوامل أكثر عمقًا وتأثيرًا من نداء نجدة واهن، ولذلك تجدني متمسكًا برأيي أن قائمة عربية واحدة لن تسعف باستثارة الجماهير بشكل ثوري، وستظهر لنا الأيام أننا أضعنا فرصةً، وسيضحك التاريخ من جهلنا مجددًا أو ربما من تعامينا، والى ذلك الحين، سأعبث، على طريقتي، وأسألكم جميعًا: ما دمتم على وفاق، وما دام حبل المودة والاحترام بينكم موصولًا، فما رأيكم بقبول محمد بركة رئيسًا للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية وهو الكفيّ والأهل والمجرب والقادر على النهوض بها من جديد ؟
لقد استوقفني من كلام بركة الهام، تصريحه الواضح وتأكيده أن "الجبهة تتجه إلى هذه الانتخابات، من أجل أن تطرح برنامجها المتميز، الذي لا يشاطرها فيه أحد على الساحة السياسية .. برنامج يعتمد أسس حل الصراع، والمساواة والعدالة الاجتماعية، بسياسة تعتمد على التركيبة العربية اليهودية".
هل حقًا؟ فها هو بورغ وغيره يفتحون كوّة صغيرة في جدار القهر والعنصرية العمياء فهل ستوسّعونها... أما نحن فسننتظر برنامجكم المتميز.
[email protected]