هناك ما يشير إلى أن ضم الغور وشمال البحر الميت والكتل الاستيطانية ليست مجرد دعاية انتخابية، مع أنّ حمّى الانتخابات تزيد من أوارها، لدرجة أن الكتلتين الكبريين بزعامة بنيامين نتنياهو وبيني غانتس تتنافسان فيما بينهما على من هو صاحب الفكرة، ومن سينفذها أولًا. فعندما تعهد نتنياهو قبل الانتخابات في أيلول الماضي بالضم بعد الانتخابات، قال قادة من حزب "أزرق أبيض" "إنه سرق فكرتنا".
هذا ليس غريبًا ولا مفاجئًا بعد أن بات التنافس ينحصر بين اليمين واليمين في إسرائيل، لدرجة أن حزب ميرتس الذي لا يزال يمكن اعتباره حزبًا يساريًا، سيخوض الانتخابات القادمة بقائمة واحدة مع حزب العمل الذي تخلى عن "يساريته" السابقة، رغم الخلافات بينهما، لأنه يخشى من عدم تجاوز نسبة الحسم .
إن ضم الغور وشمال البحر الميت وغيرهما من مناطق الضفة الغربية سيكون تحصيلًا حاصلًا، إن لم يكن اليوم فغدًا، خصوصًا إذا فاز نتنياهو وترامب في الانتخابات القادمة، وبقيت بقية العوامل المؤثرة حاليًا على ما هي عليه.
إنّ سياسة الضم مجرد استمرار لما قامت به الحركة الصهيونية منذ أن أقامت المستعمرة الاستيطانية الأولى في فلسطين وحتى الآن. فهي تبدأ عادة بمصادرة الأراضي، وتهويدها، وتشريد سكانها، ومن ثم الضم الزاحف، وتطبيق القوانين الإسرائيلية فيها تمهيدًا للضم القانوني، الذي يغدو تحصيلًا حاصلًا بعد أن تكون إسرائيل قد استكملته فعليًا بصورة تدريجيّة خبيثة.
وما حصل سابقًا قابل للتكرار، فقد قامت إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، أي أزيد بنسبة 24% من المساحة المخصصة للدولة اليهودية في قرار التقسيم، ثم احتلت بقية فلسطين في حرب 1967، واعتبرت في البداية أراضيها أراضي متنازعًا عليها ومطروحة للتفاوض، وليست محتلة، وواصلت خلق الحقائق الاحتلالية الاستيطانية بشكل يومي، إلى أن أصبح الواقع يسمح للمستوى الرسمي في السنوات الأخيرة بالتصريح بأنها محررة، وجزء من أرض إسرائيل الموعودة.
بتنا الآن قريبين من الضم، فهناك أكثر من 800 ألف مستعمر استيطاني في الضفة المحتلة، وهناك مخطط لرفع العدد إلى مليون كما صرح نفتالي بينيت، وزير جيش الاحتلال، الذي دعا أيضًا إلى تسجيل الأراضي في "يهودا والسامرة" من قبل الإسرائيليين في وزارة العدل، وليس في الإدارة المدنية التابعة لوزارة الحرب المسؤولة عن الأرض المحتلة، كما قرر بناء مستوطنة في قلب الخليل، وإقامة 7 محميات طبيعية وتوسيع الـ 12 القائمة، إلى جانب مشاريع قوانين أعدت أو سيجري إعدادها لضم أراضي من الضفة.
بعد كل ذلك، نسمع من بعض الفلسطينيين والعرب من يقول إن كل هذا مجرد دعاية انتخابية، فإسرائيل لا تريد أو لن تجرؤ على ذلك خشية من محور المقاومة، أو نظرًا لتداعيات الضم القانونية، خصوصًا بعد أن قررت المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق حول جرائم إسرائيل، وبانتظار رأي المحكمة الابتدائية، خصوصًا إذا قررت أن من اختصاص "الجنائية" التحقيق في الجرائم الإسرائيلية، وكذلك لتداعياته على الأمن والاستقرار في المنطقة، لأن السلطة لا تحتمل هذه الخطوة، وقد تقابلها بإلغاء الاتفاقيات، أو حل نفسها والانتقال إلى تجسيد الدولة المعترف بها أمميًا، وهذا سيدخلها في مواجهة مع الاحتلال يمكن أن تتسبب في انهيارها، إضافة إلى أن الأردن قد يلغي معاهدة السلام مع إسرائيل.
ويعزز رأي القائلين بعد قيام إسرائيل بالضم بأنها تمر بأزمات كبرى لن تمكنها من ذلك، كما تخشى من خطر القنبلة الديمغرافية .
نعم، كل هذه العقبات قائمة ولا يستهان بها، ولكن الحكومة الإسرائيلية مستفيدة من الدعم الأميركي غير المسبوق، ومن الضعف والانقسام الفلسطيني والحالة العربية، وتعتقد أن لديها فرصة تاريخية لاستكمال إقامة "إسرائيل الكبرى"، وخصوصًا بعد تهجير نصف سكان المناطق المصنفة (ج)، وفرض السيطرة عليها بحجج أمنية وعسكرية منذ الاحتلال وحتى الآن.
