كان لقائي الأخير بمرسيل خليفة في مدينة عمّان قبل ثلاثة أعوام. حينها وقف على مسرح مهرجان جرش الجنوبي وغنّى، بعد أن حيّا محمود درويش، صديقنا الباقي كالنبض بين ضلوعنا، فأبكى وأفرح وأرقص آلافًا من عشاقه جاؤوه على صهوة اللهفة والأمل، طوابير تهرول خشية أن تفوتهم تنهيدة واحدة من صدر حارس الأصالة الأمين. تواصلنا في زمن الكورونا وبعدها، لكننا لم نلتق.
كنت في بيتي عندما تلقيت مكالمته وفيها أخبرني أن "نادي هلال القدس" دعاه ليشارك في احياء حفل خيري يقيمونه في عمان بتاريخ 2022/8/26 دعمًا لأطفال وأيتام المدينة. أحبَّ أن يطمئن مني عن هوية النادي والداعين، وليؤكد على ضرورة حضوري الى عمان للمشاركة في هذا الحدث.
أحسست بفرحه وكيف كان يشعر في تلك اللحظات؛ فهو عندما سمع بلفظ القدس وهي تهيب به، صار سيلًا من رعد وكتائب برق تستقدم الأيام بشوق طافح وتنتظر الساعة كي يمطر فارسها سماء بهية المدائن بالورود ويملأ قلوب أهلها بالنور والحب والعواصف. تواعدنا على أجمل عهد.
وصلنا عمّان في ساعات الظهيرة. تعانقنا، فعصر صدرانا أنفاسَ الشوق. تبسمنا. لم أنطق بكلمة. كنت بحاجة لبعض الصمت كي أداري عجقة الندى في عيوني. لاحظت أن حزنه المخبأ في تقاسيم وجنتيه صار أكبر من قبل، وأن ضوء عينيه تائه بالبعيد؛ لكنه بقي مرسيلنا، الشامخ بتواضعه والدافيء ببسمته الخجولة. كنت أود أن أخبره كيف كنا، أنا وابناء جيلي الطلاب في الجامعات، نتحلق، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حول مسجل صغير وندس في حلقه شريطًا كان صاحبه يحرسه كطفل ويخاف عليه من التأذي؛ وكيف كنا نغني مع العاصفة، ونتيه على "زنود ريتا" ونخبىء هوياتنا في حيطان الذاكرة؛ لم ننم من النشوة لأنه كان معنا وكنا مثله. لقد كان مرسيل في ذلك الزمن، يوم كان الناس يعبدون رب المقهورين والفقراء والبؤساء والمحبة والعدالة والسلام، أيقونة زرعها الثائرون على الظلم والودعاء في صدورهم، وسكروا على بخورها في جميع الميادين. حينها كانت أناشيده تمائم ومطارق، وأعواده مقاصل ومناجل. أحببناه لأن قبضاته كانت قبسًا ينير عتمة العشاق.
لوهلة وددت أن أبوح له أن تلك القدس، قدسه وقدسنا، التي كانت تحتضننا بشغف وبشهوة، رحلت في شرايين الشرق النازفة ودُست سبية في أغماد الغاصبين؛ لكنني لم أقل شيئًا، إذ تذكرته وهو يمشي في أزقة المدن وشوارعها حاملا عوده على ظهره ومطرقا في الأرض، أم المقامات، فنظرت في وجهه وسمعت عينيه تقولان لي: تذكّر .. عوده صليبه، وهذه القدس التي لا مكان فيها، كما كتب قبل يومين فقط، "للمتعدّد إلا في الخيال الخصب حين يجمح..في القدس ما يجرح الحقيقة في حقيقتها، ويُدبر عن المقيّد. للمتعدّد مجازٌ شعري في الحارات، في دروب لا تغلق ألافق على سلّم لتسلّق الحكاية حتى آخر نوتة مطرزة بحرير يبلله غمام القيامة". إنها ما زالت قدسه التي من "حجر شحيح الضوء فيها تندلع الحروب"، وتولد في أفيائها العزيمة أو الهزيمة.
