من منكم يتذكر اسم محمود الرمحي؟ ذلك الطبيب الفلسطيني الذي ما زال يدفع ثمن إيمانه ووهمه بأن العالم سعى، حقيقةً، في العام ٢٠٠٦، من أجل رفعة فلسطين وسلامة أهلها، وما كان عليهم إلّا أن يحسنوا التصرف ويختاروا، كما تختار شعوب العالم المتحضرة، قادتهم وقباطنتهم ليقودوهم إلى بر السلامة وإلى المستقبل الآمن المضمون.
"حرّية بثلاثين كلمة"، كان عنوان تلك الخاطرة، التي نشرتها قبل ثلاثة أعوام، وفيها أخبرتكم كيف قضى ثلاثة من قضاة العدل الإسرائيلي، وقرروا بثلاثين كلمة فقط رَفْض التماس قدمته في حينه باسم محمود، وقرروا أنٌه فلسطيني خطير على أمن وسلامة الجمهور، فهو، ومن خلال موقعه أمين سر المجلس التشريعي الفلسطيني وقياديًا في قائمة "التغيير والاصلاح"، يعمل لمصلحة حركة "حماس" ومن أجل تعزيز مكانتها بين الجمهور الفلسطيني.
لمحمود قصة طويلة تشبه حكايا ابريق الزيت الفلسطيني. بدأ فصلها الحالي، حين قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله وعشرات من زملائه مباشرة بعد انتهاء الانتخابات التشريعية التي جرت في محافظات فلسطين المحتلة في العام ٢٠٠٦. قدّمت بحقه لائحة اتهام، وعلى كونه منتخبًا عن قائمة "التغيير والاصلاح"، التي اعتبرتها اسرائيل، بعد نجاحها في الانتخابات ذراعًا لتنظيم "حماس" (على الرغم من قبولها متنافسة شرعية قبل النتائج). حكمت محكمة عسكرية إسرائيلية بسجنه فعليًّا لمدة ثلاثة وثلاثين شهرًا. ثم قامت إسرائيل باعتقاله مجددًا، في أكتوبر ٢٠١٠، وأعلنت عنه أسيرًا إداريًا. لم أنجح في معاركي القضائية العديدة، فالمحاكم الإسرائيلية أبقته أسيرًا إداريًا حتى شهر تموز عام ٢٠١٢.
أفرج عن محمود ليبدأ ترميم حدائق عمره، فعاد إلى أحضان زوجته وأولاده الخمسة وإلى عمله طبيبًا في رام الله. لكنّهم لم يتركوه، فهم يحترفون إجهاض الفرح. جاءوه في ليلة باردة من كانون الأوّل عام ٢٠١٢، وانتزعوه من حضن الدفء. أصدروا بحقه، مرّةً أخرى، أمر اعتقال إداري لستة أشهر ما زالوا يجدّدونها، والحجة، أنه بقي فلسطينيًا يكره الاحتلال ويحب شعبه ووطنه أكثر.
لا أعرف لماذا عدت مجدّدًا إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية؟ وهي التي لم تنصفني طيلة ثلاثة عقود من عملي أمام قضاتها المتعاقبين. مئات القضايا خضتها أمام معظم هيئاتها، وفي كل مرّة كنت أجتهد وأوظف ما تيسّر لي من حِكَم تاريخ القمع ومشاهد من مسارح العبث. كانوا يسمعونني، أحيانًا على مضض، وأحيانًا بشهية تميّز أبناء حضارة "قبة السماء".
طالما ذكّرتهم، كذلك، بما كتبه بعض زعماء دولة إسرائيل، من أمثال يتسحاك شمير ومئير شمجار وغيرهما، من الذين كانوا "ضحايا" للاعتقالات الإدارية الأولى زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين الكبرى، وكيف وصف هؤلاء الضحايا همجية "الإنجليز" للجوئهم إلى هذه الوسيلة ولا انسانيتها ووحشيتها!
لم يسعفني الجد ولا تشبيه حالي بحال "دون كيخوته" الذي حاربت رماحه طواحين الهواء، ولم تسعفني الاستعانة، أحيانًا، بقصص "قراقوشنا" التي أضحكتهم، فأصغوا إليها بلهفة، فقد تعلموا منها، وأبكوني.
