لم يَعُد التحرك الشعبي لتغيير الأوضاع القائمة في السلطتين الحاكمتين في الضفة الغربية وقطاع غزة أمرًا مشروعًا ومقرًا في القانون الأساسي للسلطة الوطنية فقط، وإنما بات واجبًا وطنيًا لا مناص من اللجوء إليه إذا أردنا كسر الحلقة الجهنمية التي تحيط بِنَا وتهدد إذا استمرت بالثبور وعظائم الأمور.
فالشعب في البداية والنهاية هو مصدر السلطات والصلاحيات، وصاحب المصلحة في التغيير والقادر على فتح الطريق المسدود الذي نسير فيه منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن، وتفاقم بعد وقوع الانقسام الذي استنفد الطاقات الفلسطينية في صراع داخلي، ومكّن الاستعمار الاستيطاني العنصري الاحتلالي من تحقيق أهدافه ومخططاته بسرعة أكبر وتكاليف أقل.
السبب أو الأسباب لضرورة وإلحاحية التحرك الشعبي الذي يقف وراءه شباب ولا تحركه الفصائل، رغم مشاركة العديد من أعضائها، بما في ذلك أعضاء وكوادر تنتمي لحركة فتح بسيطة جدًا، منها أن الهوة ما بين الشعب والقيادة والفصائل تزداد، وآليات اتخاذ القرار فردية وفئوية، وأن المؤسسات التي من مسؤولياتها الحكم أو المراقبة والمساءلة والمحاسبة إما غائبة أو مغيبة أو مفرغة من دورها تمامًا، فبات دورها أن تحلل أو تقيّم أو تنتقد أو تبصم على ما يدور وما يتخذ من قرارات، وحتى عندما تتخذ المؤسسات قرارات لا تناسب القيادة المتنفذة مثل قرارات المجلس المركزي في دورتيه السابقتين، وقرارات المجلس الوطني في دورته الأخيرة لا تُنفّذ، وتسير الأمور بعدها كالمعتاد ولا تنقلب الحياة رأسًا على عقب.
ومن الأسباب الأخرى وصول إستراتيجية طرفي الانقسام إلى طريق مسدود وعدم اعتماد إستراتيجية جديدة مشتركة، إذ توقفت إستراتيجية المفاوضات وتحقيق الدولة عن طريق التسوية والتفاوض، إلى أن وصلنا إلى حال إذا أردنا فيه استمرار ما سمي "عملية السلام" لا بد أن نوافق على "صفقة ترامب"، التي تعني إذا طبقت بموافقة الطرف الفلسطيني تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها، وفي حال عدم موافقة الطرف الفلسطيني على "الصفقة" أو التعايش معها أو غض النظر عنها لا يوجد لها أي فرصة للنجاح.
أما إستراتيجية المقاومة المسلحة فقد تعطّلت، بدليل أن الهدنة أصبحت العنوان الأساسي، ومفتوحة على احتمال هدنة طويلة الأمد، وأن المواجهة العسكرية باتت تحدث غالبًا لحماية السلطة وليست إستراتيجية للتحرير كما كانت.
إن الأخطر من القمع غير المسبوق ضد حراك شعبي سلمي تصويرُ الأمر ليس كممارسة حق من قوى ومؤسسات وأشخاص مشهود لها بالإخلاص والكفاح الوطني والديمقراطي المستقل، وإنما كمؤامرة وتنفيذ أجندات خارجية وتمرير "صفقة ترامب" لنزع الشرعية والوطنية عن ممارسة حق التظاهر الذي من المفترض ألا يكون جدال حوله، لدرجة الحديث عن معلومات مؤكدة عن تلقي الجبهة الشعبية أموالًا لتنفيذ هذا الحراك الذي يرفع شعار في جوهره يقوم على المطالبة بقرار المجلس الوطني برفع العقوبات عن غزة، وهو هدف قال الرئيس محمود عباس وحركة فتح أنهم موافقون عليه. ارجعوا إلى ما قاله الرئيس في الجلسة الختامية للمجلس الوطني، وما قاله عزام الأحمد عن مطالبة "فتح" للحكومة بحل مشكلة رواتب الموظفين، هذا في نفس الحديث الذي قال فيه إن وصف ما يجري بالعقوبات "افتراءات". وعلى من يلقي الاتهامات جزافًا أن يعرف أن هذا الحراك لا يحتاج إلى تمويل، وإنما يجسد عملًا تطوعيًا يعيد الاعتبار للتجربة الفلسطينية السابقة.
