أثارت قضية شمل أسماء بعض المواطنين العرب المحتجزين في سجون إسرائيل ضمن صفقات التبادل مع حركة حماس، نقاشات ساخنة وتباينات في مواقف من تطرقوا اليها. ولقد شارك في ابداء الرأي حول هذه القضية عدة أطراف ومؤسسات، برزت منها، مواقف "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في اسرائيل"، وبعض جمعيات المجتمع المدني، واهمها ما صدر عن "عدالة - المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل" وبعض الحقوقيين والشخصيات العامة المهتمة بهذا الشأن .
لقد ركّز جميع المتحدثين على خاصية الأسرى، لا سيّما الأسيرات اللاتي اعتقلتهن قوات الأمن الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر بشبهات التحريض والاخلال بالنظام، ولم تدنّ في المحاكم الاسرائيلية بعدُ؛ فحذّر مركز عدالة، من خلال تصريحات مديره، المحامي حسن جبارين، جميع الأسرى ونصحهم بكلام حاسم أن يرفضوا فرصة الافراج فهذا أمر: "ممنوع منعا باتا" كما قال وعلّل موقفه بالمخاطر التي ستلحق بهم وبمستقبلهم؛ فاسرائيل، برأيه، قد تقدم على سحب جنسيتهم بمقتضى قوانينها العنصرية، وعلى عقوبات أخرى ستعتمد على مفاهيم قادتها لمسألة "الولاء المواطنية" وما تفرضه على مواطنيها العرب من استحقاقات؛ بينما، أضاف، لن تتعدى فترة حبسهم ، في حالة ادانتهم، مدة عام فحسب. ثم انضم محمد بركة ، رئيس لجنة المتابعة، الى التحذير المذكور ، لكنه نصح الأسرى بأن يقوم كل واحد/ة منهم باستشارة محاميه حيال هذه المسألة، مبقيًا لكل واحد/ة منهم حرية الاختيار، بما يعنيه ذلك من تحمّلهم، كل بدوره، مسؤولية قراره. أما الحقوقيون والشخصيات الذين سئلوا عن موقفهم في هذه المسألة فلم يجمعوا على رأي موحد واختلفوا، كما كان متوقعا.
ليس غريبًا أن يترك هذا المشهد، الذي تداعت تفاصيله في أعقاب قرار حركة حماس، حالة من الالتباس والبلبلة بين المواطنين؛ ومردّ ذلك، ببساطة، الى امتناع القيادات المزمن عن مواجهة القضية الأم رغم اهميتها، ونأيهم عن معالجة أصولها الحقيقية، واكتفائهم بالتوقف، مثل هذه المرة، عند نتائجها العارضة وحصرها في حالة الافراج المقترح عن عدد من الاسرى الذين اعتقلوا بعد تاريخ السابع من اكتوبر. وكأنه لا يوجد في سجون اسرائيل مواطنون أسرى ومدانون من فلسطينيي الداخل من المتوقع أن يشملوا في صفقات تبادل قادمة مع حركة حماس.