سمعوا مني كثيرًا عن حكايا جدتي، وأحبوا ترديدها الموزون لحكمة أيوب: "الصبر يا مبتلي واللي ابتلى يصبر"، فبطبيعة الحال هم أحفاد أيوب وخبراء بفقه الوجع والاصطبار. ولكنهم تفاجأوا ببعض الأشعار التي كنت أختار أن "أطعّم" كلامي بها، وذلك لإدخال بعض المرح، وأحيانًا لأعيد لهم يقظةً، بعد أن كنت أشعر، من طريقة إلقاء رؤوسهم إلى الخلف أو باتجاه الطاولة أو لأحد الجانبين، أنني أفقد إصغاءهم؛ أفلا يكفي أنني سأفقد القضية؟
غالبًا ما وجدتهم يجهلون كيف أقسم شاعر/ إنسان منا ومن الناصرة تحديدًا: "أن يعطي نصف عمره لمن يجعل طفلًا باكيًا يضحك"! ومرّة، هكذا أذكر، دهشوا، حتى أني خفت من أن يغمى على واحد منهم، حين عرفوا أن فلسطينيًا اسمه "أبو سلمى" مات وهو مطمئن:
"أن البلابل لما تزل هناك تعيش على أشعارنا"
بعد أن أنهيت مرافعتي، سألني أحدهم، أين تقع "الهناك" التي تغنى بها هذا الشاعر؟ فقلت، أظنني "بقلبه"، فصمت وبدا عليه بعض الحزن، أو ربما كانت تلك علامات قلق.
لماذا عدت اليوم إليهم ولم يقبلوا مني حجّة وذريعة؟
هم دائمًا انتصروا لأسطورة الأمن وغلّبوها على كل دمعة أو وجع أو جرح فلسطيني.
لماذا عدت وأنا أمام إجراء وُلد "مخصيًا" منذ البداية، فكيف له أن ينجب عدلًا وأبناءه؟
المهم، أنني عدت اليوم ولاحظت، لأول مرة، أنني بدوت كبيراً وهم أصغر مني. اليوم شعرت أنهم منتوجات من صناعة إسرائيلية خالصة، عقولهم مصبوغة بالأزرق والأبيض، ولا يحلمون بالزنابق البيضاء ..
وقفت وطمأنتهم أنني لن أطيل عليهم، فقصة هذا الفلسطيني شبيهة بكل قصص الفلسطينيين التي تابعوها كمسلسل، تحافظ فيه الأبطال على أدوار الصدارة، والضحايا فقط هي التي تتبدل.
طلبت على عجالة أن أسمع منهم نصيحة قد تؤدي وتضمن حرية موكلي، فهو لن يحب الاحتلال، ولن ينضم للبيت اليهودي ولا الى مجموعات تدفيع الثمن. وهو عربي فلسطيني مسلم يعتز بهذه الولاءات والهوية ولن يبدّلها، فما العمل؟
بعد دقائق من حيرة، اقترحت عليهم مخرجًا، ونصحتهم بأن يفرجوا عن موكلي بعد هذه الشهور الطويلة، ويمهلوه بضعة أيام، وبعدها يصطاده صاروخ ذكي تقذفه "أباتشية" جميلة، وهكذا سيضمنون، أن لا يبقى خطرًا يهدد أمن وسلامة الجمهور.
أغضبهم اقتراحي بوقاحته. بسرعة وبتلقائية استجرت بـ"شكوى الضفدع" وصحت:
"كلامي إن قلته ضائري/ وفي الصمت حتفي فما أصنع"
وأردفت شارحًا الكلام، فتعلموا عن فكاهة العرب وحذاقتهم، وكيف تكون الشكوى إذا سيقت مجازًا، على لسان ضفدع، حكمةً أو نهفةً، فاطمأنوا..
لم أنتظر قرارهم، محمود لم يكن حاضرًا ومحظور على عائلته دخول القدس، تركتهم، فمثلي لم يعد ينتظر المفاجآت.
بقلم: جواد بولس
[email protected]