المؤمن للمؤمن كالجسد الواحد
*لا مكان في الدين، كل دين، لأن الحق لا يتعارض مع الحق، لمن يدعو إلى التكفير والفرقة والبغضاء والخلاف والفتنة والعصبية، فقد ورد أن "الفتنه نائمة لعن الله من يوقظها"! كذلك "ليس منا من دعا إلى عصبية"!*
نسمع، من حين لآخر، أقوالاً أو نرى أفعالاً، لا تليق بصاحبها، ولا بنا كأفراد ومجتمع وشعب واحد، أقوال وأفعال غريبة عنا، وعن عاداتنا وتقاليدنا التي نعتز بها ونفتخر، ناهيك بأنها تتنافى مع روح الدين وتعاليمه، لا سيما ونحن نعيش في عالمنا المعاصر في القرن الحادي والعشرين، عصر الانفتاح والتطور والحداثة والتقنية والمعلوماتية والإنتاج الفكري والصناعي، الخ... فالإنسان العاقل الحكيم، كما يُفترض، لا يتسرع بأفعاله ولا بأقواله، فلا يطلق الكلام على عواهنه بدون حساب، إنما من الحكمة أن يتفكر في كلّ كلمة، ويتروَّى قبل أن يقولها، يعرضها على العقل أولاً، يدرس نتائجها مسبقًا، فإن رأى فيها خيرًا للمجتمع ونفعًا للناس أرسلها، وإلا فلا! لا حاجة بنا إليها، لما فيها من مخاطر جمة علينا جميعًا! وما ذلك إلا تفاديًا لما يمكن أن ينجم عنها ما لا تحمد عقباه! فمثل تلك الأقوال أو الأفعال قد تُسبّب الإيذاء والإساءة والضرر لمشاعر الآخرين، ومن ثَمّ تؤدي بنا إلى هدر للطاقات في غير مواضعها، مثل العنف الكلامي المضاد، الذي قد يتبعه عنف جسدي، وما يؤدي ذلك من شحن في الكره الأعمى، والحقد المقيت، بدل الترابط والتآخي والمحبة، فلكل فعل رد فعل! ذلك بأن الكلمة الطيبة "كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء"! فلنتكلم في العلم، وفي واقعنا وأمور حياتنا، وندعِ الغيبيات جانبًا!
لم يعتبر الإسلام مصيبة أعظم، عنده، من مصيبة تعطيل العقل، وعدم استعماله! ومصيبتنا أعظم مصيبة لأنها في "علمائنا" لا سيما لدى من كان من أصحاب الدرجات العلمية، أو المناصب الدينية أو الاجتماعية! لأن مسؤوليتهم مضاعفة، فليحذروا ويحاذروا في أقوالهم وأفعالهم! العلماء الحقيقيون هم ورثة الأنبياء، في مكارم أخلاقهم، وبالدعوة إلى فعل الخير، إذ قال "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"! بشروا ولا تنفروا، كذلك "الدّال إلى الخير كفاعله"! وإفشاء السلام، وصلاح النفوس، وفي حفظ حرمة الإنسان وكرامته، مؤمنًا كان أو غير مؤمن! فلماذا يتم تعطيل العقل إذًا؟! والغريب في الأمر أن آباءنا وأجدادنا، لم يكونوا من أصحاب الدرجات العلمية أو المناصب الدينية، بل بالكاد كانوا يفكون الحرف كما يقال، لكنهم على الرغم من ذلك، نجحوا حيث فشل بعضنا، إذ لم تكن تستطيع أن تتعرف على أحدهم، في البلد الواحد، لأية طائفة أو مذهب أو فكر ينتمي!
تأسيسًا على ذلك، وبدافع من المسؤولية والواجب الوطني والديني والأخلاقي والإنساني، نرفض وندين مثل تلك التصريحات أو السلوكيات المنافية حتى لروح الدين نفسه، ولحقائق تاريخ شعبنا وأمتنا كذلك، والتاريخ، لا أنا، يشهد على ذلك. وعلى كل ذي عقل ووعي بيننا، ومن يحترم كرامة الإنسان أولاً، وكرامة الأديان ثانيًا، كل من موقعه، أن يرفضها، بصريح العبارة ومن دون لف أو دوران. لأن مثل تلك المواقف المترددة أو المتلعثمة، هي التي يمكن أن تدفع بكثيرين من بيننا إلى التطاول والتمادي على الآخرين. فلا مكان بيننا لمن يلغي الآخر، أو لمن تسول له نفسه أن يكون مشبوهًا أو مأجورًا! ولا لمن يتشاغل أو يشغلنا أو يحرفنا عن قضايانا الجوهرية والمصيرية! يجب أن نعلنها بأعلى صوت: ارحمونا! كفى كفى إلى هنا!