يبدو أن مواجهة هذا الاشكالية وحصرها بالمواقف التي استعرضناها آنفا كان أسهل الخيارات على الجميع، ووفّر لهم بديلا عن تعريفها كمعضلة/ديليما سياسية حقيقية تستوجب، على مستوى المبدأ، مناقشة صحة مطالبة حركة حماس، أو غيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، الافراج عن أي من المواطنين العرب في إسرائيل، المحتجزين كأسرى أمنيين في سجونها. فلا يكفي وليس من الصحيح تناول هذه القضية وفق معاييرها القانونية كما تناولوها وحسب، تاركين وراءهم فرصًا لتساؤلات عديدة. فهل التمسّك بحقيقة عدم إدانة الأسير/ة يُعدّ سببا كافيا لاتخاذ أي موقف إزاء قرار الافراج ضمن صفقات التبادل ؟ وهل إذا جاء طلب الإفراج، ضمن صفقة تبادل، أسبوعا بعد ادانتهم مثلا، لكان موقف من عارضوه قبل الادانة سيتغير ؟ وهل إذا كانت مدة الحبس المفروضة أصلاً على الأسير المطلوب المحتجز قبل السابع من اكتوبر، مدة قصيرة، او المتوقع فرضها عليه قصيرة، او الفترة المتبقية على الأسرى الذين قضوا فترات متباينة في أسرهم قصيرة ولم يتبق للافراج عنهم الا القليل ، هل في جميع هذه الحالات ستتخذ نفس المواقف؟
حاولت في الماضي تسليط الضوء على اشكالية تأثر قاموسنا السياسي المحلي ببعض المصطلحات والحالات الوافدة علينا من ساحات المقاومة في فلسطين المحتلة، فتطرقت حينها الى ما درج البعض بيننا على تسميته "بالحركة الوطنية الأسيرة في الداخل". اليوم سأعيد طرح هواجسي حول هذا الموضوع لارتباطه باشكالية الصفقة المذكوره وكي أؤكد مجددا على أننا كمجتمع عربي في إسرائيل نعاني، أكثر من الماضي، من مخاضات معيشتنا في كنف ثنائية وجودية هوياتية ملتبسة أحياناً ومضطربة بالعادة؛ فلسنا متصالحين مع مواطنتنا العرجاء ولا موحدين على وطنية عصماء.
من الواضح أن لقضية تضمين أسماء أسرى مواطنين عرب في إسرائيل ضمن صفقات التبادل، أكثر من بُعد وأكثر من عامل وقد يوجد بينهم تنافر وتضارب وصدام.
ففيها البعد الفردي الخاص بكل أسير وأسيرة وما يتبعه من حقوق وواجبات وخيارات يحدّدها الأسير بنفسه وتجاه عائلته ومجتمعه، حتى يصبح هو في هذه الحالة مسؤولًا عن خياراته ومستعدًا لدفع ثمن قراراته منذ لحظة شروعه بالفعل حتى أسره وبعده. وهناك البعد القانوني الذي يتجند أصحابه للدفاع عن حرية الأسير وحماية حقوقه وإسداء النصيحة القانونية له كمواطن إسرائيلي خاضع للقوانين حتى العنصرية منها بطبيعة الحال. وهنالك البعد المجتمعي العام والمصلحة العامة التي قد يغفلها الأسير تماما أو قد لا يعطيها الأولوية في اختياراته، فعندها تصير هذه المسؤولية عهدة في حضن قيادات المجتمع ومؤسساته السياسية والقانونية والمدنية والنخبوية.
لا أعتقد أن تغييب النقاش السياسي حول قضية مفهوم وتبعات وجود "حركة اسيرة وطنية" في الداخل، ولا تغييبه عن قضية شمل المواطنين العرب في إسرائيل قيد صفقة مع حماس، قد وقع من أجندات قادة مجتمعنا سهوًا، بل هو دليل عن وجودهم في أزمة وتخبطهم أمام موقف حركة حماس التي يخاطب قادتها أبناء مجتمعنا من فوق رؤوس قيادييه مباشرة.
لإسرائيل دوافعها في الموافقة على ضم بعض من مواطنيها العرب لصفقة ترعاها حماس؛ ولحركة حماس مصلحة سياسية أن تظهر كراعية لمصالح جميع الفلسطينيين، وبضمنهم المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وذلك وفق فهم الحركة لطبيعة الصراع في منطقتنا ولسعيها، كحركة سياسية إسلامية، الى التخلص من الاحتلال الإسرائيلي وإعتلاء سدة الحكم في دولة أو كيان إسلامي شامل، يعتمد قانون وحدة الجغرافيا الإسلامية.
