أيقونات الحريّة
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون خلف القضبان لاهتمامي بما يكتبه السجناء وبأدب السجون؛ زرت أحمد وكميل وعاصم، باسم، حسام وسائد ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تواصل معي المئات، من البلاد والشتات وشدّني ما كتبَتهُ الصديقة الكاتبة سلوى جراح: "ليت المتصهينين وهم كثر في هذا الزمان يفهمون معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال، هو لم يعُد احتلالا حتى بل حق في أرض سكنها غرباء وادعوها لأنفسهم" وتبقى قضيّة أسرانا السؤال الصعب ونتهرّب من مواجهة الإجابة عليه!
"حياتنا كلّها ميّ وملح"
حين بدأت مشواري بلقاء أسرى يقبعون خلف القضبان ويكتبون، أوصى جميعهم بلقاء كريم، وفي طريقي خارجًا من غرفة المحامين يوم 12 يونيو بعد لقائي بالمبدع باسم خندقجي لمحته يتحدّث مع محاميه، استوقفني وتبادلنا أطراف الحديث؛ تقدّمت لإدارة السجون بطلب لقاء سجّلتُ فيه الاسم الرباعيّ ورقم بطاقة هويتّه وفوجئت بإجابة لاكونيّة بأنّه لا يوجد في سجون الاحتلال أسير يحمل هذا الاسم، رغم أنّه رهينة سجونهم منذ 6 كانون الثاني 1983، وبعد مراجعة الداخليّة تبيّن أنّ اسمه "الرسميّ" محمد – هو كريم يونس فضل يونس!! عميد الأسرى وأقدم أسير فلسطيني في سجون الاحتلال وفي العالم.
التقيته صباح يوم الأربعاء (10 تموز 2019) جالسًا خلف الحاجز الزجاجيّ الباهت المقيت، وحين رآني بادر قائلًا: "شُفِت إنّو معي حق؟" وأعادني عشرات السنين حين كنت في البدايات، التقيته في سجن النقب الصحراوي للتوقيع على أوراق صفقة التبادل وابتسم حينها وقال: "سأوقّع ولكن لن تشمل الصفقة كريم، إسرائيل تفضّل إبطالها كليًّا إذا أصرّ الجانب الفلسطينيّ على ذلك" ... وصدق!!
تحدثنا مطوّلًا عن كتاباته؛ عن كتابه "الواقع الآخر للأحزاب الاسرائيليّة"، و"الصراع الأيديولوجي والتسوية"، مواجهته اليوميّة مع سجّانه، معاناة الأسرى ومحاولات التضييق اليوميّة، الإضرابات داخل السجون الاسرائيلية لنيل الحقوق الأساسيّة وتحسين ظروف اعتقالهم غير الإنسانية، وكان كريم أولّ من خاض الإضراب وشكّل واحدًا من قادته، يرافقه ملحه وكأس مائه، متسلّحًا بعزيمة وإرادة.
يحرص كريم على تدريس الأسرى وتثقيفهم، عبّر عن سعادته بتخريج العشرات منهم هذا العام، ويهمّه تحديد محكوميّة و"مؤبديّة" أسرى لم تُحدّد بعد!
رغم عشرات السنين خلف القضبان، تحدّث كريم بأريحيّة ووجهه يبثُّ إرادةً ويشعّ أملًا...وحياة!!
فجأة أطلّ وليد من باب الغرفة ففهمت أنّ الساعتان مرّت وتوجّب عليّ أن أودّعه ليعود إلى بُرشِه! فودّعته متمنيًّا له ولرفاقه الحريّة على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفانا.
(عقّبت نسيم شاهين –أخت الأسير حسام شاهين- على لقائي بكريم: "طال الغياب يا كريم يونس 37 عاماً وما زال مدعي الحرية يتغنون أنكم أولوية.... إذا كنتم كذلك، لماذا ما زلت رهين تلك الزنزانة منذ 37 عاماً... لماذا... لماذا... أذكر حينما قلت لي: يا نسيم لقد ودعت على مدى سنوات اعتقالي آلاف الأسرى محررين وأنا ما زلت أنتظر الحرية!! فرجاً قريبا يا كريم يونس... لك الحرية ولكل أسود فلسطين الأشراف الأنقياء جميعا ودون استثناء.")
وكذلك عقّب الدكتور يوسف عراقي:
" المناضل كريم يونس أحد اسماء الوطن الذي نحلم به حرًّا مستقلاً.. لعلّه بوجوده خلف القضبان أكثر حريّة ممن تثقل كاهلهم قيود المنفعة الشخصيّة واللاهثين وراء سراب السياسة ....
