جمع باستشهاده أطراف المجد كله، وسما إلى العلياء وحده، وطرق بشهادته الطبية أبواب الجنان العلية، وارتقى بشبابه درجاتها طبيباً، والتحق بركب السابقين من الشهداء والنبيين والصديقين شهيداً، وقد نسج بدمائه الطاهرة خيوط فجر الكرامة، وعقد بروحه ألوية النصر والنخوة، وأعلى بإقدامه معاني الغيرة والشرف والثورة والغضب، فكانت شهادته جامعة لكل معاني الخير وبشائر النصر، وتفيض بسيما المروءة والشهامة والرجولة والشرف، فحق له أن يمتاز بها ويختال، ويتفرد بها ويتيه، فقد ارتقى شهيداً في يوم الجمعة المبارك وفي نهاية عشر الرحمة من شهر رمضان الفضيل، في القدس الشريف ومسجدها الأقصى المبارك.
محمد خالد العصيبي شهيدٌ ليس كأي شهيدٍ، فقد جمع من الصفات والخلال ما لا تجتمع في شهيدٍ واحدٍ، فقد قتله اليهودُ، أعداءُ الله ورسوله والمؤمنين، قتلةُ الأنبياء والصالحين، المحتلون الغاصبون المعتدون، الصهاينة العنصريون الفاشيون، الذين يحتلون أرضنا، ويقتلون أهلنا، ويشردون شعبنا، ويعتقلون أبناءنا، ويدنسون مقدساتنا، وينتهكون كرامتنا، ويسلبوننا حقوقنا، ويصادرون أرضنا، ولا يتوقفون عن ارتكاب المجازر الدموية ضدنا، ولا ينهاهم عن أفعالهم الخبيثة خُلُقٌ أو قانونٌ، ولا دولةٌ أو نظامٌ.
وقد قتلوه غيلةً وغدراً، وفتحوا عليه النار حقداً وغيظاً، وأطلقوا عليه عشرين رصاصةً إمعاناً في الكره والضغينة، وكأن رصاصةً واحدةً لا تكفي لقتله، رغم أنه كان قريباً منهم، وعرفوا أن الرصاصة الأولى أصابته واستشهد، لكنهم رأوا فيها شباباً وحيويةً، وقوةً وإقداماً، وشجاعةً وعنفواناً، وغيرةً وغضباً، وساءهم أن يثور لامرأة، وأن يغضب لأجلها، وأن يهب لمساعدتها ورد الظلم عنها، وفض جمع الجنود الذين تكاثروا عليها، وأمعنوا في التضييق عليها والإساءة إليها.
صب جنود الاحتلال عليه جام غضبهم وسواد قلوبهم، وفتحوا عليه فوهات بنادقهم، وكأنهم يواجهون جبهة ويقاتلون كتيبة، فقد عرَّى أخلاقهم، وكشف زيفهم، وأظهر عنصريتهم، وفضح حضارتهم، ودونية أخلاق جيشهم، وانحطاط مناقبية جنودهم، إذ يعتدون وهم جمعٌ كالقطيع على امرأةٍ مسالمة، لا تحمل سلاحاً ولا تهدد حياتهم، لكن جريمتها عندهم كانت أنها قصدت المسجد للصلاة، ويممت وجهها للأقصى تريد زيارته.
قتلوه بدمٍ باردٍ، وأعدموه عن قصدٍ ونيةٍ، وتكاثروا عليه واشتركوا في تصفيته، ثم كذبوا في روايتهم ليبرروا جريمتهم، والحرُ أبداً لا يكذب، يقول الحق ولو كان فيه حَزُ عنقه، لكنها أخلاق العبيد التي يرسفون بها قديماً وما زالوا، وشيم الغدر التي عليها نشأوا، إنهم جبناء يخافون، وأنذال يكذبون، إذ قالوا أنه حاول اختطاف مسدس أحد الجنود، مما عرض حياتهم للخطر واضطرهم لإطلاق النار عليه لتحييده، ولكن الشهود كذبوهم، والكاميرات التي سجلت ووثقت لطمتهم على وجوههم ودحضت روايتهم.
إنه شهيدٌ مميزٌ جامعٌ لطيب الخصال وحميد الخلال، إذ استشهد في مدينة القدس، وعلى أبواب المسجد الأقصى المبارك، وقد نوى الصلاة والاعتكاف في رحابه وباحاته، وعزم على الدفاع عنه أمام قطعان المستوطنين وصد محاولات اقتحامه، وهو الذي كان قلبه يتفطر وهو يرى المستوطنين يقتحمون المسجد، وينتهكون حرمته، ويدنسون طهره، ويحاولون انتزاعه من الفلسطينيين وحرمانهم منه، فقد هوى قلبه إليه، وتطلع إلى زيارته، وهو الغائب عنه بعيداً وطويلاً، إذ شغلته دراسة الطب وأبعده السفر، لكنه ما نسي أبداً أن أسراه حزين، وأن أقصاه أسير، وأنه جريحٌ يئن، وحزينٌ يشكو عجز العرب وهوان المسلمين.
إنه الشهيد الطبيب الشاب العائد إلى أرض الوطن بعد سنواتٍ قضاها يدرس ويتعلم، لكن الغربة لم تنسه وطنه، ولم تغربه عن قدسه، ولم تحرمه من الحنين إلى الأقصى، بل عاد إلى بلدته حورة وعيونه ترنو إلى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشد الرحال إليه مع لفيفٍ من أهل بلدته، الذين تعاهدوا ككل أهلنا في الأرض المحتلة، أن يكونوا حراساً للمسجد الأقصى وحماةً له، وأن يرابطوا فيه ويدافعوا عنه، فلبى النداء وشد الرحال وهو يمني نفسه بدخوله والصلاة فيه، وما علم أنه سيلقى ربه مدافعاً عن عرض فلسطينية، وسيضحي بحياته ذوداً عن شرف امرأةٍ وحياض شعبٍ.
إنه ابن بلدة حورة في النقب المنسي، الذي بدأ بن غفير عهده بزيارته، وشكل حرسه الوطني ليتغول عليه ويقمع سكانه ويصادر أرضهم، ويطردهم من ديارهم، ولكنه كما ابن النقب الشهيد محمد القيعان أراد أن يقول لسلطات الاحتلال ووزير أمنه القومي الجديد، أن سكان النقب جميعاً بدوٌ عربٌ أقحاحٌ، وأنهم مسلمون ملتزمون بدينهم ومتمسكون بوطنهم، وأنهم لن يتخلوا عن أرضهم ولن يفرطوا في حقوقهم، وستبقى عيونهم ترنوا إلى القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، فسلام الله عليك محمد، وسلام الله على أهل بلدتك حورة، وإلى النقب وبلداته، وإلى حوارة وبلدات نابلس وعموم فلسطين كل التحية والتقدير.
[email protected]