كتبت هذه المقالة قبل انتهاء أعمال الدورة الـ 23 للمجلس الوطني الفلسطيني التي انتهت ليلة أمس، الخميس، في رام الله، وهي لذلك لن تتطرق إلى قراراتها، ولا الى مخرجاتها.
هنالك أهمية كبرى لما سيصدر عن هذا المجلس من مقرّرات سياسية وتنظيمية، بيد أن ما سيتبعها من ممارسات فعلية سيبقى هو الفيصل فيما إذا كان القرار بانعقاده، وسط خلافات فلسطينية داخلية، خيارًا صائبًا أم لا، أو خطوةً قادرة على تجسيد ما أعلنه شعارها ذو الدلالات العميقة ؛ فهي دورة " القدس وحماية الشرعية الفلسطينية" .
لقد انعقدت الدورة السابقة للمجلس الوطني الفلسطيني في العام 1996؛ ومن نافل القول ان نذكّر بأن منطقة الشرق الأوسط تخضع منذ عقدين لتغييرات جوهرية شاملة، ما انفكت تفاعلاتها جارية ونتائجها قيد التشكّل والتبلور. مع هذا، نستطيع أن نرى بوضوح كيف تقطعت أواصر بعض الدول العربية وامّحت كياناتها بالتمام، كما جرى في ليبيا واليمن والعراق. ونرى، من ناحية أخرى، كيف تموضعت أنظمة حكم "شقيقاتها" في أحلاف ومحاور عسكرية وسياسية واقتصادية، من شأنها أن تؤمّن لحكام تلك الأنظمة عروشها وبقاءها في مواقعها، حتى لو كان ذلك بثمن قفزهم من "خُرج" العروبة الكاذبة ودخولهم في "عُبّ" سيّدهم الجديد ترامب، وحليفته الأقوى إسرائيل.
لم تكن تسمية هذه الدورة بدورة "القدس وحماية الشرعية الفلسطينية" من باب الصدفة ؛ فمن يستقريء أهداف الطغاة الجدد ويتابع تفاصيل ما يرسمونه لمستقبل منطقتنا ، سيكتشف بسهولة أن القدس التي كان وما زال الاستيطان الصهيوني يستهدفها، صارت، وفقًا لسياسة الطغمة الأمريكية الحاكمة، تلك الجوهرة التي يجب الاستيلاء عليها وابتلاعها ونزعها من صدر أمها فلسطين ومن قلوب أهلها.
أما منظمة التحرير الفلسطينية فعليها أن تختار بين الاستسلام الكامل وتحوّلها الطوعي إلى أداة "تقود" الشعب إلى مكانه المعدّ بجانب حظائر اخوته على "رقعة الشطرنج" المتكوّنة؛ وإما أن تُهدم كليًا وتندثر ويتبخر معها المشروع الوطني الفلسطيني، الذي جسّدته المنظمة عند تأسيسها بكونها "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" .
حرية الانتقاد مكفولة ولكن !
قرأنا عن دوافع من عارض عقد المجلس، خاصة في غياب وحدة فلسطينية شاملة، وتابعنا تخوفات البعض مما شاب الإعداد لجلساته من نواقص إدارية ومثالب تنظيمية وغايات فئوية، يخشى البعض من تكريسها في السنوات القادمة، ومخاطر ذلك في المستقبل. ومع احترامي لجميع ما كتبه الغيورون على المصلحة الوطنية وعلى مستقبل مشروع التحرر الفلسطيني، أرى أنّ اصرار القيادة الفلسطينية على عقد المجلس الوطني هو قرار صائب ومن شأنه، في هذه الظروف والمعطيات، أن يحصّن، بالمجمل، البناء الوطني ويمكّنه من الوقوف في وجه أعدائه المباشرين ومن يدعمهم، في العلن أو بخبث في الخفاء، ومن داخل دهاليز المؤامرة.
لا يوجد حق لأعداء الشعب الفلسطيني والعابثين في قضيتة بانتقاد قرار عقد المؤتمر، بل قد تدفعني مواقفهم المعارضة إلى تعزيز قناعتي كما ذكرت؛ فما شرعية من يتمترس وراء السياسة الأمريكية باتخاذ موقف ضد عقد المجلس؟ ولماذا علينا أن نستمع إلى نصائح "الأصدقاء والأشقاء" وهم في الواقع يعملون كوكلاء "للأعداء" ويُملون تعليماتهم كشركاء لهم في المصالح والغايات؟
وكيف لمن ينصحون الفلسطينيين، بعنجهية وباستعلاء، بقبول الصفقة الأمريكية أو بالعودة للمفاوضات مع نتياهو وحكومته أو بالتزام الصمت والتوقف عن الشكوى - أن يُحتسبوا أخوة في الهمّ وفي الأمل؟
في المقابل، يوجد لجميع الفلسطينيين الاحرار حق بالتعبير عن مواقفهم حيال قرارات قادتهم، وللأصدقاء الصدوقين وأحرار العالم حق كذلك؛ ولكن لا حق لكل من يعشّش في جيوب "العالفين" أو من يستظلون بفيء خيمة نظام ما فتئ قادته يمارسون كل وسائل الضغط على القيادة الفلسطينية بهدف تركيعها وإلحاقها بقوافل الخنوع والهزائم .