كل الاحترام والتقدير . ليس فقط دار يونس وقريتك عارة من يفتخر بك.. إنّك فخر لكل الوطن".
أمّا الكاتب بسّام الكعبي؛ الذي أصدر مؤخّرًا كتابه حول أدب السجون "جمر المحطّات" فعقّب: "كبرياء يحاصر قسوة العزل الطويل بصبر كريم ولا يتشظى.. الحريّة لأيقونة الكفاح في سجون الاحتلال: قامات عالية خلف القضبان تستحق زيارات بمفردات، سرد يقطر بالتماسك والأمل عزيزي".
عذرًا أيّها الفارس، خذلناك!!!
التقيت الأسير وليد دقّة في سجن "هداريم"؛ وكنت قد تعرّفت إليه عبر كتاباته وشاركت في أمسية نظّمها التجمّع الوطني الديمقراطي في حيفا يوم السبت 10 تشرين الثاني 2018 لإشهار "حكاية سرِّ الزيت". أطلّ مبتسمًا ساعة انتهائي من لقاء رفيقه كريم يونس، وكان ملتحيًا، فسألته سرّ تطويلها فأجابني أنّهم نقلوه إلى زنزانة في معسكر مجيدو بدون مرآة فلم يحلق فترة طويلة وحين نقلوه إلى سجن آخر "أنقذته" تلك اللحية، وهذه حكاية أخرى.
تحدّثنا عن لقائي بباسم خندقجي ووعدي له أن نرفع نخب "ميلاد" الموعود قبالة بحر حيفا، ووفيت به مع "لا ريوخا" ولوركا.
تحدّثنا عن جود وأبو ناب والضبع، عن كثرة الضباع في أيّامنا، عن التهجير والعودة المشتهاة، فالحاجة فريدة ما زالت تحلم بعودتها إلى قاقون والحوارث، عن الحريّة التي ستتحقّق بهمّة جود ورفاقه، حكاية الزيت والسيف، سلاح المعرفة والعلم "المستقبل هو أحقّ أسير بالتحرير".
تناولنا "الزمن الموازي"، صهر الوعي والمحاولات المستميتة لاستهداف معنويّات الأسير في السجون عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية إسرائيليّة، فباتت السجون بمثابة مؤسّسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، وهي أضخم مؤسّسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين.
تناولنا رسوماته، كاريكاتيراته والكوميكس للكبار بالعربيّة ومشروع "نول للكتابة"، عن الأثر الذي تركته فيه تعقيبات مجد كيال، خلدون محمد ود. خالد عنبتاوي وغيرهم كُثر.
حدّثني عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد فارس بارود الذي توفيّ خلال فترة سجنه وما زالت جثّته محتجَزة وتساءل فارس محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: "هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟؟" ونحن صامتون صمت القبور... وعكاكيز السلطة تفاوض!
مضت ساعتان بلمح البرق وما زلنا في بداية حديثنا، وللقصّة شرح يطول.
لك عزيزي وليد أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، على أمل لقاء قريب بحضرة ميلاد في رام الله وحيفا كما وعدتك.
(عقّب الروائي قاسم توفيق على لقائي بوليد: "لانهم يخافون حتى من الشهداء أبقوهم سجناء عندهم. رفيقنا وصديقنا وليد وكل أسرانا لكم ولفلسطين الحرية")، أمّا الكاتب المقدسيّ عادل سالم فعقّب: "الحرية لوليد وكل أسرانا البواسل، والخزي والعار لسلطة العار التي وقّعت أوسلو وأسراها في السجون يقبعون".
وعقّب الكاتب بسّام الكعبي: "هل ستحتفظ سلطات الاحتلال بجثّتي حتى تنتهي فترة محكوميتي لتحريرها؟" رفقاً بنا يا وليد.. قتلتنا يا وليد. كل الأمنيات أن تنتصر قريباً القامات العالية التي تشرق منها الشمس على السجن والسجّان".
حسن عبادي
***الأسير كريم يونس (عميد الأسرى الفلسطينيّين) من مواليد 1956، أُعتقل يوم 6 كانون الثاني 1983 حكم بالسجن المؤبد الذي حُدّد فيما بعد بأربعين عامًا.
***الأسير وليد دقّة من مواليد 1961، أُعتقل يوم 25 آذار 1986 حكم بالسجن المؤبد الذي حُدّد فيما بعد بسبعة وثلاثون عامًا، أضيف عليها سنتان يوم 28 أيار 2018.
[email protected]