تنفس بنيامين نتنياهو الصعداء عندما أسفرت نتائج انتخابات الكنيست الرابعة عن تراجع حظوظ صديقه اللدود وشريكه العنيد أفيغودور ليبرمان، وخسارته لتمثيله الفاصل في تشكيل الحكومة، فقد أرهقه في الدورات الثلاثة السابقة، وأعجزه في مفاوضات تشكيل الحكومة، وأعياه في شروطه المستحيلة ومطالبه المكلفة، مما أفقده أكثر من مرة فرصة تشكيل حكومة يمينية مستقرة بالتعاون معه، وقد كان بإمكانه تقديم بعض التنازلات البسيطة، والقبول بالشركاء من الأحزاب الدينية لتمكين حكومته من الانطلاق بسهولة، ولكنه كان عنيداً في مواقفه، ومصراً على شروطه، وغير عابئٍ بالنتائج المترتبة والعقبات المتوقعة، التي قادت إلى إعادة الانتخابات للمرة الرابعة.
لكن فرحة نتنياهو بضعف ليبرمان، وفقدانه لبطاقة المساومة الرابحة، لم تَدُمْ طويلاً، إذ ما كادت تنفرج أساريره فرحاً وهو يراه يطأطئ رأسه وينزوي جانباً، ويخفت صوته ولا يفرض نفسه، حتى خرج له نفتالي بينت، الصبي الذي رباه على يديه، وكبر في داره، وشكل له بنفسه إطاره الحزبي وائتلافه الديني، وتأهل في ديوانه، واشتد ساعده في حكومته، وهو الذي لا يحبه ولا يثق به، ولا يراه شريكاً يمكن الاعتماد عليه، أو كفوءً يمكن الوثوق فيه، أو منافساً يخشاه ويخاف منه، فضلاً عن أن زوجته ساره تكرهه وتسعى للانتقام منه، وهي وإن نسي زوجها اساءاته القديمة بحقها، فهي تذكره بها وتحرضه عليه.
لكن نفتالي بينت ببيته اليهودي وائتلافه اليميني شب على طوق نتنياهو، وتجاوز نظرة الصبينة التي يتهم بها، وعقدة الاستخفاف التي يعامل بها، وأدرك أنه أصبح الكتلة الحرجة في الكنيست، فوقف بأعضاء ائتلافه السبعة أمام نتنياهو نداً مساوياً، وخصماً منافساً، وعقبةً تعترض طريقه وتعقد مهمته، وتعرقل إجراءاته، ورفع سقفه السياسي، وبالغ في طرح شروطه، فوضع فيتو على نتنياهو إزاء القائمة العربية الموحدة "راعام"، واشترط عليه عدم إلحاقها بائتلافه، وعدم الاعتماد عليها في دعم حكومته من داخلها أو خارجها على السواء.
لم تقتصر شروط بينت على نتنياهو على شكل الائتلاف وأطرافه، بل طالب بالتناوب على رئاسة الحكومة، وتخصيص حزبه بعددٍ من الوزارات السياسية والأمنية الوازنة، وأن يكونوا ضمن الكابينت "مجلس الوزاري الأمني المصغر"، وألا يتخذ أي قرار يتعلق بالشأن الفلسطيني دون الرجوع إليه، وهدده بنبرةٍ يشوبها الغرور، في حال رفضه الخضوع لشروطه والاستجابة إلى مطالبه، فإن سيذهب إلى لابيد وسيتحالف معه، مستغلاً تصريحاته التي وافق فيها على التناوب معه على رئاسة الحكومة، واستعداده للتنازل عن المرحلة الأولى لصالحه.
ظن نفتالي بينت أنه في موقعٍ يسمح له بفرض شروطه وإملاء مواقفه، فماطل في تحديد مواعيد للقاء نتنياهو والاجتماع به، وحمل معه في اللقاءين الآخيرين شروطاً يعلم أن نتنياهو يعجز عنها ولا يقبل بها، وبقي محافظاً على العصا من الوسط، فلا هو حسم مع نتنياهو موافقةً أو رفضاً، ولا هو قطع مع لابيد تحالفاً أو قطيعة، وانتشى بالوسطاء من الطرفين، الذين يعرضون عليه امتيازاتٍ أكثر وشروطاً أفضل، فنتنياهو يغريه بالاستقالة بعد عامٍ من تشكيل الحكومة، ووعدٍ بألا يرشح نفسها لرئاستها بعد ذلك، بينما يغريه لابيد بأن يقدمه على نفسه رئيساً للحكومة، شرط أن يسميه بتكليف تشكيلها.
أمام صولة بينت غير المتوقعة، ونفشة ريشة غير المقبولة، يحاول نتنياهو صده وإضعافه، وإظهاره أمام حزبه وائتلافه أنه كاذبٌ مرواغٌ، وأنه يخون اليمين ويتحالف مع اليسار ويخدع الجمهور، وأنه لا يفكر في مصلحة الدولة والشعب، بقدر ما يسعى لمصالحه الشخصية والحزبية، ويهزأ منه أمام العامة وفي وسائل الإعلام، ويتهكم عليه ويتهمه ويسخر منه، إذ صدق نفسه مرشحاً لرئاسة الحكومة، وهو الذي لا يحوز في الكنيست إلا على سبعة مقاعد فقط، ورغم تمثيله الضعيف وحضوره المحدود وتأثيره السطحي، فإنه يعلن أنه سيشكل حكومةً يمينيةً قويةً برئاسته، تكون قادرة على إخراج الدولة من أزمتها السياسية والصحية والاقتصادية.
لا يكاد نتنياهو يصدق أن مصيره أصبح مرتبطاً بنفتالي بينت، وأن مستقبله السياسي بات مرهوناً بقرارٍ منه، وأنه بكلمةٍ منه يستطيع أن يتوجه رئيساً للحكومة، وبغيرها قد يحرمه منها ويجعله في صفوف المعارضة، أو يعجل في خاتمته السياسية محاكمةً وحرماناً، وهو آخر ما كان يتوقعه أو يتخيله، فبعد أن كان يستخدمه مطيةً ويستعمله أداةً، ويأمره وينهاه، ويشكل له ائتلافه ويبني له كتلته، بات مضطراً للخضوع إلى شروطه والاستجابة إلى مطالبه، وتحقيق رغباته وإنجاز أمنياته.
يلعن نتنياهو نفسه ويندب حظه، ويلوم الظروف التي ألجأته إلى مخاطبة من لا يستحق وسؤال من لا يحترم، فقد نجا من ثورٍ هائجٍ وأحمقٍ غيورٍ، فابتلي بصبيٍ مأفونٍ، وغرٍ مغمورٍ، وكأنه كما تقول الأمثال العربية، هرب من المقلاة فسقط في النار، وغدا عاجزاً مع الثاني كما كان عاجزاً مع الأول، إلا أنه ما زال يأمل أن يستدرج بينت ويمنيه، ويخدعه ويشتريه، ويغريه بعظمةٍ مسمومةٍ كوزارة الحرب التي تسلمها شكلاً وخسرها فعلاً، ودوام فيها رئيساً وغاب عنها قائداً، فيسقط أمام قطعة الجبن، ويقع في المصيدة كالفأر، وحينها سيطرحه نتنياهو أرضاً ويتخلى عنه، لكن بعد أن يجرده ويحرمه، ويضعفه ويكسره.
[email protected]