هناك أمر لا بد من الإشارة إليه، وهو خطورة المطالبة بطرح كل شيء في سلة واحدة، أو عدم طرح أي شيء، أو ربط الاستجابة لرفع العقوبات بتمكين الحكومة، وهذا أمر في منتهى الخطورة، لأن الحقوق يجب ألا تستخدم كأداة لتحقيق أغراض سياسية، والسلطة مسؤولة عن شعبها في الضفة والقطاع، فضلًا عن أن تخفيض الرواتب ومجمل العقوبات لا تعاني منها "حماس" أساسًا، بل قدمت خدمة صافية لها.
وللتوضيح يرد المدافعون عن السلطة على منظمي الحراك: لماذا الآن؟ حتى أن البعض تساءل عن تزامن الحراك مع أحداث الأردن، متناسين أن الأمور تفاقمت إلى حد ينذر بالانهيار الذي دفع حتى الأعداء لذرف دموع التماسيح على الوضع الإنساني بغزة، كما أن حقوق الإنسان في الراتب والكهرباء والصحة ... إلخ، لا تحتمل أن تتأخر إلى حين إنهاء الانقسام الذي دخل منذ أيام عامه الثاني عشر!
إن من يرفض التخلي عن السيطرة الانفرادية على قطاع غزة شأنه شأن من يعاقب غزة، ويساعد وإن بشكل غير مقصود على تمرير "صفقة ترامب"، ولا يستطيع طرف أن يلقي بالمسؤولية على الطرف الآخر.
قلت وأكرر عندما يندلع حريق في داخل البيت تصبح الأولوية لإطفائه، وهذا لا يلغي الأولويات والاحتياجات الأخرى، وليس من المقبول أن يقال ذلك لحراك معظم منتميه والمشاركين فيه كانوا من السباقين لطرح أهمية وأولوية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وكانوا من السباقين لإطلاق المبادرات وعقد لقاءات والقيام بزيارات لكل من يمكن أن يساهم في إنهاء الانقسام، ولتنظيم المظاهرات والندوات والمؤتمرات وإصدار المقالات والدراسات التي تطهر كلفة الانقسام والطريق الكفيل لإنهائه من خلال تقديم اقتراحات ملموسة قابلة للتطبيق لو توفرت الإرادة اللازمة.
إن الكفاح لإنهاء الانقسام يتطلب عدم الانحياز لوجهة نظر أحد طرفي الانقسام، ما داما يتحملان المسؤولية المشتركة عن وقوعه واستمراره بغض النظر عن التفاوت في المسؤولية في كل مرحلة، بل الانحياز لرؤية ثالثة عبرت عن نفسها من خلال تفسير أسباب الانقسام وجذوره (ارجع إلى وثيقة الوحدة الوطنية التي أطلقت في مؤتمر عقده مركز مسارات في آب 2016). فـ"الانقلاب" الأسود المدان وغير المبرر الذي نفذته "حماس" لم يأت كصاعقة في سماء صافية، وإنما جاء لأن "حماس" تغدت بـ "فتح" قبل أن تتعشى بها، وبعد أن لم تمكّن "حماس الفائزة في الانتخابات من الحكم رغم تمكينها من تشكيل الحكومة ومن رئاسة حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت بعد اتفاق مكة، تمامًا مثلما يحصل الآن عندما حلّت "حماس" اللجنة الإدارية ولكنها لم تتخل عن مصادر الحكم الأخرى المالية والأمنية والإدارية.
كما جاء الانقسام نتيجة استقطاب حاد والتصارع على سلطة تحت الاحتلال من دون الاتفاق أولًا على أهداف وقيم النضال وقواعد العمل وأشكاله، بما فيها هل سيتم الاحتكام إلى اتفاق أوسلو والتزاماته رغم ما انتهى إليه من كارثة، أم إلى رؤية تسعى للتخلص منه، أم سترفض أوسلو وتريد التمتع بامتيازاته، والتنافس على من يحظى بالأولوية والاعتماد لهذه السلطة أو تلك، وهذا يقود إلى الاستجابة إلى تحقيق المفضل إسرائيليًا كما هو الحال فعلًا الذي يظهر في استمرار التنافس والانقسام الذي يرسل رسالة للعالم بأن الفلسطينيين غير جديرين بتحقيق حقوقهم؟
إن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة يتطلب الاتفاق على رزمة شاملة تتضمن برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، وأسس وقواعد الشراكة السياسية الكاملة، وتحقيق ديمقراطية توافقية يتم فيها الاحتكام إلى الشعب بالانتخابات الدورية المنتظمة، ليس لحسم من يقود وبأي برنامج، وإنما لتحديد الأوزان لكل فصيل وحزب ومجموعة في إطار عمل جبهوي وطني موحد يستجيب لطبيعة المرحلة التي تمر بها فلسطين، وفي سياق جعل الانتخابات أداة من أدوات الكفاح لدحر الاحتلال وتمكين الشعب من تقرير مصيره.