كما يؤكد احتمالية الضم تنظيم حملة إسرائيلية لتمهيد الأجواء له، ومن ضمنها تحركات متعددة تهدف إلى دفع المحكمة الجنائية أو السلطة أو كلتيهما إلى التراجع عن محاكمة جرائم الاحتلال، وتسعى إلى إقناع الدول بعدم الاستجابة لقرارات "الجنائية" إذا صدرت وطالبت بتسليم إسرائيليين لها. بل لقد دعت أوساط سياسية إسرائيلية بضرورة العودة إلى طرح خطة الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، ولو تطلب الأمر الإطاحة بالملك الأردني، وإشاعة الفوضى في الأردن لتعبيد الطريق لتحقيق هذا الهدف.
وحتى نبرهن على خطورة احتمال الضم، نشير إلى ما كتبه الصحافي الإسرائيلي رفيف دروكر، في صحيفة "هآرتس" منذ أيام، حول سؤاله لأحد قادة حزب الليكود عن سبب تخطيطهم للضم، مع أنه أمر خطير وله تداعيات قانونية ودولية، وعلى الفلسطينيين، وعلى العلاقات مع الأردن والمنطقة، فأجابه: إننا سنفعل ذلك لأن لدينا معلومات أن حزب "أزرق أبيض" كان يستعد لإعلان التزامه بالضم، فسبقناه.
ويضاف إلى ما سبق، ما كتبه الصحافي الإسرائيلي بن كسبيت بأن غانتس وحزبه في حاله غضب بعد الأنباء الواردة من واشنطن، التي تأكدت بتصريح من مستشار ترامب للأمن القومي، حول أن البيت الأبيض سيطرح "خطة ترامب"، على الأرجح، قبل الانتخابات الإسرائيلية، فيما اعتُبر من جانب "أزرق أبيض" أنّه تدخل مباشر في الانتخابات لصالح نتنياهو. وأشارت آخر الأنباء إلى أن ترامب سيقرر خلال هذا الأسبوع طرح خطته قبل الانتخابات من عدمه، وإذا طُرحت ستزيد من احتمالية فوز نتنياهو وفرص الضم.
ويأتي اعتراض "أزرق أبيض" ليس على مضمون خطة ترامب، وتنكرها التام للحقوق الفلسطينية، بل على أن توقيت طرحها بما يخدم نتنياهو، ولذلك إذا فاز غانتس ومعسكره، سيأخذ الضم أشكالًا أخرى، ولذلك تصب في نفس الاتجاه.
وحتى تظهر أبعاد وجدية الخطر القادم، واصل مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، حديثه عن قانونية الاستيطان، وأن هذا الموقف الأميركي الجديد يخدم السلام، وتبعه ديفيد فريدمان، سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، بتكرار ما قاله سابقًا حول حق إسرائيل في ضم أجزاء من "يهودا والسامرة"، وأن هذه أرض إسرائيلية حُررت من الأردن.
إن من ضَمَّ القدس والجولان، سيقوم إذا توفرت له الظروف الملائمة بضم الغور والكتل الاستيطانية، وصولًا إلى معظم أو كل مناطق (ج)، لأن الردود الفلسطينية والعربية على الخطوات السابقة لا تزال ضعيفة، ما يشجع على القيام بخطوات جديدة.
ولإحباط الضم، لا بد من اتخاذ خطوات فورية تبدأ بالتمسك بهدف إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال للدولة الفلسطينية، لوجود رفض سياسي وقانوني عربي وعالمي للاحتلال، وتمر باعتبار الوحدة أولوية، والشروع في تطبيق قرارات المجلسَيْن المركزي والوطني حول إعادة النظر في الالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية مع إسرائيل، والاستعداد الفعلي لتغير المسار كليًا، وعدم الاكتفاء بالتهديد بذلك، وتوفير شروط الصمود والتواجد البشري، والمقاومة، والمقاطعة، ولا تنتهي بتنظيم جبهة عالمية، عربية إسلامية دولية، ضد الضم.
هناك منطق خاطئ يتصور أصحابه على "طريقة أبو النحس المتشائل" "أنه إذا ما خربت ما بتعمر"، وأن الضم خطوة ضارّة ربما تكون نافعة، لأنها تجعل الصراع مفتوحًا، وتجعل الصراع بدلًا من إقامة الدولة على حدود 67، صراعًا على دولة واحدة إما أن تكون أبارتهيد أو ديمقراطية.
إن القفز أو التهرب عن خوض المعركة الجارية حاليًا، التي تتمحور حول الضفة تحت أي ذريعة؛ يساعد على تحقيق الأهداف التوسعية الاستيطانية العنصرية. المطروح حاليًا ليس حل الدولتين، ولا حل الدولة الواحدة، وإنما سيادة دولة واحدة تريد ضم الأرض، مع أقل عدد من السكان (أي لا تريد ضمهم)، إلى أن تتوفر فرصة مناسبة لتهجيرهم إلى الأردن، وغزة بعد توسيعها من سيناء، وإلى مختلف أصقاع الأرض. فهل ندرك ما يخطط لنا ونحبطه عبر اتخاذ الخطوات اللازمة، أم نبقى ننتظر إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
[email protected]