كتب - جواد بولس
تتوقع معظم استطلاعات الرأي محافظة القائمة المشتركة على قوتها الحالية في البرلمان الاسرائيلي. ويعتبر البعض ذلك انجازًا، خاصة في ضوء استمرار حملات التهجم عليها من جهة الأحزاب الصهيونية ومؤسسات دعايتها المضادة والموكلة بالتشكيك في شرعية القائمة وفي مصداقية قادتها وفي نجاعة مواقفهم لمصلحة ناخبيهم وقضايا المواطنين العرب في اسرائيل.
سيبقى نجاح حملات تلك القوى الصهيونية ضد القائمة المشتركة محدودًا وقابلًا للدحض وللتفنيد؛ بيد أن استعداءها من قبل مراكز قوى عربية محلية والتهجم عليها، تارة من قبل وكلاء سياسات الدولة الداخليين، وتارة أخرى من قبل جهات لا تؤمن بحاجتنا، كمواطنين في الدولة، للاشتراك في انتخابات البرلمان الصهيوني - سيبقى هو العامل الأكثر تخطيرًا على قوة القائمة وعلى امكانية بقائها في ميدان العمل البرلماني الاسرائيلي.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد من مخطط قادة أحزاب اليمين الصهيوني بالقضاء على جميع الأحزاب العربية الناشطة بين المواطنين العرب، وذلك عن طريق رفع نسبة الحسم إلى مستوى لا يستطيع أي حزب عربي تجاوزها لوحده. ورغم سوء نية الحكومة الاسرائيلية فقد تبيّن، من باب لا تكرهوا شيئًا عساه خير لكم، أن قرارها المذكور قد أتاح عمليًا فرصة نادرة لتغيير نمط العمل السياسي القائم، منذ عقود، بين المواطنين العرب والمعتمد على البنى الحزبية التقليدية؛ اذ بات بمقدور قادة الأحزاب ومؤسساتها الانتقال إلى العمل المشترك من خلال بناء جبهة سياسية عريضة تضم جميع القوى السياسية التي يستطيع قادتها التوافق على برنامج سياسي واضح يستهدف، أولا وأخيرًا، التصدي لسياسات الحكومات الاسرائيلية تجاه مواطنيها العرب والوقوف مع شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.
لم تستطع الأحزاب والحركات السياسية بناء القائمة على أسس الشراكة الجبهوية التنظيمية الضرورية؛ فاكتفى قادة مركباتها الأربعة - الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب التجمع الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير ، والقائمة الاسلامية الموحدة - بالاتفاق على خوض معركة الانتخابات بقائمة واحدة، لا بسبب خوفهم من عتبة الحسم القانونية وحسب، بل استجابة "لارادة الجماهير" التي كانت في شوق الى العمل الوحدوي ولمّ الشمل في واقع سياسي خطير ومرير، وذلك حسب ما صرّح به قادة القائمة قبل تشكيلها، وتباهوا فيه بعد أن حصدت القائمة خمسة عشر مقعدًا في انتخابات العام 2015 .
لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والنشطاء السياسيين، فاتّهم بعضهم قادة الأحزاب بالتصرف الانتهازي الذي من شأنه أن يؤدي إلى شلّ العمل الحزبي نهائيًا واغراق المواطنين في حالة العزوف السياسي المنتشرة بشكل مقلق وواضح بين المواطنين؛ بينما تمنى الآخرون على قادة تلك الأحزاب أن يتصرّفوا بنضوج وبمسؤولية أكبر ، من أجل بناء إطار تنظيمي جامع ومتين يكون، في هذه المرحلة، الأداة السياسية العصرية القادرة على تصميم وهندسة مفاهيم نضالية جديدة تتلاءم مع جميع المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي.
لم يحصل هذا، واعتقد أنه لن يحصل رغم انسلاخ القائمة الموحدة الاسلامية عنها؛ فالقائمة المشتركة ولدت وبقيت في غرفة الانعاش؛ ولا يعكس تردد أزماتها الداخلية، حقيقة كونها وعاءً سياسيًا غير ناضج لمواجهة واقعنا المستجد، ولا وسيلة غير كافية تنظيميًا لمواجهة سياسات الدولة وأمراضنا الاجتماعية الذاتية فحسب، بل هو مؤشر، جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها المواطنون العرب في اسرائيل.
