ما جرى في لجنة الكنيست ظهيرة يوم الأربعاء الفائت كان متوقعًا ولم يكن صعبًا، كذلك أمر التكهن بنتيجة تصويت أغلبية النواب على توصية هذه اللجنة برفع حصانة النائب باسل غطاس (إذا كانت هنالك حاجة للتصويت) وذلك تمهيدًا لاستنفاد إجراءات التحقيق معه والتي قد تفضي إلى تقديمه للمحاكمة.
لقد اختار النائب عن حزب التجمع الديمقراطي عدم المثول أمام تلك اللجنة في خطوة لاقت دعمًا من هيئات القائمة المشتركة التي أصدرت بيانًا تبرر فيه موقفها من وجوب تلك المقاطعة بكون الجلسة "تحريضية واستعراضية ومحكمة ميدانية نتيجتها معروفة مسبقًا".
في الحقيقة يليق بهذا التصريح أن يصير مربط الفرس! فإذا تنبأ النائب غطاس ومثله فعلت القائمة المشتركة برد فعل لجنة فرعية في الكنيست الإسرائيلي وأصابوا في حسهم وتقديراتهم، أفلم يكن من الأجدر به أن يتحسس منذ البداية ويستشرف ردود فعل قوافي اليمين وحداتها على ما سينسب إليه من أفعال؟
أبعد من غطاس، القضية عامة
على جميع الأحوال لو لم تكن لهذه القضية تبعات أبعد من مصلحة النائب غطاس الشخصية ومصالح حزبه لم نتطرق إليها، لا من قريب ولا من بعيد، ففي النهاية كل من يزرع يحصد، الورد أو العاصفة، لكنها مغامرة فردية غير مسؤولة ومقامرة سياسية خطيرة، هذا إذا صح ما قاله القائم بأعمال المستشار القضائي للحكومة، راز نزري، في معرض حديثه أمام لجنة الكنيست، مصرّحًا بأن أجهزة الأمن الإسرائيلي وفي أثناء زيارة النائب غطاس لأسرى أمنيين في سجن كتسيعوت الصحراوي، وثقت بشريط مصور عملية إدخال رسائل وأربعة مغلفات تحتوي على هواتف خلَوية وشرائح اتصال عديدة.
من السابق لأوانه التعاطي مع هذه القضية وفقًا لعناصرها القانونية المجردة، فهذا شأن القضاء والمدّعين العامين ومحامي الدفاع، وتبقى، من البداهة، كل الاحتمالات مشرّعة، ولنا في سوابق التحقيق ومحاكمات قادة المواطنين العرب أمثلةومواعظ؛ أما المثير في المشهد الراهن فيتعلق برد الفعل الأولي الذي اختطه النائب غطاس في لحظة تفجير المسألة في الإعلام الإسرائيلي حين أعلن، وقبل بدء التحقيق معه، أن ما نشر "هو جزء من الملاحقة السياسية لقيادة الجماهير العربية وجزء من ملاحقة التجمع الوطني والعمل السياسي بشكل عام"، لقد كان لافتًا أنه لم يتعرض للشبهات التي نشرها الإعلام بحقه على الرغم مما رافقها من تفصيل مهني أوحى بأننا في صدد قضية لا تشبه سابقاتها من قضايا التحريض اليميني الشعبوي الرخيص.
في الإعلام بدأت ترشح معلومات ومعطيات سرّبت بهدف تأزيم حالة الإرباك التي أصابت قيادات الأحزاب والحركات السياسية العربية فغابت ردود فعل معظمهم،ولم يحركوا لسانًا ولا ساكنًا وحتى قادة حزب التجمع تصرفوا بتروٍ واتزان واضحين مكتفين بشجب محق لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين الذين استغلوا الإعلان عن الحدث فوثبوا وانقضوا على باسل وحزبه وقائمته وقومه وجرموه ماضين في تمزيق ما بقي من ذاك الجسد وتقطيعه اربًا، بينما لم يبدأ التحقيق معه ليست هناك لائحة اتهام ولا قرار إدانة.