أنهينا طقوس استعادة "العادي" بيننا حتى أوصلنا الحديث، بسرعة متوقعة، إلى مأساة وفاة صديقنا الشاعر جريس سماوي، ابن مدينة الفحيص، الذي راح ضحية لجائحة الكورونا بعد أيام من رحيل أخيه سليم لنفس السبب، وفي ظروف عبثية مؤلمة. اتفقنا، وقد صرنا ثلاثة بمجيء صديقنا طلال قراعين، وهو عنوان آخر للوفاء والاخلاص، على أن عمّاننا هذه المرة ناقصة صديقًا نقيًا مخلصًا كريمًا، كان يلقانا، في كل مرة جئناها، بحفاوة وبدفء وبدماثة غامرة.
قررنا أن نبدأ نهارنا من طريق الوجع، وأن نتحرّك نحو بيت جريس وسليم سماوي في الفحيص ونقدم واجب العزاء لزوجة سليم ولابنه فارس. من الصعب أن ننسى ما سمعناه هناك من منى، زوجة سليم، حول ظروف رحيل الاخوين، وكيف قضيا في المستشفى من دون أن تودعهما العائلة، ودفنا في المقبرة من غير طقوس أو مشاركة أحد. كانت تفاصيل الرواية محزنة ومخيفة وقاسية، وذكّرتنا بفصول رواية "العمى" للروائي العالمي جوزيه ساراماغو، فاصبنا بالخرس. سمعنا الأسى يسيل من روح زوجة كسيرة وعرفنا ألا عزاء لها إلا في مستقبل ابنها فارس وفي صدر حنين مؤجل وفي نعمة النسيان. جلسنا أمام قبرين توأمين تظللهما أشجار السرو. كان الصمت في المقبرة "سماويًا" فلم نبك لأننا، هكذا يبدو، أدركنا أن الدموع، في مثل هذا الموقف، ترف جنائزي مستهلك، وأمّا الحكمة، التي فتشنا عنها في اختيار السماء، وجدناها مدفونة في التراب.
عدنا الى بيت العائلة. وقفنا في شارع سمّي على اسم الشاعر الراحل "جريس سماوي"، الغائب جسدًا والحاضر في أشعاره التي على الجدران المحاذية للشارع. فقرأنا من شعره عن إحدى أمنياته تقول: "أعدني إلى أوّل الكون ، حيث الندى نيّء، والجبال عجين ، وروحي هلامية لا تجف. أعدني.. أعدني إلى الله روحًا ترِفّ".
كنا محبطين و بحاجة إلى شيء مختلف، فرجعنا إلى طريق القدس، حيث "الموسيقى هي الوجع الشديد ترفع الروح عن المألوف وتأخذنا إلى القريب البعيد" ، كما أعلن مرسيل مخاطبًا العالم قبل الاحتفال.
أراد الجميع أن ينجح الحفل ليس لأن ريعه سيكون من نصيب أطفال القدس وحسب، بل لأن القدس كانت هي عنوانه؛ هكذا كان يردد المحامي ضياء شويكي، رئيس نادي الهلال المقدسي المبادر لاقامة الحفل، ومثله أيضًا راعي الحفل النائب خليل عطية، وطاقم مساعديه. كانت الأعصاب مشدودة والقلق باديًا على وجوه المنظمين إلى أن حان وقت رفع ستائر المسرح، فحينها تبين أن أكثر من ثلاثة آلاف شخص قد احتلوا مقاعدهم في القاعة ولبوا نداء "هلال القدس" رغم جميع العوائق والصعوبات والأخطاء التي برزت خلال العمل على تنظيم الاحتفال .
افتتح الحفل ضيف الشرف الشاعر والاعلامي زاهي وهبي، المصاب، هو أيضًا، بحب فلسطين، والمعروف بمناصرته العنيدة والدائمة لقضاياها ولحقوق شعبها، والذي حضر من بيروت خصيصًا ليدعم القدس وأهلها وليشاركهم همهم وأحلامهم. قرأ زاهي ثلاث قصائد من قصائده الجميلة والمناسبة لاجواء الاحتفال فاستقبلها الحضور بالتصفيق وبالهتاف، ثم دعا بعدها، صديقه مرسيل إلى المسرح وقدّمه للحضور كي يبدأ وفرقته برنامج الليلة.
