قبل مدّة كتبتُ، في مناسبة فاجعة، كيف اختار الوالد ثلاثة أسمائنا، سليمان وسالم وسليم : "سليمان تذكيرا بعمّ الوالد، سليمان الجبران؛ وسالم لأنّ أمّنا وقعت من شاهق، وهي حبلى به، فلم يصبْ بأذى؛ وسليم استنفادا للمشتقّ". أحد الأصدقاء العارفين بالحكاية، اتّصل بي محرّضا على كتابة ملابسات هذه التسمية.
الحكاية هذه وقعت في أوائل الأربعينات. أيّام الانتداب البريطاني. وأنا أرويها كما سمعتها من والدي غير مرّة. كان الوالد يحكيها لي، وهو في غاية السعادة. وهل من سعادة أكبر من الضحك على البوليس الإنجليزي، وعلى الفسّادين الذين أوصلوا "النقلة" إلى الشرطة، خدمة لها وانتقاما من الوالد !
وصل الضابط إلى الحارة. سأل عن بيت والدي، فقالوا له إنّ المقصود هو ذاك المنشغل في النقاش باب الدكّان. ذهب الضابط إليه، وطلب منه مرافقته إلى البيت. إلى بيتنا لإجراء التفتيش فيه.
الضابط المذكور كان "عربيا". لكن كلب الشيخ شيخ، وأسفل من صاحبه الشيخ، أحيانا. ما زلت أذكر الحادثة كما رواها لي أبي. وأذكر اسم الضابط أيضا. لكنّي لا آتي عليه هنا. هل من سبب لأن يضرس أبناؤه اليوم إذا كان والدهم أكل يومها الحصرم وغير الحصرم، في خدمة سيّده الإنجليزي ؟
ذكرت في موضع آخر أنّ الوالد لم يكن يحبّ العمل في الأرض. كلّ الأعمال، في نظره، كانت أربح من العمل في الأرض. حتى التهريب على أنواعه. في ذلك الوقت كان الوالد يهرّب، مع شركاء له كثيرين، الدخّان المفروم. يفرمونه عندنا في البيت، على الهاون، ثمّ يجعلونه في قوالب ملفوفا في أوراق وزنها معروف، كيلوغرام أو نصف كيلو أو ربع، جاهزا للشحن والبيع. في غزّة ؟
ساق الضابط المذكور والدي، مثل قاتل كبشوه متلبّسا، إلى البيت لتفتيشه. جميع الناس في الشارع، وفي البيوت على جانبيه، شاهدوا المنظر ذاك، واثقين كيف ستكون النهاية. وصل الضابط الهمام ومن معه بأبي إلى البيت، لكنّهم وجدوا الباب مقفلا. استجاب الوالد لأمر الضابط، فأرسل من ييبحث عن الأمّ ليأتي بها، فتفتح لهم الباب المقفل، ويُجروا التفتيش الدقيق في البيت.
كانت الأمّ عند الجدّة. حبلى ومعها صغيرها ابن السنتين أيضا. أنا يعني. أخبروها بما رأت عيونهم، وبأوامر الضابط بقدومها إلى البيت حالا لإجراء التفتيش الدقيق. لكنْ كيف تذهب الأمّ برجليها فتفتح الباب، ليجد البوليس داخل البيت كلّ الدخّان المفروم، فيقود زوجها إلى السجن ؟ خسارة مادّيّة كبيرة، وبهدلة فوقها.
كان من حظّ الوالد أنّ خشبة، من خشبات السقف الطيني، كانت سقطت في تلك الأيّام، وكانت العائلة في انتظار الصحو والنشاف، ليتمّ ردّها، أي إصلاحها، بخشبة جديدة بدلا منها. جاء الأصدقاء الذين شاهدوا الوالد مع البوليس إلى أمّي، وأخبروها بالحكاية مفصّلة. فقرّ الرأي أن يصعدوا إلى السطح، فيتدلّى أحدهم من فتحة الخشبة تلك، ليربط الدخان المفروم بالحبل، وينتشلوه، ليذهبوا به بعيدا عن البيت، فتبوء بذلك الفسدة وكبسة البوليس بالفشل الذريع !
صعدوا السطح، من عند الجيران، كالعادة، وأمّي معهم. جاءوا الفتحة الناشئة عن سقوط الخشبة الميمون، وأخذوا يتشاورون همسا في طريقة النزول لرفع ما في البيت من التبغ المفروم. كلّ هذا والضابط مع والدي أمام الباب المقفل، في انتظار قدوم الأمّ، لإجراء التفتيش الدقيق في البيت.