إن تصوير الأمر كمؤامرة من "حماس" للانقلاب مرة أخرى على السلطة في غزة لا يمت للحقيقة بصلة، ويتناقض مع القول إن حماس تريد فصل القطاع عن الضفة، وحسنًا فعل الحراك لرفع العقوبات عندما رفض محاولة "حماس" تصوير الحراك انتصارًا لخطها .مثل رفضه لقمع السلطة الأسود له في رام الله.
وأخيرًا، إن تغول الأمن بالصورة التي رأيناها لدرجة الزج بكل الأجهزة بما فيها الحرس الرئاسي في رام الله، وما حدث في نابلس عندما يخطب محافظها في مظاهرة مفترض به أن يمنع قيامها تنفيذًا لقرار من مسؤوله، ويتحدث فيها بلغة التهديد والوعيد لأشخاص وفصائل ومؤسسات وأفراد مشهود لها باستقلالها وكفاحها، ناسيًا أنه يمثل الرئيس ومسؤول عن حفظ الأمن والسلامة العامة، وليس للتعبير عن وجهة نظره أو وجهة نظر فصيله، فهذا الأمر بحاجة إلى وقفة مساءلة ومحاسبة وتغيير طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها.
ما حصل نتيجة طبيعية لحالة التوهان التي تمر بها السلطة والمنظمة اللتين تقادمتا وترهلت قياداتهما، وتواجهان مسألة الخلافة التي تطرح نفسها بقوة متزايدة من دون استعداد حقيقي، فضلًا عن تآكل شرعية مؤسسات المنظمة رغم عقد المجلس الوطني بالطريقة التي شاهدها العالم، ولفشل برنامجها وعدم التغيير والتجديد والإصلاح من دون عقد الانتخابات المستحقة منذ سنوات طويلة، وفي ظل تعاظم المخاطر عليها لدفعها لقبول صفقة ترامب، وبدلًا من أن تلجأ للطرف الوحيد الذي يمكن أن ينقذها وهو الشعب وقواه الحية، تستعديه بهذه الطريقة التي رأيناها.
كما أن ما حصل نتيجة طبيعية لأكثر من 25 عامًا من التنسيق الامني مع الاحتلال الذي استمر رغم موت العملية السياسية التي جاء تجسيدًا لها، وتخصيص أكثر من 30% من الموازنات السنوية للسلطة للأمن، وهي نسبة تفوق النسبة التي تخصصها جميع الدول في العالم للأمن والجيش، بما فيها إسرائيل مع أنّ لديها واحد من أقوى الجيوش في العالم.
إن هذا الواقع يقتضي إعادة النظر كليًا في فلسفة الأجهزة الأمنية ودورها وتشكيلها وعددها وموازنتها، وإعادة بنائها وتغييرها وإصلاحها لتكون أجهزة أمنية مهنية بعيدًا عن الحزبية وعن مراكز القوى، فلا يجب تنفيذًا للقانون الفلسطيني ولما جاء في اتفاقات المصالحة، أن يكون قادة وكوادر وأعضاء الأجهزة الأمنية ينتمون إلى الفصائل، وخصوصًا لحركتي فتح وحماس اللتين تتحكمان في السلطتين في الضفة والقطاع.
ما جرى في رام الله يمكن أن يكون علامة فارقة نسير بعدها بتسارع أكبر نحو المزيد من التدهور على كل المستويات والأصعدة، لنصل إلى أم الكوارث، أو الشروع في السير على طريق الخلاص الوطني من خلال الاتفاق على رؤية شاملة تنبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية جديدة، لأننا رغم الفوارق والخلافات الكبيرة فيما بيننا في مركب واحد وما يجمعنا أكثر ما يفرقنا.
يمكن رغم كل شيء الاتفاق على رزمة واحدة يتم تنفيذها بالتوازي، وبالنسبة لبعض الملفات بالتزامن، من دون ربط تحقيق الحقوق ولقمة العيش بأي اتفاقات او بتحقيق أهداف سياسية.
[email protected]