الحكمة قبل الشجاعة
موقف النائب غطاس إزاء ما نشر ضده كان خاطئًا ومضرًا، فالانكار المجزوء والجارف العريض لم يكن خيارًا موفقًا ولم يسعفه ولا سهّل على حزبه مهمة صد الهجمة الشرسة، وفي نفس الوقت لم يسوغ لباقي القيادات السياسية فرصة التعاضد الحقيقي والدفاع العلني عنه، كما ومنع كثيرين من التعبير عن مؤازرته وإسناده بشكل ناجع ومؤثر في وجه هجمة / شبهة سرعان ما تبينت فيما بعد أنها ليست ملفقة من أساسها ومختلقة- كما صرح واصفًا إياها النائب غطاس على أنها مجرد ملاحقة سياسية له ولحزبه.
فبعد خروجه من جلسة التحقيق بدأت مفردات دفاعه ومضامينها تتغيّر، وذلك كما قرأنا في بيان نشر باسمه معلنًا "أنه لن ولم يقم بأي مخالفة تتعلق بأمن الدولة أو مواطنيها، ولم تكن لديه نية تتعلق بهذا الجانب". ويؤكد أنه لم يقترف فعلًا من شأنه المس بأمن إسرائيل أو مواطنيها، لكنه، في نفس الوقت، لم يتطرق ولو بتلميح لشبهة تهريبه الهواتف الخلَويه والشرائح كما تدعي سلطات الأمن الاسرائيلية، وكأنه يترك هذه الاحتمالية لفهم القراء ويدعها محلقةً في الفضاء، وذلك كي يحتفظ بامكانية حشر الخلاف بينه وبين القضاء الاسرائيلي في مسألة تفسيرية حول كيف يكون المس في أمن إسرائيل، وليس حول حقيقة ما جرى فعليًا في تلك الغرفة المعدة لاصطياده كما يظهر.
من يقرأ بإمعان تصريحَي النائب غطاس سيجد إشارات لما قد يؤول اليه العراك مع الجهات الإسرائيلية في المستقبل، فقبل التحقيق وبما يتماشى مع نبرته التصعيدية أكد غطاس أن "زيارة الأسرى الفلسطينيين والاطمئنان عليهم هي حق لنا وواجب علينا ولن نتخلى عنه" مضيفًا بشكل حاسم ومتحدٍّ "أن ملاحقات الشرطة الباطلة وتلفيقاتها لن ترهبنا"، بينما نجده يتراجع، بعد جلسة التحقيق، ويختار تكتيكًا يحاول من خلاله تخفيف قواعد المواجهة، فحق زيارة الأسرى الأمنيين يَرِد عنده في باب "الواجب الأخلاقي الذي يقوم به ضمن مهامه البرلمانية وكقائد سياسي" وليس كممارسة وطنية ومقارعة للسجان الإسرائيلي، لأنه مقتنع بأن "زياراته للأسرى وتواصله معهم هو عمل إنساني وأخلاقي بحت وهو ملتزم بهذه القضية لأخلاقيتها وعدالتها..فالأسرى هم بشر قبل كل شيء". قال ذلك متأخرًا، وصدق، فواجب من يستطيع الوقوف إلى جانب الأسرى الفلسطينيين لا غبار عليه، ومعاناة الأسرى المزمنة كبيرة ومعروفة لا سيما في قضية حقهم بالتواصل مع أسرهم سواء من خلال ضمان وتائر الزيارات أو حرمانهم من استعمال الهواتف العامة كما يسمح للأسرى الجنائيين مثلًا.
