نجاح حكومة بنيامين نتنياهو، يوم الإثنين الماضي، في تمرير قانون إقصاء أعضاء الكنيست لم يكن مفاجئًا، فحكومة نتنياهو تحظى بأغلبية سريعة "التوريب"، جاهزة الفوران والانسكاب. تركيبة الأحزاب التي تشكل إئتلاف الحكومة هي عبارة عن مجموعات من مستسيسين جوعى للحقد ومرضى بداء "العرب"، وشرهاء تستفز مجسّاتِهم رخامةُ العين وهي في الشرق تبكي على "رب" يهان مع كل طلعة شمس وضمور قمر.
فمن راهن على بقايا منطق إنساني وحسب أنه قد ينتصر في أروقة مؤسسة باتت تعمل كطاحونة تطحن كل حَب مبارك وتذيب كل حُب يؤلف، فهو في حكم الغافل، ربما سيصحو مع اللطمة القادمة، ساعة لن تسعفه شهقة ولن تستشفع له صرخة ولن يفيده بكاء.
ومن قامر على أن في الكنيست بقيت أكثرية يهمّها ماذا سيقول "العالم" عنّهم، يهودًا أحفاد الكوارث والضربات والوصايا، فهو أعمى لم يلحظ أن ذاك العالم صار خرافة وخرقة وأن الكنيست تعرف أن إذا كان هذا الكائن موجودًا فهو حاميها وليس عزوة للعربان الذين شتتهم الريح ونثرتهم ككثبان رمل عاشت حبيباتها منذ عصر البوادي، بتنافر وإيلاف في ربع عالم كان منذ ولد خاليًا، وكان سرابه أحلاماً.
إنها كنيست لا تنام إلا على عهد ووعد، تنقضّ على فرائسها مدمنةً لتروّضها أو لتؤذيها، ذلك ما أن يحرك راعيها عقلة في سبابته أو رجفة من أحد حاجبيه. فهم، هكذا يؤمنون، قد انتخبوا من أبناء شعبهم المختار وأوكلوا، بصكوك ربّانية ومن السماء، بمهمة إيصاد جميع المنافذ وسد الطرقات علينا، نحن المواطنين العرب في البلاد، وبوضع حجر الرخام البارد على قبر ذلك الحيّز الذي أتاح للإنسان الحرّ، في هذه الأرض التي رنّختها القداسة، أن يحيا على ضفة الحرّ الآخر ليبقى ماء الحياة بينهما جار والسماء شاهدة بريئة، والطير فوقهما سانح وسابح، والبرق ومّاض، والموت مستأخر وإن كان هو على الجميع دين مستحق وساخر.
ولكن، ولئن كان قرار الكنيست متوقعًا سيبقى ما حصل خطيرًا واليوم يومًا مشهودًا أسود وممضّا. فالقانون المشرّع يلغي، في الحقيقة، معنى العملية الانتخابية من مضمونها الفعلي، ويتيح لأعضاء كنيست إمكانية إلغاء عضوية عضو منتخب بشكل مباشر بأصوات مواطنين أصحاب حق الاقتراع، في وقت يعرف فيه الجميع أن سهام هذا القانون موجهة حصرًا، في هذه المرحلة، للأعضاء العرب.
نتيجة التصويت في ذلك اليوم كانت، على الرغم من كونها متوقعة، مقلقة ومستفزة ومثلها كان ما قيل من على منصة الخطباء في حق أعضاء الكنيست العرب، لا سيما في حق رئيس القائمة المشتركة، النائب أيمن عودة، فطبقة التحريض انهالت صوبه محشوة سمًا ومضامينه فهمت، حتى عند الأغبياء، كدعوة لهدر دم سافر لأيمن ورفاقه، يينما بقي صراخ بعض المهاجمين كطنين النواقيس الكبيرة حين تعلن عن اقتراب الخطر. لقد كان الهجوم العنصري كاسحًا ومباشرًا، ولأنه كذلك من المفروض أن يقض نوم كل من شاهد أو سمع أو قرأ فذبذباته ما زالت تتطاير في الفضاء وتعلن، باسم النار، وبدون خجل: ها أنا قادمة لأشعل بيوتكم وساحاتكم حرائق.
بعد كل ما سمعناه نعود ونؤكد، مرّة أخرى، أننا نسمع حشرجات نظام حكم تسلّم فيه بقايا ديمقراطية عرجاء روحها وتلفظ أنفاسها بتسارع قد يصير من المستحيل إيقافه أو حتى إبطاؤه.
إننا نشهد ولادة إسرائيل جديدة، يهودية زرقاء، وهي الأقرب إلى ممالك يهودا والسامرة، كما جاءنا التاريخ بأخبارها، وكما زفتها إليه أجنحة الأساطير وألسنة الخيال الجامح؛ إنها إسرائيل التي ستنسى لغة الكلام، والسيف سيستبدل في أيدي ناسها القلم، والسكاكين محايات، والقوانين بيكارات من رصاص وورق، والمحاكم تفرم العدل كالبرّايات وكالمقاصل. إننا نعيش في زمن الفاشية.
على أثر ما جرى في تلك الجلسة الصاخبة قرأنا بيانًا نشرته القائمة المشتركة، وفيه أكدت: " أن التحريض الدموي السافر الذي شنه، عضو الكنيست آفي ديختر، على رئيس القائمة المشتركة، النائب أيمن عودة، إفلاس أخلاقي وسياسي.." ودانت القائمة بشدة، " التحريض العنصري المتطرف .." وطالبت المستشار القضائي للحكومة " الإيعاز بفتح تحقيق جنائي ضد ديختر، بتهمة التحريض على القتل" وأضافت: "أن ديختر سقط لقاع التحريض الخطير، وأباح دم النائب أيمن عودة.." وشددت: "على أنها تواصل النضال ضد الاحتلال والفاشية والعنصرية والكراهيةـ ومن أجل الديمقراطية والمساواة والعدل الاجتماعي للشعبين".