سيء وأسوأ
في معظم محطات النضال الفلسطيني راوحٓتْ خيارات القيادات الوطنية المتعاقبة بين القبول بالسيء المتاح والممكن وبين الوقوع في فخ الأسوأ المبيّت. وأقترح، في حالتنا، فهم قرار عقد المجلس من دون مشاركة حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" من هذا الباب فقط؛ فقد يكون عقد المؤتمر بنصابه الحالي خيارًا سيئًا، بيد أن عدم انعقاده بالمرة كان الخيار الأسوأ؛ فالانتظار ، كما نصح العديدون، حتى إتمام عملية الوحدة بين حركة "حماس" وحركة "فتح" وبعدها العمل على اعادة بناء منظمة تحرير جديدة يعني انتظار الفلسطينيين "بيضة الديك" ؛ وإلى أن يحصل ذلك سيكون "الأنكل سام" قد أنهى ولائمه تاركًا فلسطين جرحًا مفتوحًا على العدم وسيبقى الفرَج "مملوعًا" بين غضب الصحراء ورضا السماء.
لست بصدد التنقيب عن أسباب فشل إتمام الوحدة بين غزة/حماس وبين رام الله، لكنني لن أوافق جميع من حمّلوا، قبل انعقاد المجلس، كامل المسؤولية لقيادات "فتح" ولبعض قادة منظمة التحرير فقط؛ فعلى حركة "حماس" ما على حركة "فتح" من مسؤولية لرأب الصدع والتضحية والمشاركة في المجهود الوطني، وذلك على الأقل في هذه المرحلة الحرجة من حاضر القضية الفلسطينية ومستقبلها.
كل فلسطيني وكل داعم للحق الفلسطيني كان يتمنى أن يلتئم المجلس بمشاركة جميع الفصائل الوطنية والحركات الدينية الفلسطينية ولكن ايقاف "الجرم" عند عتبات "فتح" ليس منطقيًا ولا منصفًا, خاصة وأنّ حركة "حماس" تحمل مفهومًا إسلاميًا مغايرًا لطبيعة النظام السياسي المأمول، وهو بمعايير كثيرة يختلف عن معنى مشروع الدولة الوطنية، كما وأنها تتحكم عمليًا باقليم كامل من الوطن وتقيم علاقات سيادية مع أنظمة سياسية عديدة في العالم كان بعضها شريكًا ومعنيًّا برسم خارطة الشرق الجديدة وبالقضاء على الحلم الفلسطيني.
حركة تحرر وليس مجرد سلطة
يتمنى المؤيدون لعقد المجلس إجراء تقييم جدي وشامل ومسؤول للحقبة الفائتة ، خاصة لموجبات توقيع اتفاقيات أوسلو ولنتائجها، كما وينتظرون وضع تصوّرات تكفل تحصين وجود الشعب على أراضيه، وذلك من خلال استعادة مضامين ومعاني وجود "حركة تحرر" وواجبات نضالها، بعيدًا عن دور ومكانة السلطة الفلسطينية، القائمة كافراز من افرازات "أوسلو"، وذلك من أجل انهاء الاحتلال والتأكيد على معنى المقاومة الشعبية كما أكدها الرئيس محمود عباس ووافقت عليها هيئات المنظمة.
سأعود لمناقشة مشاهد أخرى حدثت على هامش المؤتمر مثل مقاطعة الجبهة الشعبية أو مشاركة النائب الطيبي كممثل عن الجماهير العربية في إسرائيل، وهي تفاصيل تستحق المعالجة ومثلها سيكون حظ مخرجات الدورة وقراراتها، فالجميع يعقدون آمالًا كبيرة على هذه الدورة؛ويبقى تقييمها عن قرب ليس كتوزينها عن بعد، فمن يعيش في الغابة ليس كمن يراقبها من قصره أو من بيته أو من مزرعته .
وإلى أن يتم ذلك أؤكد مجددًا أنّ عقد الدورة الـ 23 للمجلس الوطني في رام الله قد شكّل تحدّيًا وجوابًا هامين لمن استهدفوا القدس ووجود منظمة التحرير، وذلك رغم استعدادي لتفهم من شكك بجدية ماسيصدر، أو تخوّفه من احتمال عدم إحداث تغيير على مستوى المضامين أو على المستويين التنظيمي والاداري، وفي مسألة اعادة بناءالمؤسسات، بما يتلاءم ومقتضيات العصر والتطورات السياسية الحاصله منذ عقدين وأكثر.
وأخيرًا، فلسطين "سيدة هذه الأرض" ورغم ما يحاولون اشاعته، ليست وحيدة، فانظر من حضر مجلسها وجاء يساندها في محنتها.
[email protected]