لقد سوّغ معظم من أفتوا بخطورة تبعات شمل الأسيرات في صفقة حماس مواقفهم باللجوء الى قواميس القانون وبالرجوع الى فقه المنافع والأضرار العائدة على الأسرى انفسهم. وعلى النقيض منهم فقد رحّب البعض بقرار حركة لدوافع إنسانية أو سياسية يمكن اختزالها بشعار "هكذا يكون التعبير عن وحدة الجغرافيا الفلسطينية".
"وحدة الجغرافيا الفلسطينية" شعار لافت يستحق المناقشة الجدية لما يحمله من أبعاد وجودية وتأثير على حاضرنا وعلى مستقبلنا، خاصة في ظل المتغيّرات السياسية الراهنة على الساحتين الاسرائيلية والفلسطينية، وفي ظل غياب دور القيادات التاريخية لمجتمعنا، وبسبب استشراء حالتي الضعف والتشتت داخل الأطر الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني. إن هذه الوحدة المتخيلة كانت عمليًا وراء اطلاق المصطلح "الحركة الأسيرة في الداخل" وهي بلا شك تسمية ملتبسة، تستوجب التوقف عندها وتفكيك مغازيها. لقد توقفت عندها في أحد مقالاتي السابقة فكتبت حينها: "تشغلني قضية استعمال وانتشار مصطلح «الحركة الأسيرة الوطنية في الداخل»، وذلك لما تعنيه هذه التسمية وتعكسه من مضمون يتعلق بمكانتنا القانونية، نحن الجماهير العربية في إسرائيل، وما هو تأثير هذه المسألة على مستقبلنا، لا سيما في عصر الحكومة المرتقبة. تحاكي هذه التسمية عمليا نظيرتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث أسس الأسرى الفلسطينيون في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، ما اصطلح على تسميته «الحركة الأسيرة الفلسطينية»... التي كان وما زال افرادها يقاومون من أجل كنس الاحتلال وإزالته عن أراضيهم المحتلة. لا أتصور أن غالبية من يردد هذه التسمية ويطلقها على مجموعة الأسرى من العرب في إسرائيل يعي حقيقة ما تعنيه وما هي انعكاساتها على ذهنيات الناشئة في المجتمع، وما يترتب عليها من مواقف سياسية خاصة بين الأحزاب والحركات التي تتبنى هذه التسمية. لقد لفتت هذه المسألة انتباهي عندما سمعت قائدا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي يتحدث في احد المحافل عن ضرورة وجود «حركة أسيرة وطنية»، تتبوأ مهامها في سبيل التحرير والاستقلال، وتكون مستعدة لدفع أغلى الأثمان والتضحية بالأنفس.لقد ترك حديثة المستمعين في حالة من التباس والبلبلة كانت ولا زالت تحتاج إلى توضيح وإلى حزم، على الأقل من قبل قادة حزبه" لقد كان هذا صحيحا قبل اربعة اعوام وصار اليوم ملحًا.
علينا مواجهة هذه المسائل الاشكالية بجدية وبجرأة وبمسؤولية لا عن طريق الارتجال الانفعالي أو ردّات الفعل العارضة أو بالاعتماد على اجتهادات قانونية، هي رهينة لأطرها المؤسساتية ولحريات عملها المحدودة. ولا على حساب معاناة الأسرى وحرّياتهم، وبعد مراعاة مواقف ورغبات عائلاتهم ضمن سائر المعطيات وفي سياقها العام ووفق تعقيدات واقعنا الراهن. فمواطنتنا ووطنيتنا كانتا، منذ انتهاء رحلة الهجيج الاولى، لعنتينا وبركتينا اللتين لا تنفصمان.
يتحدث البعض باسم "وحدة الجغرافيا الفلسطينية" وآخرون باسم "وحدة الجغرافيا الاسلامية" وتبقى الأكثرية صامتة رغم اننا نقف أمام حالات طارئة مفروضة على واقع إسرائيلي مأزوم الى حدّ الانفجار؛ فإذا استمرّ هذا السكوت، ستقف القيادات قريبا، والناس كذلك، أمام معاضل ومواجهات ليس من الصعب تصوّرها ..
[email protected]