لن يضير أحد أن تؤكد المشتركة على ما أكدت عليه وأن تدين وتطالب وتشدد.. ولكن هذا لا يرقى إلى جسامة ما يتفاعل أمام أعيننا. إنه بيان مكرّر شبيه بعشرات البيانات السابقة التي صيغت ونشرت باسم المشتركة كبيانات تضامن واسناد معنوي مع زملاء النائب عودة عندما هوجموا في وقائع سابقة، وهي بيانات تعكس عمليًا قسطًا من القصور في ابتكار وسائل عمل سياسي ناجعة وبرامج مجابهة مؤثرة من شأنها أن تخترق الحصار المضروب علينا وهي بيانات قد تؤمن للقيادة فرص اللجوء الروبوتي إلى مغارة الضحية المعتدى عليها لتنزوي هناك وتمارس ما تتقنه الضحايا ضعيفة الرؤية وعديمة الرؤى: الثغاء والانتحاب بكل نوتات السلم الخطابي العربي الذي أورثنا إياه أجدادنا عبر تاريخ الانكسارات الحديثة المتلاحقة من زمن بلفور ومن تلاه من زرافات "البلافرة" الكثيرين. إنها الفاشية يا أخي
إدانة ما جرى في الكنيست هو من باب أضعف الايمان، لكنه فعل لن يؤدي إلى صد أية ضربة يمينية قادمة ولن يمنع الهجمة القاسمة التي حتمًا ستأتي ولن تتأخر، حتى بعد أن أدانت ما جرى، بديبلوماسية خجلى، الوزيرة السابقة تسيبي ليفني، ومثلها فعل يتسحاك هرتسوغ حين وصف القانون على أنه: "قانون خطير يهز الديمقراطية الإسرائيلية ومرفوض من أساسه".
فنحن نرى بحدقات عيوننا المتعبة، كيف وقادتنا يدينون ويشجبون ويشددون ويؤكدون، تمضي قوافل هؤلاء العنصريين مهرولة نحو صدورنا وخبطات بساطيرهم تهدر قاب فشخة من أصداغنا. فالبيانات قد تكون ضرورية لاستجراع قطرة من معنويات تائهة، والتهديد بكيلنا لصاعهم بصاعين قد يكون مفيدًا في حروب الردع الوهمية، واستهواء البكاء على أطلال خرائب كانت ذات يوم صروحًا من كراماتنا وعزنا، لن يثرينا بمعلقات مزركشة عصرية، ولا برهط من الشراح الأكابر. فنحن نغرق في وحل الفاشية.
إنه زمن يستصرخنا، نحن عرب هذه الأرض، وينادينا: كفوا عن استمناء أوهامكم وارتجال رجاءاتكم الخاوية. أتركوا دفاتركم العتيقة وابحثوا في قواميس العصر على معاني جديدة للنضال، فحين تعدون أنفسكم وأولادكم بصد الفاشية لن يكفي لصدّها أو لعرقلتها بيانات من ورق ملون لا تزن في موازين النضال أكثر من وزن ريشة مشكوكة في تاج ملك هندي أحمر يبكي عرشه المهزوم ..
إننا بحاجة الى الخروج من كل قوالب الماضي وشعاراته العقيمة، فالوضع خطير ويستدعي الاعلان عن حالة من الطواريء، والعمل على وضع خطة إنقاذ شاملة.
ومن أجل ذلك على رئيس لجنة المتابعة ورئيس المشتركة، برأيي، أن يعملا معًا بشكل فوري من أجل تشكيل مجلس إنقاذ مؤلف من ٤٨ عضوة وعضو، على أن يكونوا من الشخصيات المشهود لها بالمكانة الفكرية العلمية والنزاهة الكفاحية الوطنية وسداد الرأي، والمعروفة بتجاربها الحياتية العصرية المميزة، والقادرة على وضع تصور واقعي مهني يرسم حدود الخطر الذي نواجهه، وقادرة، كذلك، على وضع خطة عمل كفاحية وواقعية من شأنها أن تدرأ ذلك الخطر، وليس بالضرورة أن تكون جميع المشاركات والمشاركون في هذا المجلس أعضاءً منضويين في حزب سياسي قائم أو حركة دينية أو سياسية ناشطة.
لن أسهب في تفاصيل الفكرة وسأبقيها هكذا للنقاش، ولكنني أقترح أن يكون المشاركون المختارون لعضوية المجلس، على قناعة سياسية كاملة بأن الخطر الفاشي المتنامي في إسرائيل هو أول المخاطر التي تواجهنا ومكانته هي الأولى في رأس سلم الأولويات النضالية وهي التي ستستلزم كل طاقات العمل الشعبي والجماهيري والكفاحي.
كذلك على من سيشارك في ذلك المجلس أن يؤمن بأن الجماهير العربية لوحدها، ومهما توحدّت، لن تنجح في ايقاف ذلك التدهور الفاشي ، بالمقابل، قد تفلح في صد مخاطره إذا تضافرت جهود العمل في ثلاث ساحات أو جبهات بشكل متداخل ومتكامل : بين الجماهير العربية في البلاد، وداخل المجتمع اليهودي وأمام الرأي العام الدولي وبالأخص الغربي منه.
فالاعلان عن حالة طواريء أمر الساعة، وتشكيل مجلس للإنقاذ هو ضرورة ملحة. والبقية تأتي..
[email protected]