عندما اتهم النائب غطاس بتهريبه هواتف خلوية وشرائح كانت أمامه عدة خيارات للإجابة، وكلها تتناسب وتجتزأ من دوره كقائد سياسي في المجتمع ومن وعيه لمسؤوليته وتحسسه من تبعات ما يقوم به في المكان والزمان العينيين. لكن خياره المعلن قبل تفاقم القضية كان بمثابة المقامرة غير المحسوبة والمزايدة، بينما يحسب لجوءه المؤجل إلى الدوافع الانسانية والاخلاقية في زيارة الأسرى الفلسطينيين تبريريًا ولن يعوض الخسائر التي منيت بها مصالح الجماهير العربية.
لا تجعلونا لليمين لقمًا سهلة
قرأت بعض ما كتب في هذه المسألة، وقرأت تكرار حجة من لا يريدون الاعتراف بالخسارت الجسيمة التي سببها بعض قادة الجماهير المغامرين من دون مسؤولية قيادية عامة، وهم المصممون في مزايدات عقيمة على ركوب البحر بأشرعة حقوقهم المطلقة وشجاعتهم المفرطة. وفي كل مرة نبتلى يذكرنا هؤلاء الكتاب والمحللون بأن اليمين الإسرائيلي باطش بطبعه، وصنانيره مدلاة في جهوزية قصوى، وهي ليست بحاجة إلى طعم نعلقه نحن عليها بأيدينا. ما قام به النائب غطاس استغله عتاة اليمينيين، فنجحوا بوضع ملازم على زيارات النواب للأسرى الأمنيين، فخسروا واحدًا من أهم الامتيازات عندهم، وخسر النواب حقًا ما كان في خدمتهم. ومن الطبيعي أن نفترض أن هذه الضربات هي بدايات تسخين المطارق وشحذ السيوف. وتبقى تلك الأصوات تبرر للزعامات حماقاتها في حين يمضي اليمين بشرائحه وهتافه ضاربًا بفأسين وجهل، فمن يرفض الاعتراف في ما يسببه طيش بعض زعاماتنا ليعُد ويقرأ مجددًا تاريخ محاكم قادة هذه الجماهير، في العقدين الأخيرين، ويرى كيف اختار أو اضطر أصحابها أن يواجهوها أو يتلافوها أو ينحنوا أمامها، ومن لا يريد أن يعترف بهذه الحقيقة ليتمعن كيف يصهر هذا اليمين الظامئ أوراق التهور ويحولها أنهارًا من مطر أسود تروي حناجره وتنعش سواعده.
سكوتكم من فضة
ما انتقده هنا يتعلق بمكانة النائب غطاس العامة ونشاطه كشخصية قيادية معروفة يتعدى دورها موقعه في حزب التجمع، فلقد أخطأ في هذه الأزمة، وأساء في إدارتها
أرى أن على غطاس أن يتحمل كامل المسؤولية ويتصرف بحكمة وشجاعة ليدرأ العواقب عن حزبه وعن القائمة المشتركة وعن الجماهير الواسعة. كلنا يتفهم ضرورة التكافل بين رفاق الدرب وواجب التضامن مع من يواجه قمع السلطة وملاحقتها، بيد أن هنالك محطات في حياة البشر تستدعي الحسم خاصة حين تكون مصلحة الجماهير أعلى وأولى من مصالح الفرد ومصلحة الإطار الحزبي أغلى وأبدى من مستقبل الشخص أو القائد؛ فمن لا يستشعر إلى أين تهب رياح الجنوب الكتسيعوتية وكيف ستضرب سيفاجأ قريبًا بتشتت خيامنا وتمزقها، وحينها سنفيق في ليال سماؤها عارية ملأى بالنجوم الدامعة.
صمت الأحزاب والحركات السياسية والمؤسسات المدنية يشي بحرجهم ويكشف موقف جميعهم إزاء ما جرى، وبعضهم يعرف أكثر من جميعنا. فعلى هؤلاء القادة أن يكونوا حكماء، وليس فقط أصحاب حق، وشجعانًا مع علمهم أن "الشجاعة مقرون بها العطب".
[email protected]