ما هو معلوم، في عالمنا اليوم، أن القضايا الخلافية موجودة حتى داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد، كذلك هو واقع الأمر بالنسبة للأديان والمذاهب، لكن العقيدة والأصول متفق عليها لدى الجميع! إنما الاختلاف، إن كان ثمة اختلاف، فهو على الفروع، وقد ظهر في الإسلام غير مذهب، منها المذاهب الأربعة المعروفة، وقد ورد في الأثر: اختلاف الأئمة فيه مصلحة للأمة! فالاختلاف والتعددية، ظاهرة طبيعية وصحية بنفس الوقت، ومعلوم أن الإسلام شجرة واحدة تفرعت إلى فروع شتى، هي الفِرق. فليعبد كل ربه كيفما شاء، وحسب طريقته وطقوسه التي يشاء! علينا تقبل الآخر حتى ولو كان مختلفًا! نتقبله كما هو "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا"! ذلك هو معنى الوسطية أي الاعتدال الذي في الإسلام! فلم لا يُطبّق روح هذا الكلام؟!
تقولون إن النبي العربي تاج على رؤوس البشرية جمعاء، وأنا أقول: كذلك هم سائر الأنبياء والمرسلين "لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ"! فهل تُطبَّق تعاليم الدين كما يجب؟! وهل تطبق تعاليم النبي قولاً وعملاً؟ ألم يقل نبي الرحمة "مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؟! يقول "مثل المؤمنين" أجمعين، ولم يقل مثل المسلمين فقط؟! وإلا ما معنى "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"؟! كلام في غاية الوضوح. والعاقل من يعتبر!
من هنا، لا مكان في الدين، كل دين، لأن الحق لا يتعارض مع الحق، لمن يدعو إلى التكفير والفرقة والبغضاء والخلاف والفتنة والعصبية، فقد ورد أن "الفتنه نائمة لعن الله من يوقظها"! كذلك "ليس منا من دعا إلى عصبية"! الفتنة مرفوضة ومنبوذة، وملعون من يوقظها، والرفض للفتنة بالمطلق! ولا حاجة بنا لتخريج قاصر هنا، أو لاجتهاد مغرض هناك، غير علمي وغير موضوعي، في سياق مختلف، لتبريرات واهنة واهية، هذا تفسير فيه تزييف وتحريف للكلام عن مواضعه، وبالتالي فهو مردود ومرفوض جملة وتفصيلا!
يقول الصوفي العلامة ابن عربي في جواهر كلامه على الدين القويم دين الحب، الذي يتسع لكل العقائد، من الوثنية إلى الإسلام إلى اليهودية والمسيحية:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توج ركائبه فالحب ديني وإيماني
فلا ينصّب أحدكم نفسه، بعد اليوم، وصيًا على الإسلام والمسلمين، ولا على الإيمان والمؤمنين، فللبيت رب يحميه وللدين، كل دين، رب يقيه! واللافت والغريب أن ظاهرة التطاول والتجريح، لا نجدها سوى بين ظهرانينا نحن المسلمين، كل يوم نسمع ونقرأ عن فبركة فتاوى أو تفوهات ما أنزل الله بها من سلطان، منها التكفيرية، ومنها إرضاع الكبير، ومنها جهاد النكاح، ومنها نكاح الميتة، والحبل على الجرار! نكفّر بعضنا بعضا، ونكفّر اليهودية، ونكفّر المسيحية، ونكفّر الصين، ونكفّر الروس، ونكفّر الهند، ونكفّر العالم بأسره! إنَّ أخشى ما نخشاه أن يكون العكس هو الصحيح! من خوّلكم ومن أعطاكم الحق، بتوزيع الشهادات وصكوك الغفران أو التكفير، على الآخرين؟! هلا تذكرتم "فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"!
من حقنا، لا بل من واجبنا أن نسأل ونتساءل: هل لديكم توكيل من أحد؟! وكيف تجرؤون على محاسبة الآخرين؟! من أين لكم ذلك التطاول وتلك الجرأة على الآخرين؟! دعوا الحساب لصاحب الحساب! الإسلام ليس عبادات دينية وطقوسا شكلية فقط، ولا بإطلاق اللحى ولا بالمظاهر ولا بكثرة الكلام، الإسلام بالجوهر لا بالمظهر! الإسلام عمل وإخلاص ووفاء للعباد وللبلاد قبل كل شيء. لقد كثر اليوم بيننا "العلماء" ومنهم، للأسف، من لا يحسن حتى قراءة القرآن، لا نطقًا ولا فهمًا، ولكنهم يتجرؤون على الدين، ولا يقيمون وزنًا ولا حرمة لأي قيم! ولا يراعون حقوق الناس! "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده"! كذلك "الدين حسن المعاملة"! هذا هو روح الإسلام الحق، كما علمنا إياه نبي الإسلام!
نأمل أن تكون الحادثة الأخيرة مجرد هفوة لسان أو كبوة جواد، عرضية كغيمة صيف عابرة وانقشعت، ولا حاجة لأن تخرج الأمور عن إطارها أو حجمها، ومن دون أية مزايدات، ولا يستقوي بعضنا على بعض، حتى تحل مكانها أجواء المحبة والتسامح والأخوة والوعي. وبذلك نفوِّت الفرصة على المتربصين، ولا نفسح المجال للعابثين، أن يتصيدوا في المياه العكرة. فنحن، في هذا الوقت العصيب بالذات، أحوج ما نكون إلى المحافظة على اللحمة الوطنية، وتماسك نسيجنا الاجتماعي، فالكمال ليس للبشر!
بقلم: د. محمد خليل- طرعان
[email protected]