الوالد أخذ يحدّث الضابط، لتمضية الوقت، عن القرية، وسبل الحياة فيها، والمعيشة الصعبة المكتوبة على السكّان لتحصيل قوتهم، والقيام بأود عائلاتهم. والضابط يصمت هنيهة، لا يصغي طبعا إلى شيء من حكايات الوالد، ثمّ ينهال على الوالد، وعلى الأنبياء كلّهم، بالمسبّات، خفيفة حينا وفاحشة أحيانا. لكن لا مناص من الانتظار: الباب مقفل، والضابط أمامه ينتظر، والأمّ لا بدّ لها من المجيء مهما تأخّرت. فلا مجال لتفويت هذه الفرصة وقد سنحت !
على السطح، حول فتحة الخشبة الواقعة، تجمّع بضعة أصدقاء والأمّ؛ المرأة الوحيدة بينهم وصاحبة البيت. لكنْ من يُدلّونه بالحبل من السطح لانتشال المهرّبات من البيت ؟ لم يتطوّع أحد الرجال بالنزول. احتجّوا أنّهم لا يعرفون موضع الدخّان المفروم كلّه. أو خافوا ؟! لم يتطوّع أحد بالنزول إلى البيت، مربوطا بالحبل، سوى الأمّ. الأمّ الحبلى، وبطنها لحلقها !
ربطوا الأمّ من ساعديها بالحبل، ودلّوها تحت، متّكلين على الله. لكنّ الله لم يسعفهم. إمّا لأنّه لا يشارك في التهريب، أو لأنّهم ربطوا الحبل بسرعة وخوف، فلم يوثقوه. ما إن دلّوا الأمّ من السطح حتّى فلت الحبل من ساعديها، فسقطت الأمّ تحت، بمن في بطنها، لتصل المصطبة جالسة على قفاها، دون أن تصاب بأذى ! لا هي، ربّما من الخوف، ولا الطفل المسكين في بطنها. ظلّ الجنين سالما في بطنها. لذا سمّاه الوالد يوم خرج إلى العالم، بعد هذه الحادثة، سالما! سقط من شاهق، في بطن أمّه، وظلّ سالما ! لا ننسَ أيضا: المهلهل، البطل الشعبي المعروف، كان أيضا اسمه الزير سالم !
أبي والضابط الهمام ومن معه سمعوا الخبطة طبعا، حين وقعت الأمّ:
- شو هذا الصوت يوسف ؟ سأل الضابط والدي متحدّيا غاضبا.
- أنا سمعت الصوت مثلي مثلك. ما بعرف شو هذا. تنساش إنّه الدوابّ في الصطبل !
كان بيتنا ذاك غاية في الطول، أذكر. تدخله من الباب، حيث وقف الضابط والوالد ينتظران، فتعبر الاصطبل الطويل، على يسارك، حيث تُربط الدوابّ على طوالاتها، ثمّ ترتقي إلى المصطبة في درجات، فتصل "غرفة الجلوس" حول الموقد. ومن خلف الحائط حيث كنّا نسند ظهورنا قرب الموقد، يمتدّ التبّان، وفيه كنّا نخزن تبن الدوابّ أيّام الموسم في الصيف. يصعدون بالخيشة المليئة تبنا إلى السطح، ومن هناك يفرّغونها في التبّان !
نهضت المسكيتة أمّي ناسية الوقعة. جمّعت كلّ الدخّان المفروم في كيس كبير، وربطته ربطا وثيقا، لينتشله الأصحاب فوق. ثمّ ربطت يديها، ربطا سليما هذه المرّة، لينتشلوها هي أيضا إلى فوق، إلى السطح، ويذهبوا بالتبغ بعيدا عن البيت. ويا دار ما دخلك شرّ !
بعدها، حملت أمي الطفل ابن السنتين، وجاءت البيت على مهلها، امتثالا لأوامر الضابط الهمام. طبعا فرح الضابط بقدوم صاحبة البيت. أخرجت الأمّ المفتاح من جيبها،وأدارته في السكّرة، فانفتح الباب، ليدخل الضابط الهمام البيت مسرعا كالمجنون. لم يذهب الانتظار الطويل عبثا،علق العصفور على الدبق – فكّر الضابط الهمام في نفسه.
فتّش الضابط ومرافقوه البيت تفتيشا دقيقا. لم يبقوا فيه شيئا لم يقلبوه، ولا جارورا لم يفتحوه. لكنّهم لم يعثروا طبعا على شيء يبلّون به ريقهم. أخيرا التفت الضابط الهمام، فوقعت عينه على إسكملة في صدر البيت، وعليها صحن قهوة صغير فيه بعض التبغ المفروم:
شو هدا يوسف ؟!
هذا احشيه في .. ، أجابه الوالد باسما !!
[email protected]