في زمننا هذا، وما أقساه وأعقده من زمن! أصبحنا مدمنين على الخيال، نتهرب من الواقع لأنه أصبح شديد المرارة.
نأتي إليها، هي الحياة بشحّ حلوها وغزارة مرها، بلا شيء، ثم نترك كل شيء، نقاتل، نعادي، نجادل، نتّخذ مواقف، نضحّي بالغالي والرخيص من أجل كل شيء، غير معتبرين أن الساعة آتية لا ريب فيها، وسنرحل، نترك كل شيء ولا نأخذ شيئًا. هذه الوضعية والمعادلة المركبة، تجعلني أحاول مغادرة أفكاري المبعثرة والمثقلة بالهموم إلى محطة الضياع ببطاقة ذهابًا بلا إياب، لتكون المحطة الأخيرة، أمكث فيها وأنتظر حكم القضاء والقدر، أسمع موسيقى حزينة تستوطن روحي الموجوعة، تبكيني بصمت مطلق ألمًا، أسفًا، دهشة، لوعة، تمردًا لعلّ وعسى أنال قسطًا من الراحة من هذا الزمن الغدار العصيب العجيب، فيه الرخيص يتظاهر بالعزة والشجاعة، الجود والكرم الطائي، الخائن والخدّاع، ناكر المعروف يتحدّث بكل وقاحة وثقة عن الوفاء والتضحية، والملون يحاور في الأصول والمنطق، هذه الفئة من الأفاعي لا صديق لها.
آه كم يحز في قلبي أن أكون بصحبتها بسب الظروف، وكم عملت جاهدًا للابتعاد عنها عبثا.. وهنا يحضرني قول الفيلسوف وليم شكسبير، عندما قال: "عندما يصبح البحر ساكنًا يصبح الجميع بحارة ماهرين "، والمقولة الشهيرة:
"لا تأسفن على غدر الزمن لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب
لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها تبقى الأسود أسودا والكلاب كلاب".
نعم، علمتني الحياة أن لا أنتظر أحدا ينير لي عتمتي، بل أسعى جاهدًا لأنيرها بنفسي، فحتى ظلك يتخلى عنك في الظلمة ...!
نصمت ونتجاهل، ليس لأننا لم نرَ، بل لأن القلب اكتفى واكتوى مما رأى، فكن كالحياة فيها الناس معادن، لا تجعل الناس تندم على معرفتك، إنّما تندم على خسارتك! رافق الجميع ولا تتمسك بأحد، فالنفس الطيبة لا يملكها إلّا الشخص المتزن الطيب ودمث الأخلاق! نعم، يبقى الماء ماء ولو قدمته بكأس من بلور أو بكأس من فخار، فكل من حلّل الألماس اكتشف أن أصله فحمٌ!!
[email protected]