قد يدّعي البعض أن تكرار المعارك الانتخابية في السنوات الاخيرة، بوتائر غير مسبوقة في اسرائيل، شكّل عائقًا أمام قادة القائمة المشتركة ومؤسسات أحزابهم، ومنعهم من دراسة تجربتهم وتقييمها بشكل معمق، ومن التوصل إلى خلاصات ومخرجات تمكنهم من تطويرها نحو ما أمّل منها. قد يكون ذلك صحيحًا، ولكن واقع تلك الأحزاب البائس وأمراضها المزمنة تبقى شواهد على عجزها عن تطوير هياكلها وتحديث برامجها السياسية وهذا يشمل جميع تلك الاحزاب - خاصة ما يدور في دهاليز الجبهة الديمقرطية وهي أكبر وأعرق هذه الأحزاب - التي لم يشعر قادتها، للأسف، بما سببه ويسببه قصورهم، من نشر أجواء عدمية الانتماء السياسي، وما خلّفته هذه الحالة من محفزات خطيرة ومحبطة، ساعدت على تفكيك اللحمة الاجتماعية داخل مجتمعاتنا، وعلى تنامي مظاهر العنف والتطاول والتحدي، التي بتنا نراها وهي تعبث في أمن مواقعنا وسلامة "قلاعنا" وتفسد ما كنا نعتبره محرمًا سياسيًا ومرفوضًا اجتماعيا.
أتمنى أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في التوصل إلى بناء قائمة مشتركة قوية، فأزمة القائمة المشتركة كما عاشها المواطنون في السنوات الأخيرة، أكّدت بوضوح وعرّت أحد أعراض الأمراض الخبيثة التي تتغلغل في جسد مجتمعاتنا، وهو غياب "مؤسسة القيادة" الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة التجربة والأثر، والمستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية. انها أخطر ما يؤثر على حياتنا؛ وهي الحالة التي أدت، في نهاية المطاف، الى تقزيم مكانة "لجنة المتابعة العليا" والى تشويه وتحييد دور "اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية" وغيرها من التنظيمات التي كانت من المفروض أن تشكل كيان المجتمع المدني القوي والمتين.
لن يختلف اثنان على ان السياسات العنصرية الاسرائيلية حاربت، منذ البدايات، جميع محاولات انشاء المؤسسات القيادية العربية الوطنية، وسعى أصحاب تلك السياسات، بالتالي، إلى افشال تلك المؤسسات الرائدة او لنزع الشرعية عنها، او لخلخلتها من الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فلقد فشلوا ونجح القادة الاباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بانشاء "لجنة المتابعة العليا و"اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية"، اللتين تحولتا، الى جانب سائر المؤسسات المدنية التقدمية والأحزاب والحركات الوطنية، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت راياتها ويلتزمون بحدودها. لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية ومطعّمة بمضادات قوية كانت تصد كل جسم غريب وتوقفه عند حده.
واليوم، كما نرى، فلقد خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر حتى بتنا نتمنى أن ينجح الساسة ببناء "قائمة مشتركة" حتى لو كانت عرجاء ومنقوصة. فعقالنا آمنوا بالحكمة الشعبية "نزازة نازلة ولا نهر مقطوع".
ولا يمكننا طبعا ان ننهي الحديث عن المشهد السياسي الحالي من دون أن نتطرق لنداءات مقاطعة الانتخابات؛ سيان إن جاءت النداءات على خلفيات عقائدية، قومية أو اسلامية، أو لأسباب سياسية لم أسبر كنهها ونجاعتها في معظم الحالات.
من الواضح أن الكثيرين ينادون بالمقاطعه عن ايمان بمواقفهم، ويبررونها أمام أنفسهم والغير، برضا وبقناعة كاملين، ولا ينادون بها بسبب معارضتهم لمبدأ الاندماج، كما يسمونه، وحسب، ولا من أجل اقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة اقصاءً يحلم به عتاة اليمينيين العنصرين؛ ولكن ستبقى ذرائعهم محض مغامرة سياسية أو وهمية أو مجرد اختيار للأسهل، إلّا اذا زوّدونا بتفاصيل خياراتهم السياسية العملية المعلنة والواضحة، التي من شانها أن تكون بديلًا للنضال البرلماني، مهما كانت نتائجه ومنجزاته محدودة. فالمقاطعة لوحدها واعتماد تكتيكات ردود الفعل الموسمية لن تشكل برامج كفاحات كفيلة بالتصدي لسياسات الحكومة الفاشية القادمة بنجاعة أكبر مما نحن عليه اليوم.
على من يتخلى عن خيار النضال البرلماني المتاح له طوعيًا، أن يواجه جماهيره ببدائله العملية؛ فتحويل جميع الناس إلى مؤمنين مسيسين في حركة دينية سياسية، قد يعدّ إنجازًا لقادتها، لكنه لن يفضي إلى القضاء على سياسات اسرائيل القومية العنصرية أو عليها ككيان متسيّد في المنطقة.
أولم يعلمنا السلف فوائد بعض القطران وضرورته ؟! كذلك فإنّ عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهويني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام اسرائيل وسياساتهم؛ لا بل على العكس تماما.
لقد قلنا ونكرر ان الشعوب المقهورة عرفت خلال مسيراتها النضالية خيار مقاطعة مؤسسات الدولة الاستعمارية او العنصرية، وسلكت طرقًا نضالية اخرى منها العنيفة ومنها السلمية، مثل أساليب العصيانات المدنية.
فهل ينادي قادة التيارات الدينية والقومية الى جانب مقاطعة الانتخابات بمثل هذه الأساليب؟
لنسمع ونفهم ونناقش ..
[email protected]