ما أن ضرب مرسيل بريشته على وتر عوده وأغمض عينيه وبدأ بترتيل "بغيبتك نزل الشتي" ضجت القاعة، وكأنّ سدًا قد خلع ليندفع منه سيل هادر؛ ثم فجأة ساد السكون. مضت لحظة بعدها أحسست بسخونة طفيفة تسري على خدي ثم شعرت بها تقف على طرف شفتي.لم يكن ذلك بكاءً، لكنه كان ماء الطرب.
غنّى مرسيل من جوّاه بعاطفة مميزة وكأنه يقف على أسوار القدس. أنا لا أبالغ بل أقول هذا لأنني سمعته من قبلُ في عشرات المسارح والمدن والمناسبات حيث كان يعطي أجمل ما عنده ، لكنه في ليلة القدس كان مختلفًا؛ فالى جانب ايمانه بقدسية فنيّ الابداع الموسيقي والغناء، وهما في عرفه رسالتان انسانيتان خالدتان، حضرت في وجدانه القدس التي كان يحلم فيها لتكمل في تلك الساعات جميع المعاني المنسية والمنهكة في قاموس الكرامة العربية. لقد أخرجها مرسيل من تحت رماد الاحتلال كجمرة الروح وغنّى لها كيلا تنطفيء مهما قست عليها الأيام وخانها الاخوة وتمادى على لحمها الاعداء.
لم يكن توظيف مرسيل في المؤتمر الصحفي الذي سبق الاحتفال لاستعارة كونه "في الطريق إلى القدس"، مجرد استرسال بياني أو تعبير نزق؛ فقد صرح بذلك متعمدًا وطلب منّا أن "ننظر في مرآة العيون فنرى القدس تختال بين القصيدة والأغنية". فمرسيل، مثل كل المبدعين الصادقين، يعرف أننا نعيش في زمن الثرثرة الخاوية والحماقة والتفاهة، ولذلك رأيناه يتوجه إلى أطفال القدس وشبابها المؤمنين بالعمل وبالابداع وبالعطاء قائلًا : "ارتفعوا عن الثرثرة السياسية التافهة في الصميم، واظهروها كما هي في خيانتها"، ثم ربّت على أكتفاهم وقال لهم : "انتم الوطن بلا علم وبلا نشيد، وجودكم في قلب الموسيقى اعتراف صريح بطقس التحرير..". إنني على قناعة بأنه قصد ما كان يقول واختار اغانيه خدمة لذلك الهدف، فلما ألهب القاعة بنشيد "إني اخترتك يا وطني" كان عمليًا يدق على أبواب القدس، وعندما صلّى لأمه كانت أمهات القدس تزفّ نبضات قلبه، وحينما وقفت القاعة على ساقيها تردد وراءه "شدّوا الهمة" كاد هو أن يطير إلى هناك ليصرخ من باب عامودها: "يا أهلنا في غزة، في الضفة، في فلسطين نحبكم ! من يستطيع أن يغني وهو يعيش الموت؟". من يفتش عن جواب لهذا السؤال كان يجب أن يسمع عازف البيانو الرائع، رامي خليفة، وهو يهدي "القدس" قطعة من مجد السماء.
كنت أراقبه وأخاف على أضلعي أن تتكسر؛ فأمامي كان ذلك المرسيل الذي تحلّقنا حول صوته قبل خمسة وأربعين عامًا، وحملناه أيقونة في أحلامنا وتميمة في ضياعاتنا. كانت ليلة مقدسية بامتياز .
في الغد، لم أجد أجمل مما قاله مرسيل لمن فتشوا عن خلل في المشهد وحاولوا، كعادة مثبطي العزائم، أن يقللوا من شأن الحدث أو ينتقدوا القائمين عليه، فجوابه لجميع هؤلاء وغيرهم كان "قليل من الأمل يكفي كي يمحو جبلًا من الياس". ما أجملك!
ودّعته، كما في المرة السابقة، وأنا لا أعرف إن كنت سأرجع ثانية إلى عمّان وتساءلت: يا فرحنا هل تدوم ؟
لم أنظر إلى الوراء، لكنني تخيٌلته يدندن هناك في وسط الردهة: "وجدنا غريبين يومًا .." ومضيت أفتش عن قدسي . فالى لقاء أيها الصديق.
[email protected]